وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ... اللام في قوله (ولئن) لام موطّئة وهي التي تدل على قسم مقدر وذلك لتأكيد المضمون وكذلك لام الجواب في قوله (ليقولنّ) ونون التأكيد. والضمير يعود الى مشركي مكة كما قلنا في الآية السابقة. ولعل الغرض من هذه الآية التنبيه على أنهم وان كذّبوا الرسل واستكبروا عن عبادة الله تعالى وتنزلوا الى عبادة الاصنام الا أنهم في قرارة أنفسهم يقرّون بأن خالق الكون هو الله تعالى ولكنهم بحاجة الى من ينبههم ويكفي في ذلك أن تسألهم: من خلق السماوات والارض؟ ولعله انما أتى بكل هذه المؤكدات في الجملة لغرابة مضمونها خصوصا بملاحظة الجملة الآتية اي (وجعلوا له من عباده جزءا..) ولمخالفة هذا الاقرار لظاهر حالهم وأعمالهم. وهذا المضمون قد تكرر في القرآن الكريم حيث نسب اليهم الاعتراف بان الله تعالى هو الخالق للكون. وهكذا عقيدة الوثنية وان كانوا لا يعتقدون بعموم ربوبيته تعالى.
والجمل الآتية في الآيات التالية التي تذكر بعض نعم الله تعالى ليست من تتمة كلامهم قطعا وانما وردت تعقيبا لكلامهم وكأنّها قطعة منه تنبيها على أن من تعتقدون بخالقيته هو الذي خلقها على هذا الوجه مما يدلّ على انه هو ربّ الكون الذي هيّأ كل الوسائل لتنظيمه. ونظيره كثير في الكتاب العزيز.
ولكن هل الوصفان المذكوران هنا (العزيز العليم) من تتمّة كلامهم كما هو ظاهر اللفظ ام أنّهما ايضا من الله تعالى بمعنى انه أبدل تعبيرهم الى ذلك فهم يقولون في الجواب (خلقهن الله) ولكنه في مقام النقل بدّل العبارة الى ذكر الوصفين الجليلين تنبيها على أنّ من تعتقدون فيه انه الخالق هو العزيز العليم؟ فيه اختلاف بين المفسرين.
والظاهر هو الثاني لان العرب لم يكونوا يعرفون الله بهذه الصفات ولم نجد في كلامهم وشعرهم ما ينبئ عن معرفتهم لهذه المفاهيم واعتبارها من صفات الله تعالى. خصوصا بملاحظة وجه التوصيف هنا حيث ان توصيفه تعالى بالعزة والغلبة من جهة انه لا يمنعه مانع من خلق ما يشاء وليس هناك غيره من يتمكن من خلق ما يشاء اذ الموانع الطبيعية وغيرها تحول دون بلوغ المراد وتوصيفه بالعلم من جهة أنّ الخلق بهذا النظام الدقيق ينبئ عن علم شامل ازلي ابدي ولذلك اتى به بنحو الصفة المشبهة الدالة على الثبات والذاتية.
ويشهد لهذا الوجه التعبير المنقول عنهم في الموارد المشابهة كقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ...)،[1] وقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..).[2] وسيأتي في هذه السورة الآية 87 قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ..).
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ... الموصول صفة للعزيز العليم. ومن هنا يبدأ في التنبيه على النعم الالهية التي تدلّ على عموم ربوبيته تعالى والتي تستوجب شكر المنعم وهو بدوره يقتضي وجوب معرفته. والمهد والمهاد: المكان المهيّأ والموطّأ فالمعنى أنّ الله تعالى هيّأ الارض لمعيشة الانسان وجعلها موضعا لراحته واستقراره وأعدّ له كل ما يحتاج اليه من طعام وشراب وهواء وغير ذلك.
والمراد من السبل الطرق الطبيعية الموجودة على وجه الارض بين الجبال ونحوها. فيحتمل ان يكون المراد من الاهتداء الوصول الى الاماكن المقصودة ويحتمل أن يكون المراد الاهتداء الى الله تعالى وأنّه مترتّب على الامرين: جعل الارض مهدا وجعل السبل فيها. والظاهر هو الاول بدليل تكرر الاهتداء بعد ذكر السبل كما في قوله تعالى (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).[3] ويلاحظ الاهتداء في الآية الثانية وهو يتعلق بالطرق بلا ريب. وكذلك قوله تعالى (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).[4] والعلامة الطباطبائي رحمه الله مع أنه استظهر من الاهتداء في هذا المورد وغيره الهداية الى الله تعالى ولكنه في سورة الانبياء جزم أنه بمعنى الاهتداء الى المقاصد ولعله من جهة أن تعليل خلق الرواسي بعدم الميد يرجح أن يكون وضع السبل لغرض الوصول الى المقاصد. ولكن يلاحظ عليه أن ذلك يصح أن يكون قرينة على أن الاهتداء في كل مورد يعقب جعل السبل بهذا المعنى.
