مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللّه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ في‏ جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرينَ (32) وَالَّذي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللّه عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)

 

فمن أظلم ممن كذب على اللّه وكذّب بالصدق اذ جاءه... هذا تفصيل للتخاصم المذكور في الآية السابقة. ونتيجة المخاصمة واضحة فاحد الطرفين كذب على اللّه تعالى، ونسب اليه الولد، وجعل له شركاء، وشرّع من عنده احكاما ونسبها الى اللّه، ولمّا أتى بالاعمال السيّئة قال ان اللّه أمره بها، ولما جاءه الصدق اي كتاب اللّه ورسالته التي بعث بها نبيه فاجأه بالتكذيب. والصدق هو النبأ الصادق، والتعبير عن الكتاب بالصدق للتأكيد على أن علامة صدقه واضحة.

والمفاجأة تتبين من قوله اذ جاءه، اي في ظرف المجيء فلم ينتظر حتى يتبين له الحق من الباطل، بل كذّب به منذ ان سمعه على استعجال لانه لا يلائم هواه، وهكذا شأن متبعي الاهواء في كل مجال.

فمن اظلم ممن كان كذلك؟ سؤال على نحو التقرير، يعني ليس هناك من هو اظلم منه. وقد قلنا سابقا ان الظلم لا يتوقف صدقه على وجود من يقع الظلم عليه، فلا حاجة الى القول انه ظالم لنفسه، اذ لا يصح ما اشتهر من انه ظلم على اللّه، لان اللّه تعالى لا يقع عليه الظلم كما قال تعالى (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) البقرة: 57 فالظلم هو وضع الشيء في غير موضعه خلافا للعدل، وهذا الكاذب على اللّه المكذب لرسالة السماء اظلم البشر.

بل هو أظلم للمجتمع ايضا لان تسرّعه في تكذيب الرسالة يحرّض الآخرين على التكذيب، وهو بذلك يصدّ عن سبيل اللّه، وهذا الظلم أدهى من قتل الناس قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّه وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّه وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ..) البقرة: 217.

أليس في جهنم مثوى للكافرين... هذا جزاء احد المتخاصمين لدى المحاكمة. وهو ايضا استفهام تقريري، ومعناه ان هذا هو جزاؤه. والاستفهام التقريري محاولة لاخذ الاقرار من المخاطب، ومعناه أنه من الوضوح بمكان لا يسع المخاطب انكاره. والمثوى اسم مكان من الثواء اي الاقامة والاستقرار. و(جهنم) علم للنار التي أعدها اللّه تعالى للظالمين.

وما ادراك ما جهنم؟ نحن لا نعلم حقيقتها، ولكنها مهما كانت فانها تكفي جزاءا لكل من ظلم مهما اتسعت دائرة ظلمه وطغيانه. ان اللّه تعالى يقول: (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) البقرة: 206. انها تكفي عذابا لكل ظالم، فلا يعلم احد ما تشتمل عليه الا اللّه تعالى.

والذي جاء بالصدق وصدّق به... الخصم الآخر جاء بالصدق من عند ربه اي بالحق وهو القرآن الكريم، فاما ان يكون المراد به الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم او كل من جاء بالصدق من الرسل عليهم السلام. واما احتمال ارادة كل الدعاة الى اللّه ــ كما قيل ــ فبعيد لان التعبير بالمجيء بالصدق ظاهر في اول اعلان به لا كل من تلاه.

وفي المراد بمن صدّق به احتمالان:

الاول: انه هو نفس من جاء بالصدق اي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، لانه بنفسه اول من يصدّق بما جاء به، ولأن ظاهر وحدة الموصول انّ المجيء بالصدق والتصديق به صلتان للموصول تعبران عن شخص واحد اجتمع فيه الوصفان.

والاحتمال الثاني أن المراد بالموصول الفريق الذي جاء بعضهم بالصدق وهو الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، وصدّق به بعضهم وهم المؤمنون الصادقون، ولا يختص بالصحابة، بل يشمل كل من صدّق بالرسالة في جميع الاعصار.

وهذا الاحتمال هو الصحيح، وذلك لانه اذا كان المراد بهما النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يصحّ التعقيب بقوله تعالى (ليكفر اللّه عنهم أسوأ الذي عملوا). وكذلك لا يمكن حمله على سائرالانبياء لنفس السبب.

وفي بعض الروايات انّ المراد بمن صدّق به أمير المؤمنين عليه السلام. [1] والظاهر انه من باب اوضح المصاديق لانه اول من آمن، وافضل من صدق، وجدّ في تصديقه، ودافع عنه، وضحّى في سبيله. ولا يصحّ عندنا حمله على التعين لنفس القرينة السابقة، وهي أن آية التكفير تدل على عدم عصمة المصداق وأمير المؤمنين عليه السلام معصوم بحكم آية التطهير وغيرها.

