إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ... يقابل ذلك الخلود بالخلود في العذاب وهذا جزاء المجرمين. وأصل الجَرم القطع. وقال بعض اهل اللغة: ومنه اخذ الجُرم بمعنى الكسب وان الجريمة التي هي بمعنى الجناية والذنب ماخوذة منه ايضا باعتبار ان المجرم يكتسب اثما بذلك ولكن لو صح ذلك لاقتضى اطلاقه على من يكتسب ثوابا ايضا. ولا يبعد ان يكون اطلاق الجريمة على الجناية باعتبار ان المجرم يقاطع المجتمع ويقطع علاقته به ولذلك لا يطلق على الذنوب الشخصية اذا لم يكن لها تاثير سيء في المجتمع والظاهر أن المراد بالمجرم في لسان الشرع من قطع العلاقة بربه وهو الكافر ومن نُزِّل منزلته كقاتل المؤمن عمدا.
ومهما كان فالمجرم هو الجاني ولا يختص بالكفار كما يقول بعض المفسرين معوّلا على مقابلته بالمؤمنين ومستدلا بان المؤمن لا يخلد في النار والجواب ان المقابل لهم المتقون الذين آمنوا بآيات الله واسلموا الامر له وليس كل من تشهد الشهادتين كما مر واما الخلود في النار فلا يختص بالكافر قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا..)[1] ولكن الاجرام لا يشمل كل ذنب كما قلنا.
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ... يكرر القرآن ويؤكد على ان ذلك العذاب وتلك النار لا يقاسان بما يجده الانسان في هذه الدنيا من العذاب حيث انه يتحول تدريجا وتخفّ وطأته كما أنّ الانسان يتعوّد عليه ويتحمّله وعذاب الآخرة ليس كذلك فهو لا يفتّر. والفتور ــ كما قال الراغب ــ سكون بعد حدّة ولين بعد شدّة وضعف بعد قوة. والابلاس ــ على ما يبدو من كتب اللغة ــ هو اليأس قيل ومنه اشتق ابليس حيث يئس من رحمة الله تعالى ويقال لمن سكت واجما: أبلس فهو ايضا من اليأس الشديد والحزن العميق. والحاصل ان المجرمين آيسون هناك من الخلاص فهم يعلمون انهم لا نجاة لهم من النار وهذا عذاب نفسي اشد من نفس النار التي يفترض ان تكون عذابا جسميا وان كان الظاهر انها عذاب لهما كما قال تعالى (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ).[2]
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ... هذه الآية ترد على سؤال واستغراب يخطر بالبال حول هذه الشدة في العذاب وأنها لا تناسب الجريمة وهو ظلم عليهم ولكل جرم عذاب يناسبه فاذا حكم القانون مثلا على السارق بالاعدام فانه يعتبر ظلما ومغالاة في الجزاء فكيف بهذا العذاب الابدي واليأس والخلود وعدم الفتور لحظة.
والجواب ان العذاب هناك نتيجة طبيعية للعمل وليس مجازاة للعامل لكي يتأدّب وليكون عبرة للآخرين كما هو الشأن في الجزاء والغرامة في القوانين الوضعية فالذي يواجه عذاب الآخرة انما يواجه نتيجة اعماله في الدنيا فهو الذي ظلم نفسه ولو رفع الغطاء عن عينه في هذه الحياة لرأى ما يصنع هو بنفسه. والنتائج الطبيعية للعمل كثيرا ما تكون غير مناسبة له بنظر العرف الاجتماعي الا انها مما لا مناص منها فالانسان ربما يخطئ خطأ صغيرا في سياقة السيارة مثلا ولكنه يفضي الى هلاكه وهلاك من معه.
وقوله تعالى (كانوا هم الظالمين) يحصر الظالم فيهم بضمير الفصل وبالالف واللام في كلمة (الظالمين) حتى لا يتوهم ان الظلم في هذا العذاب الشديد يسند اليهم والى غيرهم بل هم الظالمون لا غيرهم.
ثم ان التعبير بالظلم في المقام مبني على تصور البشر ان لهم حقا وان هذا اعتداء عليه والا فالواقع انه ليس لاحد حق على الله تعالى وكل ما يفعله بعبده لا يمكن ان يكون ظلما واعتداءا فان الخلائق كلها ملك له تعالى والملكية هنا حقيقية وليست بالاعتبار فكل شيء في اصل كيانه ووجوده مفتقر اليه تعالى ومرتبط بارادته بل ليس هو شيئا مفتقرا وانما هو عين الفقر والحاجة فلا مجال لتصور الظلم اساسا حتى ينفى او يثبت.
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ... (مالك) اسم للملك الموكل بالنار كما يقتضيه النداء في الآية وكما ورد في الاثر ولم يرد ذكره في الكتاب العزيز الا هنا وانما ورد التعبير بخزنة جهنم في موضع آخر. وقد طلبوا في هذا الخطاب أن يقضي الله تعالى عليهم بمعنى إهلاكهم وإفنائهم وليس بمعنى الموت حتى يقال بانهم جرّبوا الموت وعلموا انه لا يوجب الخلاص.
