أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّه أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّه أُولئِكَ في ضَلالٍ مُبينٍ (22)
ألم تر أن اللّه أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض... يعود الى التذكير بآيات الربوبية لاثبات أن الرب هو الخالق لا غيره، لانه خلق الكون بكيفية تنشأ منها كل مظاهر الربوبية، فيثير في الانسان التوجه الى ظاهرة المطر والنبات، وهي سلسلة من الحياة تبدأ وتنتهي وتعود تبدأ من جديد، فمن هو المدبّر لها غير خالقها الذي خلق الماء على هذا الكوكب، ومعها عوامل ومؤثرات كثيرة خلقها اللّه تعالى وقدرها ودبرها بحيث تهيء الفرصة لتبخر الماء وتكثـّفه على هيئة غيوم ثم تقاطره على الارض مطرا؟
ثم سلك الماء العذب في الارض، وخلق قشرة الارض بحيث لا يجري كل هذا الماء فتعود الى البحر، ولو كان كله صخرا صلدا لم ينتفع البشر من هذا الماء، ولم ينبت زرع على الارض.
ثم لم يجعل كل طبقات الارض قابلة لتسرب الماء والا لامتصت كل هذا الماء ولم ينتفع به ايضا، بل جعلها طبقات مختلفة فجرى الماء على بعضها فصار انهارا، وتسرّب في بعضها وانتهى الى بعض طبقاتها القريبة فخرج الماء من العيون، وذهب بعضه الى طبقات سفلى وتوقف ايضا ليتمكن الانسان من استخراجه بحفر الآبار على اختلاف اعماقها.
وقوله تعالى (الم تر) خطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او لكل من يقرأ القرآن او يسمعه.
والسلوك قد يأتي بمعنى الدخول كقوله تعالى (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا..) النحل: 69، وقد يكون بمعنى الادخال كقوله تعالى (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ..) المدثر: 42. وهنا ايضا بهذا المعنى اي وأدخله في ينابيع الارض، فالينابيع منصوب بنزع الخافض.
والينبوع العين التي يخرج منها الماء. او تكون (ينابيع) حالا من الماء، اي سلكه في الارض ينابيع. والتسمية حينئذ بلحاظ حاله في المستقبل اي حال كونه ينابيع في المستقبل.
ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه... وهذا الماء يحيي الارض بالانبات فيخرج اللّه به منها زرعا مختلفا الوانه واشكاله وانواعه. ويمكن ان يراد باللون كل ذلك. والاتيان بلفظة (ثم) للدلالة على التراخي فان الزرع لا يتبع المطر مباشرة، وأتى بفعل المضارع للدلالة على الاستمرار، وأن خروج الزرع مستمر بعد نزول المطر بطرق اخرى كالسقي بمياه الانهار والقنوات والعيون، وهي كلها من المطر. والزرع مصدر يراد به المزروع اي النبات.
ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما... قيل: هيجان النبات بمعنى الصفرة. وفي معجم مقاييس اللغة انه بمعنى اليبس، وهو الصحيح لان الاصفرار جاء في الآية مترتبا على الهياج. والظاهر ان هذا المعنى لا يرتبط بالهياج بمعنى الحركة او الثوران، ويبعد كونهما من اصل واحد فان اليبس والاصفرار لا يناسبان هذا المعنى اذ يتحققان تدريجا.
ومهما كان فالمراد بهذا التعبير الاشارة الى الفناء الذي يحصل للنبات ضمن مراحل، فييبس اولا فتنتهي حياته وتكامله، ثم تراه مصفرا قد زال عنه آخر آثار الحياة وهو اللون الاخضر البهيج، ثم يجعله حطاما وهو فتات النبات اليابس تنتشر بفعل الرياح، ثم تبدأ حياة الارض من جديد. وهكذا يستمر هذا المسلسل ليذكر الانسان بربه خالق الكون ومدبره، ولو لم يشأ اللّه الحياة على هذه الارض لم تتحقق كل هذه السلسلة البديعة.
ان في ذلك لذكرى لاولي الالباب... نعم لا يتذكر من كل هذه الآيات المتكررة والتي تملأ العالم طولا وعرضا الا اولوا الالباب اي العقول. والمراد بهم الذين يتبعون عقولهم ولا يتبعون أهواءهم. فهناك كثير من الناس لا ينقصهم العقل والادراك، بل ربما كانوا من النوابغ في علوم الدنيا، ولكنهم أخلدوا الى الارض وأبهتتهم زينتها وبهرجتها، فلم يصغوا لنداء عقولهم وفطرتهم. ومن هنا فان كثيرا ممّن يعتبرون في مصطلح الناس من العلماء لا يعتبرهم القرآن من اولي الالباب وذوي العقول.
