مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ... الظاهر أنّ الكلام حول كفار قريش لا الذين ظلموا من قوم عيسى عليه السلام المذكورين قبله فان ذكرهم انما كان في جملة معترضة ردّا على استشهاد قريش به عليه السلام وبقومه.

(هل ينظرون) اي هل ينتظرون. والاستفهام انكاري اي لا ينتظرون الا الساعة وهم بالطبع لا ينتظرون الساعة فضلا عن انحصار انتظارهم فيها فالمراد بيان حالتهم الواقعية التي هم غافلون عنها اي ان القيامة هي مستقبلهم الأكيد فكأنّهم لا يترقّبون أمرا الا قيام الساعة.

والساعة جزء من الزمان وتطلق على جزء قليل منه كقوله تعالى (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[1] واطلاقها على يوم القيامة باعتبار تحققه فورا وفي لحظة ولذلك يعبّر عن سبب تحققه بالنفخ في الصور او النقر في الناقور. وهناك يومان يطلق عليهما الساعة وكل منهما يتحقق بسرعة: يوم فناء العالم ويوم قيام الناس لربهم ولا يعلم ما بينهما الا الله. قال تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)[2] فأيّ اليومين يقصد بالساعة هنا؟

الظاهر أنّ المراد بها هنا يوم فناء العالم فإنه اليوم الذي يتوقعه الناس وتبغتهم وتأتيهم فجأة وهم لا يشعرون كما قال تعالى (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)[3] وأما ما تعقّبه من خصائص يوم القيامة فلا يستوجب ذكرها أن يكون هو المراد وإنما ذكرت هنا بلحاظ أنّ الانسان لا يشعر بالفصل بين اليومين بل حتى بالفصل بين يوم موته ويوم القيامة وقد ورد في آيات عديدة أن الناس لا يشعرون به كقوله تعالى (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ..).[4]  

وقوله (ان تأتيهم) بدل من الساعة اي ينتظرون أن تأتيهم الساعة والمراد بقوله (لا يشعرون) انهم غافلون عنها غير متهيئين لها. والمباغتة لا تستلزم الغفلة فليس تكرارا اذ ربما ياتي الموت فجأة ولكن الانسان متهيء له والآية تنبه الانسان ليكون متهيئا لقيام الساعة التي لا يعلم وقتها ولساعة الموت ايضا لأن الانسان اذا مات فقد قامت قيامته كما في الحديث.

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ... الاخلاء: جمع خليل من الخلة (بالضم) اي الحبيب والصديق فالمتصادقون والمتحابّون في الدنيا يتعادون في الآخرة مهما توسعت خُلّتهم وتعمقت حتى ان احب الناس الى الانسان يفر منه قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)[5] والسر فيه ان كلا منهم كان يساعد الآخر في ضلاله وفجوره وعصيانه ولكن جهلهم بواقع الحال كان موجبا لعدم انتباههم بانه يسعى في ضلاله وإنزال أكبر الضرر عليه. وهذا نظير من يقدم لصديقه المخدّر او المسكر او الدخان فانه يعتبره مع الجهل حبّا وودّا وصداقة فاذا تبين له مدى الاضرار اللاحق به علم انه لم يكن صديقا بل كان من أعدى أعدائه. وهكذا يظهر للانسان يوم القيامة حين تظهر حقائق الاشياء عارية ان كل من كان يساعده على ضلاله وفجوره او يسكت عنه فانما كان عدوّا له وان كان اباه او امه.

ومن هنا يتبيّن السرّ في استثناء المتقين فانهم لا يسكتون على المنكر من احد خصوصا اذا كانوا يحبّونه فربما يمتعض الولد من تشدّد والديه في سوقه الى الصلاة وتجنيبه ما يهواه من الشرور وربما يكنّ لهما حنقا وبغضا لذلك ولكنه حينما تبدو الحقائق يعلم انهما ارادا به كل الخير فيحبهما اكثر مما كان يحبهما في الدنيا. والله سبحانه للطفه بهم يزيل عن قلوبهم الاحقاد لتمتلئ حبا وودا وصفاءا قال تعالى (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).[6]

يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ... خطاب من الله جلّ جلاله يوجّه الى المتقين تكريما لهم، واي تكريم اعظم من اضافة العباد الى نفسه تعالى شأنه وأي نعمة اعظم من هذا الوعد الجميل (لاخوف عليكم اليوم ولا انتم تحزنون) اليوم هو يوم الخوف المطلق و الحزن الدائم اما عباد الله تعالى فهم بعيدون عنهما. والخوف يتعلق بالمكروه المحتمل والحزن على مكروه لا مفر منه ولا يصح ما يقال ان الاول يتعلق بالمستقبل والحزن بالماضي فان الانسان ربما يخاف من امر في الحال الحاضر ولكنه غير معلوم وهو يحذر من وجوده واقعا وربما يحزن من امر لم يحصل بعد ولكنه يحصل قطعا والناس الا من عصمه الله في خوف ذلك اليوم وحزن، خوف من عذاب يستقبلهم وحزن على ما فاتهم.

الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ... وصفهم بالايمان والاسلام والمراد بالاسلام هنا التسليم لامر الله تعالى الذي هو مرحلة أعلى من الايمان لا الاسلام بمعنى التشهد بالشهادتين الذي هو مناط ترتب الاحكام والحقوق الخاصة بالمسلمين ويصدق حتى على المنافق والذي ورد في قوله تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..)[7] والتعبير بانهم كانوا مسلمين يدل على الاستمرار اي ليست ميزتهم انهم اسلموا امرهم الى الله تعالى في موقف واحد بل كان هذا دأبهم وديدنهم وميزتهم المستمرة في كل موطن وموقف.

ولعل الوجه في تعليق الايمان بالآيات انهم لم يؤمنوا بالله فحسب بل آمنوا بكل آياته ومنها الرسل والكتب والاحكام فيكون ذكر الآيات للدلالة على ان ايمانهم بالله امر مفروغ عنه. وهذا امر دقيق فالايمان بالله تعالى وحده لا يكفي في انتفاء الحزن والخوف يوم القيامة بل لابد من الايمان بكل ما جاءت به الرسل من آيات واحكام ثم يكون الانسان مسلما نفسه في العمل بها والرضا والقناعة بمضمونها وهذا ليس امرا يسيرا فانا نجد كثيرا من المؤمنين اذا ابتلي بتكليف من الله تعالى يتعلق بالتضحية في سبيله بالنفس والنفيس لا يؤمن به ويحاول التكذيب والانكار فان لم يمكن واضطر الى التصديق فانه يكذبه في مرحلة العمل ولا يسلم نفسه لامر الله تعالى.

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ... (تحبرون) من الحَبرة بالفتح والحُبور اي النعمة فالمعنى تُنعمون وتُكرمون او بمعنى السرور اي تُسَرّون (بالبناء على المجهول). وقيل انه من الحبار بالفتح اوالكسر اي الاثر، والمعنى ان اثر النعمة بادية على وجوههم كما قال تعالى (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)[8] ولكنه بعيد لان الحبار ليس بمعنى اثر النعمة خاصة بل مطلق الاثر ومنه الحبر المستعمل في الكتابة فالاول هو الصحيح.

والمراد بالازواج نساؤهم المؤمنات في الدنيا وكذلك الازواج المؤمنون فان خطاب (يا عباد) لا يختصّ بالرجال. وهذه الآية من الآيات التي تشير الى الجمع بين المؤمنين وازواجهم في الجنة. والوعد بلمّ الشمل مما تكرر ذكره في الكتاب العزيز قال تعالى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..)[9] وقال تعالى نقلا عن الملائكة (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ..)[10] وغير ذلك. وقد مر الكلام حول هذه الآيات في تفسير سورة غافر وانها تدل على نوع من الشفاعة.

وقيل: إنّ المراد بالازواج الحور العين. وهو بعيد لانهنّ في الجنة فلا يُؤمرن بالدخول ولا يُبشّرن بالحبور.

يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ... بيان لتكريمهم في الجنة فيعامل معهم معاملة الضيوف المكرمين طيلة حياتهم الخالدة فهم على سرر متكئين متقابلين ويطاف عليهم بالمأكول والمشروب. والصحاف جمع صحفة وهي اناء واسع يؤكل منه وقيل انه يشبع خمسة رجال وحيث تورّعوا عن آنية الذهب والفضة في الدنيا اكرمهم الله تعالى في الآخرة فقدم لهم الاكل في أوان من الذهب. والاكواب جمع كوب وهو ابريق لا عروة له ولا خرطوم ويتداول في محافل الشاربين استعماله لادارة الخمر وملء الكؤوس منه.

وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ... اي تلذّه او تلذّ به الاعين وهي فاعل (تلذّ) وإسناد اللذّة الى العين تجوّز فان التلذّذ صفة الانسان بواسطة العين. قال الطبرسي رحمه الله: (لو اجتمع الخلائق كلهم على ان يصفوا ما في الجنة من انواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان الصفتان) والسبب انه لم يترك شيئا مما يمكن ان يتلذذ به الانسان او تشتهيه نفسه.

ولكن يقع السؤال في الفرق بين ما تشتهيه الانفس وما تلذ به الاعين فهل هذا من ذكر الخاص بعد العام ام ان هناك فرقا بينهما؟

الظاهر ان هناك فرقا فما تشتهيه الانفس لا بد فيه من احساس سابق وعلم به ولو اجمالا عن طريق الاحساس بما يشابهه في الدنيا كالماكولات والمشروبات ونحوها اذ لا يشتهي الانسان ما لم يذقه ولم يعلم خصائصه واما ما يتلذذ به الاعين فانه يشمل ما يمكن ان لا يكون له نظير في الدنيا من مظاهر الجمال والزينة التي تبعث بالبهجة في النفوس.

ثم ان ما تشتهيه الانفس يشمل كل ما يطلبه الانسان. ولكن يختلج في الخواطر بل يسجل في الصحف وحتى التفاسير سؤال وهو انه ربما يطلب الانسان شيئا مما تتوق اليه نفسه في الدنيا وهو امر سخيف بل ربما يكون من المحرمات ومن المخازي الذي لا ينبغي للمؤمن ان يطلبه او انه ينافي الطهارة التي هي من صفات اهل الجنة فهل يتحقق كل ما يطلبه اهل الجنة حتى مثل ذلك؟!

وقد ورد في بعض الروايات ذكر من يسأل: هل هناك جمل في الجنة؟ ومن يسأل: هل للمؤمنين اولاد؟ فان هذا ايضا مما يشتهيه الانسان خصوصا من لم يولد له في الدنيا. وقد ورد في الجواب ان كل ما يطلبه يحصل عليه وان الولد يتكون لمن اراده دون حمل وولادة ونحو ذلك. كما ان هناك اسئلة تدور على الالسن حول هذا الامر ومنها ان الله تعالى لم يذكر امرا خاصا بالنساء كما ذكر الحور العين وبشر الرجال بهن ونحو ذلك من الطلبات.

وهذا الامر لا يتوقف عند حد فلسائل ان يسأل: ان احب شيء لديّ هو الانتقام ممن ظلمني حتى لو تاب وآمن وعمل صالحا فهل يحصل هذا المؤمن على ما يطلبه؟ والجواب طبعا ان ذلك لا يكون والسبب ان الله تعالى يقول (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)[11] فحب الانتقام يزول عن قلبه بارادة من الله تعالى وتصفو القلوب وتطمئن النفوس.  

ومثل هذا يقال في سائر الموارد فان الانسان بعد تكامله وبلوغه أعلى مراتب الكمال والتقرب لدى الله تعالى تتغير مشتهياته وتتغير نظرته الى الكون فلا يشتهي هذه الامور التافهة. بل لايبعد ان يكون ذكر الفواكه ونحوها لتقريب المعنى الى الذهن وان النعمة هناك تختلف عما هنا في اصولها وحقائقها ولا تشبه شيئا مما هنا.

ولذلك يفرّق بين المقربين والابرار في كل شيء حتى الفواكه ففي سورة الرحمن مثلا (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ... فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)[12] ثم يقول (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ... فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)[13] وهذا ينافي ما ورد هنا من ان فيها ما تشتهيه الانفس وهل يمكن ان يمنع الله تعالى في الجنة عباده المؤمنين من فواكه لم يمنعهم عنها في الدنيا؟! لا شك انه ليس كذلك فلا يبعد ان يكون ما ذكر اشارة الى امور اخرى لا بد فيها من التفريق بين المؤمنين حسب مقاماتهم وقربهم لدى الله تعالى فمن الظلم الذي ينزه عنه الله سبحانه التسوية بين الانبياء والائمة المعصومين عليهم السلام وبين عامة المؤمنين مهما بلغوا من الكمال والتقوى.

والحاصل انه لا يبعد ان يكون المراد بذكر الفواكه في بعض الموارد على الاقل امور اخرى تخص تلك الحياة ومتطلباتها ولا تصل اليها افكارنا فيعبر عنها بذلك تقريبا لها الى الاذهان.