وتكرار قوله (لكم) في الجملتين للمنّة على الانسان والتركيز على أن الخلق بهذه الكيفية التي توجب انتفاع الانسان بالطبيعة مقصود في التدبير الربوبي.
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا... صفة اخرى للعزيز العليم وبيان لنعمة عظيمة اخرى تتوقف عليها الحياة وهي المطر. والقدر مصدر بمعنى التقدير. قيل: إنّ المراد به ان نزول المطر لا يتم الا بارادته تعالى. ولكنّه بعيد لأنّ كونه مرادا معلوم من إسناده اليه تعالى فيكون تكرارا، مضافا الى أن التقييد بالارادة لا يختص بنزول المطر. والظاهر ان المراد تحديد مقداره فلا ينزل كثيرا مضرا ولا قليلا غير نافع، فيكون هذا التوصيف للتأكيد على كونه نعمة مقصودة.
وربما يقال ان المطر قد ينزل كثيرا مضرا وقد يقل فلا ينفع. واجيب بان المراد هو الغالب وانه لا ينافي وجود بعض الاستثناءات. ويمكن الجواب بان المراد ليس بيان ان كل ما ينزل من المطر نافع حتى يرد الاشكال بل المراد انه اذا نزّله بقدر يحيي به الارض الميتة واما اذا انزله غزيرا موجبا لانحدار السيل فانه لغرض آخر فالذي يعتبر نعمة يُمنّ بها على الانسان هو ما ينزّله بقدر. وليس المراد تقدير القطرة من المطر او كمية القطرات بل تقدير العوامل الموجبة لنزوله بحيث ينزل المقدار المفيد.
والإنشار: الإحياء، وأصل النشر البسط، وحيث إنّ منح الحياة يوجب بسط القدرة والحركة استخدم بمعنى الإحياء. والميْت مخفف الميّت ويطلق على الارض الهامدة التي لا نبت فيها. ويلاحظ الالتفات من الضمير الغائب في قوله (نزّل..) الى المتكلم في قوله (فأنشرنا) وقيل في ذلك بأنه للتأكيد على اختصاص إحياء الموتى به تعالى.
وهذا الالتفات متكرر في موارد مشابهة كقوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى)،[5] وقوله تعالى (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ..).[6] فهل يصح هذا الوجه في كل ذلك؟! وربما يأتي الالتفات في أصل إنزال الماء كقوله تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ)،[7] مع أن ما قبله أولى بالاختصاص وخصوصا خلق السماوات. فلعل الأولى أن يقال إنه للتفنن في التعبير. والله العالم.
كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ... اي كما يحيي الله تعالى الارض الميتة كذلك يخرجكم من الارض أحياء يوم النشور، وقد تكرر في القرآن الكريم التنبيه على ان من أحيا الارض الميتة قادر على إحياء الموتى ولعل الوجه في تشبيه إحياء الموتى بإحياء الارض أن موت البشر ليس فناء وزوالا كما يتصوره بعض الناس فان حقيقة الانسان روحه التي لا يعرضها الموت وانما يموت جسمه فموته كموت الارض، حيث تكمن فيها الحياة، ويتوقف إحياؤها على المطر.
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا... عطف على ما سبق من أوصافه تعالى. والزوج ما يقرن بالشيء اذا كان مثله، فالازواج: الامثال المتقارنة، والزوجان: المثلان المتقارنان، ومنه الزوجان بالمعنى المعروف. وقيل: انه هنا بمعنى الصنف اي خلق جميع الاصناف من كل شيء. ولكن الظاهر ان المراد به المعنى الاول ولاحاجة الى تأويله بالاصناف اذ الغرض على ما يبدو هو بيان النعم فالمراد الذكر والانثى من اصناف النبات والحيوان مما يستخدمه الانسان في شؤونه. ووجود الصنفين ظاهرة عامة في النبات والحيوان.