اولئك هم المتقون... اي ان التقوى هي التي ساقتهم الى الصدق والتصديق، ليس لهم دافع آخر من حب او تعصب. والجملة لاشتمالها على ضمير الفصل تدل على الحصر وأن المتقي لا ينطبق على غيرهم لان من لا يصدّق بالصدق ليس الا كذّابا بعيدا عن التقوى.   

لهم ما يشاؤون عند ربهم... هذه الآية تبيّن جزاءهم. وفي قوله تعالى (عند ربهم) احتمالان:

الاول: أن يكون قيدا لقوله (لهم ما يشاؤون) والمعنى أنّ الذي تعهّد بأن يؤتيهم كل ما يشاؤون هو ربّهم وهو اللّه خالق الكون. وفائدة هذا القيد التأكيد على تحقق هذا الجزاء لان اللّه تعالى هو المتعهد به.

والاحتمال الثاني: أن يكون حالا عنهم، والمعنى لهم ما يشاؤون حال كونهم عندربهم، فهم اولا عند ربهم كما قال تعالى (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) القمر: 55، وهذا غاية المنى وأفضل الثواب. والتعبير بالربّ يفيد أنّ ذلك مقتضى تربيتهم فقد ربّاهم ربّهم الى أن بلغوا غاية الكمال البشري كل منهم حسب طاقته ومقوماته، والغاية القصوى هو الكون عند الربّ بالمعنى الذي لا يبلغه عقولنا القاصرة.

وثانيا لهم ما يشاؤون في تلك النشأة، والظاهر ان المراد بما يشاؤون هو النعيم وانحاء النعم المادية. واما الدرجة والقرب لدى اللّه سبحانه فلا يشمله بقرينة قوله تعالى (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ق: 35، وحيث ان رغبة الانسان في النعيم وتوسعه فيه لا حد له فالظاهر انّ المراد بالمزيد ما لا يعلمون حقيقته ليرغبوا فيه ويشاؤوه، وهو الدرجة الرفيعة والمقام القريب عند اللّه تعالى، وهو افضل الجزاء على الاطلاق، بل هو اصل النعيم ولا نعيم بدونه.

وبذلك لا يبقى مجال للسؤال بانه اذا اراد بعضهم بلوغ درجة الانبياء مثلا فكيف يستجاب له؟! وذلك لأن الذي يؤتون منه كما يشاؤون من دون تحديد ليس درجة القرب لدى اللّه تعالى والكمال البشري بل النعم المادية.

ولا حاجة الى الجواب بانهم لا يشاؤون ذلك لانهم لا يحملون في طياتهم حسدا وطمعا كما قيل، بل لا يصحّ ذلك لأن مشيئة ذلك قد لا ينشأ من الحسد.

ذلك جزاء المحسنين... لم يقل (ذلك جزاؤهم) بل أبدله بالاسم الظاهر تنبيها على السبب في تعيين الجزاء. والمراد ان هذا جزاءهم بسبب احسانهم، ولعله لذلك اتى بهذه الجملة مستقلة من دون العطف على الجملة السابقة ليدل على ان مضمونها حكم آخر.

والمحسن: الذي أحسن عمله، ففيه اشارة الى عدم كفاية الايمان والتصديق قولا، وبذلك يكون هذا التعبير مخصصا ايضا. واحسان العمل بالاخلاص في النية.

ليكفر اللّه عنهم أسوأ الذي عملوا... اللام للتعليل، والظاهر انه متعلق بما قبله، اي انما جعل اللّه جزاء المحسنين ذلك ليكفر عنهم أسوأ ما عملوا.. فان تكفير السيئات مما يشاؤونه.

وقيل فيه بوجوه اخرى ضعيفة.

واذا كان اللّه يكفر عنهم أسوأ ما عملوا فيكفر غيره بطريق اولى. ولعل فيه اشارة الى أنّ أسوأ ما يعملون انما هو من الصغائر التي يشملها التكفير كما قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) النساء: 33.

ويمكن أن يكون الأسوأ منسلخا عنه معنى الافضلية فيكون بمعنى السيء اي ليكفر اللّه عنهم سيئات ما عملوا.

ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون... قيل: معناه أنّ اللّه تعالى يجزي كل اعمالهم بجزاء احسنها فيجعل ذلك مقياسا لثواب كل عمل.

ويحتمل ان يكون من باب الاضافة الى غير الجنس اي بجزاء احسن مما كانوا يعملون كما قال تعالى (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا) النمل: 89.

ويمكن ان يكون الجزاء مبينا لدرجة قربهم وهو الجزاء الاوفى، اي انه تعالى يجعل درجة قربهم لديه على اساس أحسن ما كانوا يعملون، فهو مقياس تعيين درجة كل واحد منهم.

 

[1]  ورد ذلك في مجمع البيان نقلا عن أئمة اهل البيت عليهم السلام وفي تفسير القمي. ورواه ايضا في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابي هريرة