بسم اللّه الرحمن الرحيم
تَنْزيلُ الْكِتابِ مِنَ اللّه الْعَزيزِ الْحَكيمِ (1)إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللّه مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2)أَلا للّه الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّه زُلْفى إِنَّ اللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في ما هُمْ فيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّه لا يَهْدي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)لَوْ أَرادَ اللّه أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللّه الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
السورة مكية تتناول مسائل العقيدة الاساسية من التوحيد والمعاد. وهذه ميزة السور المكية.
تنزيل الكتاب من اللّه العزيز الحكيم... يمكن أن يكون (تنزيل) مبتدأ خبره (من اللّه). ويمكن ان يكون خبرا لمبتدأ محذوف اي هذا تنزيل الكتاب، وعليه فالجار والمجرور قد يكون متعلقا بقوله (تنزيل الكتاب) وقد يكون خبرا ثانيا.
والكتاب اي المكتوب، بمعنى المجموع، فان كَتَب بمعنى جمع، ويطلق على كل مجموعة من الالفاظ او المعاني. والمراد التاكيد على ان هذا الكتاب منزل من اللّه تعالى وليس من انشاء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم كما يتوهمه بعض الكفرة قديما وحديثا.
وتوصيفه تعالى بالعزيز لعله اشارة الى ان مقتضى عزته وغلبته المطلقة ان لا يؤثر في هذا الكتاب شيء آخر ردا على توهم بعض المشركين من احتمال تدخل الشياطين في ذلك كما صرح به في قوله تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) الشعراء: 210 ــ 211.
ووصف الحكمة لعله للرد على انحاء الشبهات التي ترد على الرسالة من اختيار اللغة والزمان والشخص الكريم وغير ذلك. وهذه شبهات متكررة طيلة التاريخ الى يومنا هذا ولكل منها جواب، ولكن الافضل هو الرد العام اذ لا انتهاء لهذه التساؤلات. والرد العام يتلخص في هذا التوصيف فان مقتضى حكمة الباري هو هذا الانتخاب. والبشر لا يمكنه ان يدرك وجه الحكمة في كل ما خلقه اللّه تعالى ودبّره.
ونظير ذلك يقال في الرد على الشبهات والتساؤلات حول الاحكام الشرعية المختلفة فهناك موارد كثيرة للتساؤل في الاحكام. والجواب العام واحد وهو ان الاحكام تعبدية لا يعلم وجه الحكمة فيها الا اللّه تعالى، ولو علم ايضا فالتسليم لها ليس من جهة وجه الحكمة والا لم يكن تعبدا، بل هو من باب وجوب التسليم لامره تعالى.
انا انزلنا اليك الكتاب بالحق فاعبد اللّه مخلصا له الدين... الانزال والتنزيل بمعنى واحد، ولا دليل على الفرق، وملاحظة موارد استعمالهما في الكتاب العزيز وغيره تقتضي عدم الفرق بما قيل من ان الانزال يطلق على الانزال التدريجي والتنزيل على الدفعي او الاعم، فقد ورد الانزال والتنزيل في ماء المطر وهو لا ينزل الا تدريجا وورد التنزيل في مورد النزول الدفعي بصراحة في قوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) الفرقان: 32، وغير ذلك.
ومهما كان فالغرض هنا التأكيد على ان الانزال انما كان بالحق، اي ان الكتاب نزل بالحقائق الناصعة والاحكام الثابتة، وفرّع عليه الامر بالعبادة باخلاص (فاعبد اللّه مخلصا له الدين). والتفريع لعله من جهة كون العبادة شكرا على هذه النعمة التي ليس فوقها نعمة.
والمطلوب في الامر المذكور هو الاخلاص في العبادة تنويها على ان العبادة من دون اخلاص ليست مقبولة لدى اللّه سبحانه لان العبادة لا تليق الا به. وهذا من جهةٍ تقديسٌ لعبادة اللّه تعالى من ان يشرك فيها احد، ومن جهةٍ اخرى تكريمٌ للانسان ان لا يعبد الا اللّه تعالى ويترفع عن الخضوع لغيره. و المراد بالدين في الآية الكريمة العبادة، ويقال ان الاصل في الدين هو التذلل والطاعة، ولعل الدين بالفتح منه ايضا لاستيجابه المذلة.
ألا للّه الدين الخالص... اعلام عام بعد الامر الخاص، وتعليل للحكم في نفس الوقت فلا يقبل اللّه تعالى الا العبادة الخالصة. وقد صدّر الحكم العام باداة التنبيه (الا) ليعلم ان العبادة ان لم تكن خالصة لوجهه الكريم واُشرك فيها غرض اخر فلا يقع للّه منها شيء وهي مرفوضة تماما، بل تعتبر اثما كبيرا يستوجب العقاب.
