مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ في‏ هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللّه مَثَلاً رَجُلاً فيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

 

ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل... المثل هو ما يشابه الشيء، ومن هنا يطلق التمثيل على التشبيه الذي يقرّب الحقائق الى الاذهان بوجه غير مباشر. وقد ضرب اللّه تعالى في القرآن امثالا كثيرة لتقريب الحقائق البعيدة عن اذهان الناس. والامثال تؤثر في نفوس عامة الناس أكثر من سرد الحقائق بصراحة.

وقوله تعالى (من كل مثل) مبنيّ على المبالغة اذ ليس فيه كل الامثال، او المراد انه ضرب الامثال لكل امر يحتاج اليه الانسان في طريقه الى طلب مرضاة اللّه تعالى والوصول الى أعلى درجات الكمال، فهو نظير قوله تعالى في ملكة سبأ (واوتيت من كل شيء) اي مما يحتاج اليه الملك لبسط السلطة والقدرة.

لعلهم يتذكرون... اي انما ضربنا الامثال من اجل تذكيرهم بتلك الحقائق المودعة في فطرتهم، فالتذكّر يتعلّق بما يعلمه الانسان ثم ينساه. والقرآن ينبّه في اكثر من موضع على هذه الحقيقة، وهي أنّ فطرة الانسان تدعوه الى الايمان باللّه تعالى وتوحيده الا أنه يغفل عنه بالتوغّل في الشهوات. وقد مرّ أن (لعل) ليس للترجّي كما يقال، بل للتنبيه على الارضيّة الصالحة.

قرآنا عربيا... (قرآنا) حال مؤكدة فانه حال للقرآن في الجملة السابقة وذلك كقولهم جاءني زيد رجلا صالحا. و(عربيا) حال ايضا يبين صفته. وهذه صفة واضحة لا حاجة الى بيانها، وانما ذكرت للتنبيه على وجود عناية بكونه عربيا دفعا لكل عذر منهم، حيث كانوا يتأبّون الانصياع الى ما يلقى اليهم بلسان غير عربي تعصبا وجمودا.

غير ذي عوج... اي لا يشتمل على كذب اوباطل اوخطأ. وذكر علماء العربية أن العوج بكسر العين يختص بالمعاني وبفتحه يشمل الالفاظ، فالتركيز هنا ليس على فصاحة اللفظ بل على صحة المعاني. ولعله انما لم يقل غير معوج للتأكيد على النفي اي ليس فيه شيء من الاعوجاج، وهو ابلغ ايضا من المستقيم اذ ربما يوصف كتاب بالاستقامة وان اشتمل على اخطاء يسيرة، والكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

لعلهم يتقون... فالهدف منه ايجاد الارضية الصالحة للتقوى في نفوسهم، وذلك من جهة اتمام الحجة عليهم بأنه كتاب من عند اللّه تعالى، لما يشاهدونه فيه من الاستقامة في كل النواحي وعدم اشتماله على أي باطل. وهذا مما لا يمكن أن يتصف به نتاج الفكر البشري.

ضرب اللّه مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل... هذا المثل ضربه اللّه تعالى للمشرك والمؤمن او لأصل عقيدة الشرك والايمان..

فالمشرك يشبه عبدا يملكه عدة اشخاص بينهم مشاكسة وتنازع، فكل منهم يطلب منه امرا غير ما يطلبه الاخرون، بل ربما ينهاه عما يامر به غيره فهو حائر بينهم، ومن جهة اخرى لا يدري الى ايهم يرجع في طلب رزقه فكل منهم يحيله الى غيره، وهكذا المشرك الذي يعتقد انّ هناك اربابا متفرقين لهذا الكون، فهو لا يستقرّ على جهة، ولا يعلم وجهة مسيره، فتتفرق به الاهواء، وتتجاذبه الميول والنزعات.

واما المؤمن فيشبه عبدا ملكا خاصا لرجل، فهو سلم له اي مسلم امره اليه، او السلم بمعنى الخالص كما قيل، فوجهة سيره واضحة، ومولاه واحد، لا يطيع غيره، ولا يطلب رزقه وحاجته الا منه.

هل يستويان مثلا... (مثلا) تمييز. اي هل يستوي هذان العبدان في كونهما مَثَلين؟! اي من كان يشبه الاول كمن يشبه الثاني؟ والاستفهام انكاري، اي انهما لا يستويان. فكذلك لا يستوي المشرك والمؤمن في مآل امرهما وفي منهج حياتهما.

الحمد للّه... الالف واللام للجنس اي كل الثناء للّه تعالى الذي هو المدبر للكون الواحد ذو النظام الواحد المتناسق، ولو كان فيهما آلهة الا اللّه لفسدتا، ولاختلّ النظام الكوني ولم يشاهد فيه هذا التناسق البديع.

بل اكثرهم لا يعلمون... اضراب عن بيان عدم الاستواء الى أنه مع كمال وضوحه لا يعلمه أكثرهم. اي إنّ اكثر المشركين لا يعلمون أنّ تدبيرهم من الواحد الاحد فيعبدون غيره جهلا بحقيقة الامر. وانما قال اكثرهم لانّ منهم من يعلم ذلك ولكنه لا يجد من مصلحته ان يسلم امره الى الاله الواحد.

انك ميت وانهم ميتون... اي انّ مآل جميعكم الموت، وهذه حقيقة واضحة ينبه عليها القرآن الكريم ردّا لاقوال المشركين، حيث كانوا يتربّصون بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم الموت، ويستبشرون به وبخلاصهم بعده، فيردّ عليهم مخاطبا الرسول تسلية له وتقوية لعزمه: انك ميت وانهم ميتون... كما قال تعالى في موضع آخر (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) الانبياء: 34، فالموت للجميع ولا أحد يبقى على وجه الارض، ولكن الموت ليس النهاية. ولو كان كذلك كان الفائز دائما هو الظالم المستبدّ.

ثم انكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون...اي ان ما بعد الموت يوم ومرحلة من الحياة تقومون فيه أمام ربكم الذي ربّاكم ليوصلكم الى غاية كمالكم، وهناك في ما بين الاقوام والافراد مخاصمة ومحاكمة، وهناك تتجلّى الحقائق فيلقى كل أحد وكل قوم مصيره المحتوم. فالخطاب في قوله تعالى (تختصمون) عامّ في ذاته ويشمل جميع البشر، وان كان الغرض هنا التطبيق على فريقي المؤمنين والمشركين في عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.