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ... الفلك: السفن، يطلق على المفرد والجمع. والسفينة وإن صنعها الانسان الا أنّ مادتها وهي الخشب موجودة في الطبيعة، والله تعالى هو الذي جعل فيها هذه الخاصية حيث تبقى على سطح الماء وتتحرك بالرياح والاشرعة وهناك نظم وقوانين كونية عديدة مما خلقها الله تعالى وعليها تبتني هذه النعمة، وهو الذي ألهم الانسان صنع ما يصنع بل منحه العقل والدقة في التفكير، بل في خصوص السفينة أوحى الله تعالى الى نوح عليه السلام ان يصنعها وعلّمه طريقته كما قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا..)[8] والظاهر انها اول سفينة صنعت على وجه الارض.
والانعام تطلق على الابل والبقر والغنم سميت بها لانها نعمة عظيمة. والمراد بالانعام هنا الابل خاصة لانها التي تركب منها فحسب. وقوله تعالى (تركبون) بتقدير الضمير وهو العائد على (ما) اي ما تركبونه وقالوا ان الركوب يتعدى الى الانعام بنفسه والى السفينة بحرف (في) وانما اكتفي بذكر المتعدي بنفسه تغليبا له على المتعدي بالحرف. ولكن الظاهر صحة التعبير بركوب السفينة من دون تقدير حرف كما ورد في روايات كثيرة وفي النصوص العربية.
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ... اللام بمعنى (كي) ولبيان الغرض او النتيجة اي جعل لكم الفلك والانعام لتركبوها. والاستواء في الاصل تعادل أجزاء الشيء واذا عدّي بـ (على) كان بمعنى الاستيلاء والاستقرار. والضمير في (ظهوره) يعود الى (ما) الموصولة في الآية السابقة. وحينئذ فالتعبير بالظهور من باب التغليب اذ ركوب السفينة لا يقتضيه. كما أن الضمير في (استويتم عليه) يعود الى الموصول ايضا لا الى الظهور.
وفي بعض التفاسير ان ذكر النعمة بمعنى ان يتذكرها قلبا ثم يحمده تعالى ويشكره عليها ثم يقول (سبحان الذي..). ولكن لا يبعد ان يكون القول المذكور بيانا لذكر النعمة فيكون قوله (وتقولوا..) تفسيرا لما قبله اي تذكروا النعمة بهذا القول. وفي الميزان ان ذكر النعمة لا يكون الا بشكرها وهذا القول لايشتمل على الشكر بل هو تسبيح لله تعالى. ولكن لا دليل على اختصاص ذكر النعمة بالشكر فالتسبيح المذكور حيث اشتمل على ذكر النعمة يكفي في الذكر بل يعتبر شكرا عليها ايضا لانه يشتمل على استعظامها.
وقوله (مقرنين) بمعنى: مطيقين. واصله من جعل الشيء قرينا لغيره وحيث ان الضعيف لا يقدر على الحيوان المستعصي يقال لا تقرن الضعيف بالصعبة اي الدابة الصعبة فاستعير معنى الاقران للاطاقة والقدرة على المركوب او مطلقا. فالمراد ان هذه الدواب ما كانت مسخرة لنا لولا ان الله تعالى سخرها لنا مع عظم اجسامها وقوتها فتجد البعير الضخم بل مجموعة كبيرة من الابل او البقر منقادة لولد لم يبلغ الحلم. وكذلك تسخير الفلك وغيرها من وسائل النقل الحديثة. ولعل اختيار التسبيح لاظهار التعجب من هذا التسخير وفيه استعظام للنعمة كما مر.
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ... الانقلاب: الرجوع. وهذا من تتمة التسبيح المذكور ولعل الغرض منه التنبيه على ان الانسان ينبغي ان يتذكر في كل حال خصوصا في حال السفر ان النعم الدنيوية ليست باقية وان مصيرنا الى الله سبحانه وتعالى ففي نفس الوقت الذي يتنعم الانسان فيه بنعمة الله تعالى ويشكره عليها يجب ان يكون متذكرا أنّ هذه النعمة كغيرها زائلة وأنّه سينقلب الى ربّه فيحاسب على كيفية تعامله مع ما أنعم الله به عليه.
[1] العنكبوت: 61- 63
[2] لقمان: 25، الزمر: 38
[3] النحل: 15- 16
[4] الانبياء: 31
[5] طه: 53
[6] النمل: 60
[7] لقمان: 10
[8] هود: 37