والذين اتخذوا من دونه أولياء... تتعرض الآية لحال من يعبدون غيره تعالى ممن توهموا فيهم الولاية وتصدي التدبير في العالم كالملائكة والقديسين من البشر، ثم اتخذوا لهم تماثيل واصناما وعبدوهم من دون اللّه تعالى.
ومعنى من دونه انهم اعتبروهم اولياء بدلا من اللّه تعالى. والسبب في ذلك انهم كانوا يتوهمون ان الخلق من اللّه والتدبير من هذه الخلائق، وانهم مستقلون في التدبير والا فالتدبير والتاثير باذن اللّه سبحانه وفي حدود خاصة ثابت لكل احد، فكل انسان يدبر امور نفسه وعائلته، بل اكثر من ذلك احيانا وكل شيء يؤثر في امور اخرى.
والملائكة وصفهم اللّه تعالى بالمدبرات امرا، وهم شفعاء ووسطاء بين اللّه وخلقه، ولكنهم لا يشفعون الا باذنه تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللّه لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) النجم: 26، والمراد بالشفاعة هنا التوسط في الخلق والتدبير. فشأن الملائكة وغيرهم ليس الا التوسط، وكيفية هذا التوسط بين اللّه وخلقه مجهولة لنا. وكذلك العوامل الطبيعية التكوينية تؤثر وتتوسط، ولكن لا اثر لايّ شيء في الكون الا اذا اراد اللّه تعالى. اذن فلا شيء يستحق العبادة غيره.
ما نعبدهم الا ليقربونا الى اللّه زلفى... قد تفطّن المشركون او بعضهم الى ان غير اللّه تعالى لا يستحق العبادة بذاته فاختلقوا مبررا لهذه العادة الموروثة، وقالوا انهم لا يعبدونهم الا ليتقربوا بذلك الى اللّه تعالى، فزادوا بهذا الافتراء اثما على اثم، اذ ليس لهم دليل على ان ذلك مقرب الى اللّه سبحانه. و(زلفى) مصدر بمعنى القربى فهو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل.
وربما يتمسك بهذه الآية الكريمة ردا على كل توسل باولياء اللّه سبحانه. والجواب ما ذكرناه مرارا من ان التوسل بهم من التوسل باللّه وكالتوسل بالوسائل الطبيعية وليس من اتخاذ ولي من دون اللّه سبحانه، وان الفرق هو اعتقاد الاستقلال في هذه المؤثرات، وهذا ربما يحصل بصورة خفية لبعض الجهلة من المؤمنين سواء بالنسبة لاولياء اللّه تعالى او بالنسبة للوسائل الطبيعية، فتجد كثيرا من الناس يظن ان المريض ربما يشفى بالدواء ومعالجة الطبيب وربما يشفى بارادة اللّه سبحانه، ويتوهم ان تاثير اللّه تعالى مقتصر في ما اذا شفي بسبب غيبي، او يتوهم ان الانسان ربما يموت بارادة اللّه وربما يموت بارادة البشر.
وقد ورد في القران الكريم قصة الملك الكافر ولعل اسمه نمرود مع ابراهيم عليه السلام (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) البقرة: 258، ومن الغريب انك تجد بعض المؤمنين باللّه يقولون ذلك او يعتقدون به في قرارة انفسهم. ولذلك قال تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّه إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) يوسف: 106، ولذلك ايضا ورد في الحديث ما معناه ان الشرك اخفى من دبيب النمل على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء.
وهذا الشرك الخفي لا يوجب حرمة التوسل بالاولياء كما لا يوجب حرمة التوسل بالوسائل الطبيعية، ولكن يجب التنبه وتنبيه الآخرين على انّ كل هذه الوسائل لا تؤثر شيئا الا اذا اراد اللّه تعالى بل لا تشفع ولا تحاول فكل حركة وسكون بامره واذنه.
والحاصل ان التوسل باولياء اللّه تعالى مع الاعتقاد بانهم لا يعملون شيئا ولا يقدرون على شيء الا باذنه ليس من الشرك في شيء، بل هو عين الايمان به ويعتبر اطاعة وامتثالا لاوامره التي صدرت في شأنهم.
ومن هنا وجبت اطاعة الرسول واولي الامر المعصومين بامر اللّه تعالى مع ان الاطاعة عبادة ايضا، وبها فسر قوله تعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ...) يس: 60، فان البشر بصورة عامة لا يعبدون الشيطان وانما يطيعونه ويتبعون غواياته فالاطاعة عبادة، ولكن اطاعة اولياء اللّه عبادة للّه تعالى وامتثال لامره، وكذلك التوسل بهم اطاعة لامره تعالى حيث قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ..) المائدة: 35، وتواترت الاحاديث بالتوسل والاستشفاع بالرسول واهل بيته الطاهرين صلوات اللّه عليهم اجمعين.