وتغيّر المتطلبات بتغيّر مراحل الكمال امر مشهود حتى في هذه الحياة فالانسان في صغره وصباه تتوق نفسه الى الالعاب والصور المتحركة ونحوها مما يثير تخيله ويذهب بافكاره الى آفاق بعيدة يتمناها ولا يصل اليها فاذا تنامى عقله وفكره واصطدم بالحقائق المرة والحلوة في الحياة تغيرت نظرته اليها وتغيرت متطلباته وكلما تكامل فكره تغيرت آماله وتكاملت كما انها تتغير ايضا بكبر سنه واختلاف حالاته وتكامل مجتمعه ثقافيا وماليا فلا شك ان السائل الذي ورد ذكره في الروايات انه سأل عن حصوله على جمل في الجنة لو كان يبقى الى عصرنا هذا كان يسأل عن حصوله على احدث سيارة او طائرة ونحو ذلك وهكذا سائر البشر. فالنتيجة ان الجنة تشتمل على كل ما تشتهيه الانفس آنذاك وفي تلك الحياة وبعد تكامل النفوس واختلاف الانظار والمتطلبات.

وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ... وهذا اعظم شيء مما يشتهيه الانسان ولا يحصل له الا في تلك الحياة فان الانسان ربما يتمكن في هذه الحياة من بلوغ كل مآربه ومقاصده ومشتهياته في حدود نظرته القصيرة والقاصرة الى الكون والى الكمال البشري وهناك من المغفلين من يتصور انه بلغ الذروة في تحقيق المآرب كما مر في هذه السورة من تبجح فرعون بما اوتي من مال وسلطة حتى انجر به الامر الى دعوى الالوهية وهناك في عصرنا ايضا من يتصور انه بلغ الغاية في تحقيق ما يهواه ويطلبه والبشر حريص على ذلك غاية الحرص حتى انه يحاول تحقيق ذلك ولو في تخيله واوهامه ولذلك يلجأ الى المسكرات والمخدرات لينسى فقدانه لما يهواه. ولكن الامر الوحيد الذي يقضّ مضجع الانسان مهما بلغ من السلطة والثراء هو الموت وهذه الجملة التي يخاطب بها المؤمنون تبشير من الله تعالى بانهم خالدون في النعمة فلا يخافون زوالها ابدا.

وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ... (تلك) اسم اشارة للبعيد وانما اتي به هنا تنبيها على عظمة الجنة وهذا تعبير متعارف حيث يعبر عن المخاطب بمثل ذلك ايضا اذا كان رفيع المقام عظيم الشأن. والغرض من الخطاب التنبيه على ان الجنة لا يستحقها الا العاملون وان كان الجزاء رحمة من الله تعالى والانسان لا يستحق شيئا على ربه مهما حسنت اعماله الا انه يستحقها بوعد منه تعالى فانه لا يخلف الميعاد.

وقد مر الكلام في معنى وراثة الجنة في تفسير قوله تعالى (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ..)[14] ورجحنا ان يكون معنى الوراثة اختصاصهم بالجنة وانهم هم الباقون على قيد الحياة يتمتعون من نعم الله دون غيرهم حيث ان اهل النار يذوقون الموت وان لم يموتوا وهم كانوا متمتعين بالنعم في الحياة الدنيا وزالت عنهم وكل من يخلف قوما على النعم فهو الوارث فالتعبير مبني على انه لولا هذا الاختلاف في نتيجة الاعمال لكان الكل متنعما على وتيرة واحدة كما كانوا في الدنيا.

لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ... لعل السر في التعبير عن ماكولات الجنة بالفاكهة انها ليست من مقومات الحياة كطعام الدنيا فكل ما يؤكل هناك انما يؤكل للتفكه والتلذذ فحسب فليس هناك جوع يراد سده بالطعام. ولعل قوله (منها تاكلون) اشارة الى انكم مهما تاكلون منها فانها لا نهاية لها وكل ما تاكلون انما هو جزء منها فهو تاكيد على الكثرة المصرحة بها.

 


[1] الاعراف: 34

[2] الزمر: 68

[3] يس: 49- 50

[4] يونس: 45

[5] عبس: 34- 36

[6] الحجر: 47

[7] الحجرات: 14

[8] المطففين: 24

[9] الرعد: 23

[10] غافر: 8

[11] الحجر: 47

[12] الرحمن: 46- 52

[13] الرحمن: 62- 68

[14] الزمر: 74