وربما يستغرب انهم لماذا طلبوا ذلك من الملك ولم يطلبوه من الله تعالى مباشرة وأجاب عنه العلامة الطباطبائي رحمه الله بانهم محجوبون عن ربهم كما قال تعالى (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)[3] بل منعوا من الكلام والخطاب لربهم قال تعالى (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ).[4]
اقول: ويؤيد ذلك ان هذا الخطاب أي قوله تعالى (اخسأوا فيها ولا تكلّمون) وُجِّه اليهم قبل اليأس فانه جواب عن طلبهم الاخراج من النار حيث قالوا (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)[5] وهذا الاستدعاء المذكور هنا حصل بعد اليأس لقوله تعالى (وهم فيه مبلسون) والظاهر أنّ قولهم (ربك) يحكي ايضا عن هذا المنع والابعاد فلذلك لم يقولوا (ربنا) مثلا.
قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ... المكث ــ كما في المفردات ــ ثبات مع انتظار وقريب منه في معجم مقاييس اللغة. والمراد انكم لا تموتون بل ماكثون في النار ولكنكم تنتظرون الفرج فابقوا منتظرين فهذا اما استهزاء بهم كما قيل او انه تنكيل من جهة إبقائهم على حالة الانتظار لما لا يكون ابدا كما دلت عليه آيات كثيرة.
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ... يحتمل ان يكون هذا تتمة كلام (مالك) خازن النار فالاتيان بضمير المتكلم باعتبار كونه من الملائكة وهم الذين حملوا الوحي وانزلوه الى البشر وعليه فهذا رد على طلبهم وبيان لسبب خلودهم في النار وهو كراهة الحق ومواجهته بالانكار والاستنكار. وهذا الخطاب يسدّ عليهم باب الاعتذار فقد أتمّ الله تعالى الحجة على الناس وارسل اليهم الرسل والكتب وجاءهم بالحق الذي لو اتّبعوه لكانوا من المفلحين ولكن الاشكال فيهم اعمق من الجهل بالحقائق وهو كراهتهم للحق ولو لم يكونوا كارهين له لكفاهم العقل والوجدان السليم والضمير الحي. وبناءا عليه فالخطاب للمجرمين ونسبة الكراهة الى الاكثر باعتبار ان بعضهم لا يعرفون الحق وانما يقلدون الكبراء جهلا وسفاهة وانما يعتبرون من المجرمين لانهم ليس لهم في تقليدهم عذر مقبول.
ويحتمل قويا ان يكون من كلامه تعالى والخطاب للبشر عامة فالمراد أنّ اكثر البشر يكرهون الحق بوجه عامّ فانهم لا يتبعون الا أهواءهم ومصالحهم الشخصية العاجلة فالمراد بالحق الذي يكرهونه ليس هو خصوص ما اوحي الى الرسل بل هم يكرهون كل حق وان هداهم اليه العقل والوجدان. ويؤيد هذا الاحتمال الآيات التالية فان السياق فيها يعود الى بيان حال المشركين ومكائدهم ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. ويحتمل ايضا ان يكون الخطاب في هذه الآية لاهل مكة او عرب الجزيرة.
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ... أم منقطعة فتفيد اضرابا واستفهاما. والاستفهام للانكار والتوبيخ. والابرام هو الاحكام أي هل أبرموا كيدا ضد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم؟ والفاء للترتب أي ان كانوا ابرموا امرا ضد الرسالة فانا مبرمون كيدا ضدهم ونظيره قوله تعالى (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ)[6] والاضراب فيها لعله من جهة انهم لم يكتفوا بكراهة الحق وعدم الانصياع له كما اشير اليه في الآية السابقة بل احكموا المكيدة ضده وحيث إنّهم أحكموا مكيدة ضد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فانا ايضا نُحكم أمرا ضدهم وما يكيدونه سيكون مآله الخيبة والخسران كما قال تعالى (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ).[7]
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ... (أم) منقطعة ايضا والاستفهام انكاري ايضا اي يستنكر منهم هذا الحسبان. والسر: ما يخفيه الانسان في نفسه والنجوى ما يبوح الانسان به من السر لآخر متخفيا عن غيره فهم كانوا يجتمعون ويتناجون فيما بينهم ويكيدون المكائد ويظنون ان الله تعالى لا يعلم ما يتناجون به ففي الدر المنثور (أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله يسمع كلامنا فقال واحد إذا جهرتم سمع وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت "أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ" الآية) ويحتمل ان يكون المراد ان حالهم كحال من يظن ان الله لا يسمع سرهم ونجواهم من جهة عدم اهتمامهم بذلك.
بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ... (بلى) جواب للنفي المذكور في حسبانهم ويفيد الاثبات ومعناه انا نسمع سرهم ونجواهم بل ومضافا الى ذلك لديهم رسلنا وهم الملائكة يكتبون ما يعملون وما يقولون كما قال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[8] والكتابة في الاصل بمعنى الجمع فالرسل يجمعون ويحفظون اقوالهم وأفعالهم وليس المراد الكتابة في قرطاس ونحوه كما يتوهم بل هو ادق من ذلك فهم ياتون يوم القيامة بنفس الاقوال والافعال كما قال تعالى (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا).[9]
[1] النساء: 93
[2] الهمزة: 6- 7
[3] المطففين: 15
[4] المؤمنون: 108
[5] المؤمنون: 107
[6] الطور: 42
[7] ابراهيم: 46
[8] ق: 18
[9] الكهف: 49