مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ... يأمر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأن يخاطب مشركي مكة والجزيرة العربية بهذه الجملة الشرطية. فان السورة بوجه عام تندد بافكارهم الخاطئة وخصوصا نسبة الولد الى الله تعالى وأنّ الملائكة بناته. ومفاد هذه الآية انه لو كان لله تعالى ولد كما تزعمون لكنت اول من يعبده اي الولد. ولعل التعبير بالعبودية باعتبار ان الاله لو كان له ولد لكان مثله الها او باعتبار ان العبادة تشمل الخضوع والطاعة بالمعنى العام الذي لا يختص بالاله والتوجيه الاول اولى. وانما عبر بحرف (ان) مع ان الانسب التعبير بحرف (لو) الدال على الامتناع مماشاة للخصم وعدم مجابهته بما يدل على امتناع ما يدعيه.

وهناك وجوه اخرى في تفسير الآية منها ما عن الخليل بن احمد رحمه الله حيث قال: (العبَد: الأنفة والحمية من قول يستحى منه ويستنكف ومنه فأنا أول العابدين أي الآنفين من هذا القول ــ الى ان قال ــ وروي عن امير المؤمنين عليه السلام "عبِدت فصمتّ" اي أنِفت فسكتّ) ولم أجد مصدرا لهذاالحديث الا في كتب اللغة ولو صحّ فمعناه أنه عليه السلام ابتلي بما يرفضه فأخذته الانفة اي الحمية والغيرة ولكنه صمت وسكت ولم يطالب بحقه وكأنه يشير الى حادثة الخلافة. وفي معجم مقاييس اللغة أن أصله من العَبَدة اي القوة والصلابة.

ولعل تكرار اسم الرحمن في السور المكية للرد على كفار مكة حيث كانوا يستنكرون هذا الاسم كما قال تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا).[1]

سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ... تنزيه لله تعالى عما يدعيه المشركون من نسبة الولد اليه وقوله (عمّا يصفون) اي عما يصفون الله به وهو كونه والدا. وتوصيفه تعالى بربوبية السماوات والارض للاستدلال على  ذلك فان المراد بالسماوات والارض الكون كله بناءا على ان السماوات تعبير عن العوالم التي وراء الطبيعة، والارض تعبير عن عالم الطبيعة بأجمعه والله تعالى هو مدبر الكون كله فكل من هو دونه مربوب له فلا يمكن ان يكون ندّا له وكفأً والولد كفء للوالد.

والعرش تعبير عن الحاكمية في الكون وتوصيفه تعالى برب العرش لعله بمعنى انه صاحب العرش ــ والرب يأتي بمعنى الصاحب ايضا كما في معجم المقاييس ــ فله الحاكمية المطلقة في الكون. وفي ذكر العرش اشارة الى ان الكون ليس سائرا على قانون ونظام فحسب بل هناك اله يحكمه ويضع كل شيء موضعه حتى في الحياة الدنيا الا ما افسده الانسان بسوء اختياره حيث منحه الله تعالى هذا الاختيار واعطاه القدرة على التصرف نوعا مّا في الطبيعة. ولعل تكرار كلمة الرب من اجل الاختلاف في المعنى فكونه تعالى رب الكون بمعنى أنه مدبرها وكونه رب العرش بمعنى أنه صاحب المالكية المطلقة.

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ... ذرهم اي اتركهم وهذا وان كان ظاهره الامر بتركهم وعدم التعرض لهم ولكن المراد تهديدهم واحتقارهم والاستخفاف بشأنهم فلا وجه لما قيل من انها منسوخة بآية السيف اذ لا تنافي بينهما. والخوض: الولوج في الماء واقتحامه بحيث يغمره الماء. قال تعالى (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ)[2] ويعبّر بالخوض عن الاشتغال بالملاهي والكلام الباطل.

وفي هذا التعبير اشارة الى أن ما يعتقدونه من نسبة الولد الى الله تعالى لا يستند الى تفكير وبرهان وانما هو خوض في الباطل الذي توارثوه لانهم مشغولون باللهو واللعب وليسوا اهل تفكر وتدبر فليس اعتقادهم الباطل ناشئا عن خطأ في الفهم وانما نشأ عن اشتغالهم باللهو واللعب عن بذل الجهد في معرفة الحقائق في ما ينسبونه الى الله تعالى.

والمراد باليوم الموعود يوم القيامة حيث يلاقون جزاء اشتغالهم باللهو واللعب. وقيل: انه يوم بدر باعتبار أنه يوم عذاب الدنيا. وهو بعيد اذ لا يوجد وعد مؤكد بالنسبة لعذاب الدنيا. وقيل: يوم الموت. ولكنه ليس يوما موعودا بل هو مصير محتوم للجميع.

وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ... هذه الآية تؤكد على وحدة الاله في الكون في قبال التصور السائد في بعض المجتمعات البشرية من ان لكل مجموعة في الكون الها وأن اله الارض يختلف عن اله السماء. والاله بمعنى المعبود فاهل السماء يعبدون الها يشعرون به ويحسونه واهل الارض لا بد لهم من آلهة يشعرون بها ولذلك عمدوا الى تأليه الاصنام وغيرها والآية ترد عليهم بان الاله واحد في جميع الكون وفي السماء والارض وهو الله سبحانه لانه هو الرب وهو الضار النافع فلا يعبد الا اياه والتعبير يفيد الحصر فليس الا هو من يتصف بكونه الها في السماء والها في الارض ثم وصفه بالحكمة والعلم تنبيها على ان الالوهية لا تليق الا بالرب الذي يحكم بالحكمة والمصلحة والذي يعلم موضع كل شيء فيجعل كل شيء في موضعه اللائق به.

وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا... البركة بمعنى الخير الكثير الثابت المستقر وصيغة (تفاعل) لافادة ان البركة انما هي منه تعالى فهو اتّخذ لنفسه البركة وهي الخير الكثير الدائم المستقر ولا يصح إسناد التبارك والتقدس والتعالي والتكبر الا اليه تعالى واما غيره فربما يكون مباركا او مقدسا اذا اراد الله سبحانه. وأخطأ من عبر عنه تعالى بالمبارك والمقدس. وقد مر بعض الكلام حوله في تفسير سورة غافر الآية 64. والغرض من هذه الآية الثناء عليه تعالى والاشارة الى ان الالوهية لا تليق الا به لان البركة وهي الخير المستقر في الكون ليس الا منه تعالى وهذا التعبير حثّ على عبادته حبا له وتعظيما لا خوفا ورهبة.

ثم وصفه تعالى بان السماوات والارض وما بينهما ــ وهو تعبير عن الكون كله ــ ملك له. ولعل المراد بما بينهما الملائكة الكرام الذين ينتقلون بين السماء والارض لحمل الوحي وغيره. ومالكية الباري للاشياء بمعنى تعلقها بكل كيانها بامره وارادته وهذه الصفة ايضا تقتضي انحصار الالوهية في ذاته المتقدسة لان كل ما يفرض من شيء في الوجود فلا كيان له الا الفقر والتعلق بارادته تعالى فلا يمكن ان يكون الها.

وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... تقديم الظرف لافادة الحصر وان العلم بالوقت الموعود خاص به تعالى لم يُعلِم احدا به. والمراد بالساعة يوم القيامة عبر عنه بذلك لحدوثه بغتة ومن دون تدرج كما في حوادث الطبيعة. والساعة جزء من الزمان. وحيث لا احد في الكون يعلم مصيره ونهايته فلا احد يمكن ان يكون الها يعبد ويخاف ويرجى وهو فقير محتاج في اهم الامور وهو مستقبله وعاقبته.

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ... وهنا ايضا تقديم الجار والمجرور لافادة الحصر وان مرجع الجميع اليه تعالى فيُحضرون عنده يوم القيامة قهرا ورغما على ارادتهم كما يقتضيه الفعل المبني للمجهول وهذا ايضا مما يقتضي بالطبع ان لا يعبد الا اياه لان المستقبل الدائم الابدي هو اهم ما يجب ان يلاحظ في كل ما يخاف ويرجى فكل شيء زائل الا ما عنده تعالى ومع ان كل ما في الكون منه ولكن ربما يتوهم الانسان ان هناك عوامل واسباب طبيعية تغنيه من الرجوع الى الله تعالى في شؤون الدنيا ولكن لا مجال لاي توهم في المآل يوم القيامة فلا يرجى الا فضله ولا يخاف الا عدله مع ان العاقل الفطن يعلم ان كل ما يصل اليه عن طريق الاسباب ايضا منه تعالى.

وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ... الآية الكريمة تنفي الشفاعة عن كل من يدعونهم من دون الله تعالى وتثبتها لمن شهد بالحق. والمراد بالدعاء طلب الحاجة. والمشركون او بعضهم كانوا يطلبونها من الاصنام بدعوى انها تشفع لهم عند الله تعالى ويقولون (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...)[3] والقرآن ينفي ذلك في آيات كثيرة ويبين ان الشفاعة لدى الله تعالى ليست الاباذنه وحتى الملائكة لا يشفعون الا باذنه تعالى كما قال (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)[4] وهذه الآية ايضا في هذا السياق فاذا اريد من الذين يدعون خصوص الاصنام باعتبار ان الخطاب لمشركي مكة فاستثناء من شهد بالحق استثناء منقطع وان اريد به كل من يدعى من دون الله تعالى فالاستثناء متصل.