ان اللّه يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون... الجملة خبر لقوله (والذين اتخذوا..). وهناك بحث واختلاف في مرجع الضمائر في هذه الجملة، فيحتمل عودها الى المشركين كما هو ظاهر اللفظ لانهم يختلفون في وجوه الشرك فكل مجموعة يعبد صنما او قديسا، كما يختلفون ايضا في حدود الربوبية المزعومة.
ويحتمل عودها الى المشركين والمؤمنين وان لم يسبق لهم ذكر لدلالة الحال عليهم.
وأما عودها الى المشركين والمعبودين ــ كما قيل ــ فبعيد عن اللفظ والمعنى.
ولعل معنى حكم اللّه بينهم انه يدخل الكافرين النار والمؤمنين الجنة، وهو حكم وقضاء بين الفريقين او انه يظهر الحق عيانا يوم القيامة فيرتفع الاختلاف بينهم كغيره من موارد الخلاف بين الناس.
وعلى كل حال ففي الآية اشارة الى أنّ هذا الامر مما لا يرتفع فيه الاختلاف الا يوم القيامة حيث يظهر الحق، إمّا من جهة خفاء بعض موارده كما اشرنا اليه، وإمّا من جهة أنّ المشركين يرفضون الانصياع للحق لتشددهم فيما توارثوه من افكار وعقائد.
ان اللّه لا يهدي من هو كاذب كفّار... لعل في هذه الجملة اشارة الى نوع من التعليل لما تشير اليه الجملة السابقة من بقاء الاختلاف الى يوم القيامة لاستمرار عناد الكفرة والمشركين. والعلة ان اللّه تعالى لا يهدي من هو كاذب كفار، ومن يضلل اللّه فما له من هاد.
والظاهر ان المراد بالكاذب الذي يكذب على نفسه ويحاول مخادعتها. وفي هذا التعبير مغزى عميق فان الكفر والانكار للحق ربما ينشأ من الجهل وعدم التمكن من ادراك الحقائق، ومثل هذا يمكن ان يهديه اللّه سبحانه، وربما ينشأ من محاولة الفرار عن وجه الحق، والتشبّث بالاعذار الواهية، والتشكيك في الامور الواضحة، ليجد الانسان مفرا من التسليم للحق، لانه يستتبع امورا لا يرغب فيها من ترك الملذات والانصياع لاوامر الدين ونواهيه، فهذا الانسان يُضلّ نفسه ويكذب عليها ويخدعها.
وهناك كثير من البشر يخدعون انفسهم في ما اذا وجدوا حزازة في قبول الحق وترك ما اعتادوه، ولنضرب له مثالا واضحا وهو المعتاد على التدخين فانه يعلم اذا جرّد نفسه عن هواها ان ذلك امر ضارّ لصحته ولماله، وانه لا ينبغي لعاقل ان يرتكبه، ولكنه يخدع نفسه ويشكك في تحذيرات الاطباء بانها ناشئة من منافسة الشركات التجارية، وانها محاولة لتخسير بعضها اقتصاديا، وأنّ فلانا عاش عمرا طويلا ولم يصب بشيء مع كونه مدخنا وغير ذلك.
وهكذا غيره من الذين تستهويهم عادة مضرة اوعمل محرم حتى اللصوص وقطاع الطرق والمجرمون القتلة يحاولون تبرير عملهم في انفسهم.
والحاصل ان الكاذب هنا في ما يبدو هو الذي يكذب على نفسه ويبرر لها الكفر، ومثل هذا الانسان لا يهديه اللّه تعالى.
ولا وجه هنا للبحوث المتعارفة بين الاشاعرة والمعتزلة بان ذلك هل يستوجب الجبر او لا يستلزمه، كما لا مجال للقول بان اللّه تعالى لا يضل احدا بل يهدي الجميع ونحو ذلك من الاحاديث، فان عدم الهداية هنا امر طبيعي. والمراد انه لا يهتدي بطبيعة الحال الى الحق كما في نظائره ممن اشرنا اليهم، وكل امر طبيعي فهو من صنع اللّه سبحانه.
ووصفه ايضا بالكَفّار وهي صيغة المبالغة من الكفر. وهذا ايضا اشارة الى صفة اخرى يستوجب عدم الهداية بالطبع، وهو الافراط في الانكار والابتعاد عن القبول، فان الناس مختلفون في مواجهة ما يسمعونه من حقائق وما يلقى عليهم من مطالب، فمنهم من يصدّق كل ما يحكى له، ومنهم من ينكر ويصر على انكاره بل ربما يستغشي ثوبه حتى لا يسمع، ومنهم اناس متوسطون. وهؤلاء تمكن هدايتهم اما المعاند والمصر على الانكار من دون ان يتبين له وجه الحق فلا تمكن فيه الهداية.