وقد مرّ أن التعبير بالذكرى والتذكر يشير الى أن الايمان باللّه تعالى وبربوبيته مما جبل عليه فطرة الانسان، ولكنه ينساه او يتناساه فيحتاج الى ما يذكّره.
أفمن شرح اللّه صدره للاسلام فهو على نور من ربه... الهمزة للاستفهام الانكاري، اي هل من شرح اللّه صدره كمن قسى قلبه؟! من الواضح انهما لا يتساويان.
وهناك فرق بين الاستفهام الانكاري والانكار رأسا، فالاستفهام باق على معناه الاصلي وهو طلب الجواب، الا أن الغرض منه هو تنبيه المخاطب على أمر هو ينكره، وان لم ينتبه الى انكاره تفصيلا فهو في الواقع يدعوه الى التصريح بالانكار.
والفاء للتفريع على ما اشير اليه في الجملة السابقة، وهو انحصار التذكر من آيات اللّه تعالى باولي الالباب، فهذه الآية تبين سبب هذا الاختصاص وهو شرح الصدر.
والشرح هو البسط والتوسعة. وانشراح الصدر: سعة النفس لتلقّي المفاهيم والحقائق، ويقابله ضيق الصدر الناشئ من التعصب والتطرف، والركون الى تقاليد المجتمع، او ما تلقاه من الاباء والاجداد اوالمشايخ والاسياد قال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللّه أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّه الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) الانعام: 125.
وهذه الآية تبيّن بوضوح ان اللّه تعالى لا يضيّق صدر احد ابتداءا، بل انّما يجعل الرجس على الذين لا يؤمنون، ولم يقل لم يؤمنوا بل الذين يستمرون على عدم الايمان. وهذا هو التعصب الاعمى وعدم الاستسلام للحق، فهذه الحالة توجب مرضا نفسيا وانطواءا يعبّر عنه القرآن بضيق الصدر.
ونلاحظ انّ الناس في مواجهة الحقائق التي تلقى عليهم مختلفون، فهناك الساذج البسيط الذي يقبل كل ما سمعه وان رفضه المنطق السليم، وهناك المعاند الذي يتأبّى عن قبول كل ما يخالف ما دأب عليه واعتاده، وهناك من يسبر الامور وينظر بنظرة الناقد البصير بعيدا عن الاهواء والتقاليد، وينصاع للحق ويرفض الباطل. وهذا هو المهتدي بنور اللّه تعالى (فهو على نور من ربه).
وهذا النور ايضا لا يحصل بدون سبب، فالانسان اذا احبّ ان يتّبع الحق ولم يتبع شهواته واهوائه حصل له هذا النور بالطبع. وكل ما بالطبع فهو من اللّه جلّ وعلا.
وقوله (على نور) تعبير يصوّر حالة الانسان، كما تقول على بصيرة او على يقين او على شك او على هدى. وليس بمعنى ركوب النور استعارة كما في الميزان وغيره.
فويل للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه... هذه الجملة تدل على معادل الجملة السابقة اي أفمن شرح اللّه صدره كالقاسية قلوبهم فويل للقاسية قلوبهم فحذف الاول لدلالة الثاني.
والويل بمعنى حلول الشر او القبح، وهو دعاء عليهم او تقبيح لحالتهم. و(من) في قوله تعالى (من ذكر اللّه) للتعليل اي بسبب ذكر اللّه، فيمكن أن يكون تعليلا للقساوة، والمعنى حينئذ ويل لمن يقسو قلبه اذا ذكر اللّه تعالى عنده.
ويمكن أن يكون تعليلا للويل، والمعنى أنّ قلوبهم قاسية بسبب آخر كالانغماس في الشهوات، ولكن الويل لهم اذا ذكر اللّه عندهم حيث ان ذكر اللّه تعالى يزيد في قساوة قلوبهم.
وقد انعكست فيهم المؤثرات فهو نظير قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) الاسراء: 82، وقوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا) الفرقان: 60.
وهذا من خصائص التعصب والتزمّت فيبلغ به الامر الى ان ما يلين القلب ويجعله خاشعا يزيد في قساوته بل تشمئزّ منه نفسه كما سيأتي في هذه السورة (واذا ذكر اللّه وحده اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة).
اولئك في ضلال مبين... اشارة الى القاسية قلوبهم. والتعبير يوحي أنهم منغمسون في الضلال وقد أحاط بهم من كل جانب فلا يمكنهم الخروج منه وهو في نفس الوقت ضلال مبين اي واضح. وأيّ ضلال أوضح من هذا، حيث يصل الانسان الى مرحلة من البعد عن اللّه تعالى يقسو قلبه بذكره؟!