والمراد بمن شهد بالحق الذي يشهد بكل ما هو حق وتخصيصه بالتوحيد كما في بعض التفاسير لا دليل عليه وان كان هو أهمّ ما يقصد به والتقييد بالجملة الحالية (وهم يعلمون) للتأكيد على علو مرتبة الشفعاء فهم يشهدون بالحق كله ويعلمون الحق كله وبالطبع لا يكون ذلك الا بتعليم من الله تعالى فالشفعاء هم المقربون عند الله الحائزون على مرتبتي العلم بالحق والشهادة به. ولعل المراد بالشهادة ابرازهم للحق ومجاهدتهم دونه لان الشهادة به بصورة مطلقة وفي كل موطن تستتبع ذلك ولا ينطبق هذا الا على الانبياء والمرسلين والأئمة المعصومين عليهم جميعا سلام الله.

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... هذه من الآيات الكثيرة التي تشتمل على الاشارة الى ان المشركين يعتقدون بان الخالق للكون هو الله تعالى او انهم يرجعون الى ضمائرهم في بعض الحالات ومنها حالة السؤال وهذا أمر طبيعي ونحن نجد كثيرا من الناس يظهرون امورا غير واقعية فاذا سئلوا عن حقيقة الامر اعترفوا بخلافه كأنّ السؤال يحرّك ضمائرهم اللاشعورية خصوصا اذا كان السؤال من شخصية قوية كالرسول صلى الله عليه وآله وسلم بناءا على ما هو ظاهر الخطاب وان احتمل ان يكون خطابا لكل قارئ او سامع.

فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ... تعقيب واستغراب فان كان الخالق هو الله تعالى فلماذا يعبدون غيره و(أنّى) قيل بمعنى اين وكيف. فمعناه هنا اين يصرفون وكيف يصرفون الى غيره. والافك: قلب الشيء وصرفه عن جهته الطبيعية ولذلك يقال للكذب: الافك. والتعبير بصيغة المبني للمجهول لعله للاشارة الى انهم يصرفون عكس ما تدعو اليه فطرتهم فكأنهم يساقون عنوة ودون إرادة.

وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ... (قيل) مصدر بمعنى القول قال تعالى (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)[5] والضمير يعود على الظاهر الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة السياق والجملة تحكي تضرعا وشكوى من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الى ربه ويأسا من ايمان القوم.

ونسب الى ابن مسعود انه قرأ (وقال الرسول..) وقرئ (قيله) بالجر وهو المشهور وبالنصب والرفع واختلف المفسرون والادباء في تركيب الآية وفي ما عطف عليه القيل على اختلاف قراءاته فقال بعضهم انه ــ بناء على الجر ــ عطف على الساعة اي وعنده علم قيله.. فالمراد التهديد بأن الله تعالى يعلم بقول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم الدال على يأسه منهم. وقال الزمخشري ان الواو للقسم وان المقول (يارب) والجملة التي بعده هوالمقسم به. وهو بعيد غاية البعد.

وعلى قراءة الرفع لا يبعد ان يكون استينافا فهو مبتدأ وخبره الجملة التي بعده وعلى قراءة النصب يمكن تقدير (وقال) اي وقال قوله كذا وعلى الجر يمكن تقدير (واسمع الى) فالمهم انّ الآية تدل على ان الرسول بلغ الى حد اليأس من ايمان القوم.

فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ... الصفح هو الاعراض بالوجه مأخوذ من الصفحة اي صفحة الوجه والمراد الامر بتركهم وعدم الاهتمام بشأنهم كما مر في قوله تعالى (فذرهم..) واما قوله وقل سلام فليس بمعنى التسليم عليهم واقعا بل هو نظير قوله تعالى (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[6] ولكنه على اي تقدير يدل على المتاركة وعدم المحاربة في الوقت الحاضر وذلك لانه سيحين موعد المواجهة ونزول العذاب بايدي المؤمنين عليهم وهذا هو ما يستبطنه التهديد بعد ذلك بقوله تعالى (فسوف يعلمون) والله العالم وله الحمد أولا وآخرا والصلاة على نبيه الكريم وآله الطاهرين.

 


[1] الفرقان: 60

[2] المؤمنون: 54

[3] الزمر: 3

[4] النجم: 26

[5] النساء: 122

[6] الفرقان: 63