وهناك آيات كثيرة تدلّ على أن اللّه تعالى لا يهدي من يعاند الحق وهذا ايضا امر طبيعي. قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الانعام: 110.
لو اراد اللّه ان يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو اللّه الواحد القهار... هذا ردّ على بعض المذكورين سابقا، وهم الذين يعتقدون ان اللّه تعالى اتخذ له ولدا، فمنهم من يرى ان الملائكة بنات اللّه سبحانه، ومنهم من يرى ان عيسى عليه السلام ابن اللّه، او يقول عزير ابن اللّه.
وهناك فرق بين كونه ذا ولد و بين اتخاذه الولد فالاول واضح البطلان لان الولد جزء من الوالد ينفصل عنه ثم ينمو حتى يكون مثله، واللّه تعالى ليس له جزء والا لاحتاج الى اجزائه في وجوده وتقوّم بها، وهو ينافي الغنى المطلق، ولانه ليس له شبيه ونظير ومثيل. والولد مثل الوالد. وقال اللّه تعالى ( لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد).
واما الثاني اي اتخاذ الولد فهو ايضا انما يصح في من يتصوّر فيه ان يكون له ولد ولكنه لم يحصل لنقص فيه فيتخذ ولدا لنفسه اعتبارا ليرفع به بعض حاجته الى الولد، وهو في نفس الوقت يشارك والده في الشؤون الاعتبارية، ولذلك اعتبر هؤلاء الملائكة والقديسين اربابا.
وكل ذلك مستحيل في حقه تعالى فهو لا يمكن ان يكون له ولد، ولا حاجة له الى اتخاذ ولد، ولا يشاركه في شؤونه احد.
وقد ورد الرد على هذه المقولة الفاسدة في الكتاب العزيز بتعابير مختلفة، منها قوله تعالى (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) البقرة: 116، ومنها قوله تعالى (قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لَا تَعْلَمُونَ) يونس: 68.
وأساس الجواب في هاتين الآيتين أن نسبة الاشياء في السماوات والارض الى اللّه تعالى نسبة واحدة وكلها ملك له ومتقوم بارادته فلا يمكن ان يكون شيء منها ولدا له مضافا الى أنه الغني المطلق فلا حاجة له الى اتخاذ الولد.
ومنها قوله تعالى (وَما يَنْبَغي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْدا) مريم: 92-93. ومعنى ذلك أنّ ما تدعونه من اولاد له تعالى في السماوات وهم الملائكة، او في الارض كعيسى عليه السلام كلهم عبيد للّه تعالى، لا فرق بينهم وبين غيرهم من هذه الجهة.
ومثله ايضا قوله تعالى (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون) الانبياء: 26-27 والمراد بهم الملائكة.
واختلف التعبير في هذه السورة عن غيرها، واختلف المفسرون في معناه.
والظاهر ان المراد انه لو فرض ان اللّه تعالى يريد ان يتخذ ولدا لاصطفى واختار من خلقه ما يشاء ليكون ولدا له، ولكن هذا مستحيل في حقه تعالى لانه اللّه الواحد القهار.
وقد مر في تفسير سورة ص ان المراد بالوحدة البساطة وعدم التركب من الاجزاء الخارجية والذاتية، وليس المراد الوحدة بالعدد فانها ليست ميزة للذات الالهية فكل شخص واحد لا يشمل غيره، بل هي في حد ذاتها يستحيل ان تكون وصفا له تعالى لانها تستلزم ان يكون له تعالى جنس ونوع الا أنه واحد في نوعه وجنسه، مع أنه تعالى ليس له جنس ولا نوع ولا يتركب من ماهية ووجود.
وبذلك يتبين انه لا يمكن ان يكون له ولد، فلا معنى لاتخاذ الولد ايضا، لما مرّ من ان ذلك انما يصح في من يمكن ان يكون له ولد، ولكنه فاقد له لنقص فيه، وهو تعالى واحد ايضا في اوصافه وشؤونه، لا يشاركه فيها احد، فلا يمكن ان يتخذ ولدا، لان الولد الاتخاذي يشارك الوالد في شؤونه الاعتبارية.
ثم انه تعالى قهار، وكل شيء خاضع لارادته، فلا حاجة له الى ولد، او اتخاذ ولد، وانما يتخذه من يشعر بالحاجة اليه، وهو تعالى لا يريد شيئا الا وهو كائن لا محالة بمحض ارادته، كما قال تعالى (مَا كَانَ للّه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) مريم: 35.