مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

انا انزلنا عليك الكتاب للناس بالحق... امر رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم في الآية السابقة ان يتبرأ من القوم ومن اعمالهم، ويفصل بين مسيره ومسيرهم. وفي هذه الآية يعود فيذكّرهم بانّ طريق الهداية مفتوح للجميع، وللّه الحجة البالغة. وهذا الكتاب المنزل المصاحب للحق بما يشتمل عليه من حقائق غيبية وشرائع واحكام انما انزله اللّه تعالى على رسوله للناس، اي ليهتدي به الناس.

فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فانما يضل عليها... اي انّ هذا الكتاب نور لمن اراد الاستنارة، ولا تنفع اللّه هدايتهم ولا يضره ضلالهم. فمن اهتدى فانما يهتدي لنفسه اي ان في ذلك مصلحته. وأكّد الامر في الضلال بتكراره وتقديم (انما) المفيد للحصر على ما قيل، حتى لا يتصور انّ لضلالهم ضرر على احد غيرهم.

وما انت عليهم بوكيل... اي لست موكلا عليهم ومسؤولا عنهم وعن هدايتهم انما عليك البلاغ. وقد تكرّر التركيز على هذا الامر في الكتاب العزيز تسلية للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم حتى لا يشعر بتقصير في أداء الرسالة ان هم لم يؤمنوا.

ومن جهة اخرى يؤيسه منهم لئلا يحاول المستحيل لهدايتهم، فهو ليس مسؤولا ولا مسيطرا عليهم وعلى قلوبهم، انما الامر بيد اللّه تعالى.

اللّه يتوفى الانفس حين موتها... الجملة مبدوّة باسم الجلالة لانّ التركيز هنا على بيان ربوبيته تعالى وتدبيره للكون، ليكون حافزا للقوم يبعثهم الى عبادته تعالى وترك عبادة الاصنام.

ويتعرض بهذا الصدد لموضوع يخصّ الانسان ويتجدّد كل يوم، وهو مفارقة النفس للجسم في حال النوم. وقد ورد مثله في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى..) الانعام: 60.

والتوفّي هو الاخذ الكامل ومثله الاستيفاء. والنفس قيل: انها هي الروح، ولكن يظهر من الروايات اختلافهما كما سياتي ان شاء اللّه تعالى.

وعلى كل حال فالنفس في اصل اللغة بمعنى ما به الحياة على الظاهر، ولذلك يطلق على الدم، ولعله الاصل فيه، ولكنه يطلق ايضا على حقيقة الشيء وذاته. و كل ما ورد في القرآن بهذا المعنى، وعليه فالمراد هنا هو الذات البشرية التي يشير اليها كل احد بضمير المتكلم (انا) ويضيف اليها كل اعضائه وجوارحه.

وتوفي النفس نسب في القرآن تارة الى ملك الموت، وتارة الى ملائكة الموت، او الى رسلنا. وهنا نسب الى اللّه تعالى. وفي الروايات انّ هناك ملكا من الملائكة المقربين بيده امر هذه المهمة اي قبض ارواح البشر، ويسمى عزرائيل. وتحت ادارته مجموعة من الملائكة، والكل بامر اللّه تعالى. ومن باب التشريف والتكريم ينسبه اللّه سبحانه هنا الى نفسه راسا.

وتوفي النفس او ما يدعى بقبض الروح ليس هو الموت كما يتوهمه الناس. وملك الموت ليس مأمورا بالاماتة، بل الموت يحصل باسبابه الطبيعية، ولكن ملك الموت مأمور بقبض روحه حين موته. وهذا بذاته تكريم للانسان وللروح الالهي الذي نفخ فيه.

والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى الى أجل مسمى... اي يتوفى في حال النوم النفوس التي لم تمت، فاذا قضى عليها الموت يمسكها فلا تعود الى الجسم، ويرسل ما لم يقض عليها بالموت اي يتركها لتعود الى الجسم، وينعم الانسان و يتمتع بحياته الى اجل مسمى ومحدود، اي الى الزمان الذي قدّر فيه أن يموت.

وهذه الآية صريحة في أنّ حقيقة الانسان ليست بجسمه الذي يموت ويفنى، بل حقيقته المعبّر عنها بالنفس على ما أسلفنا هي ذلك العنصر الذي يتوفّاه اللّه تعالى اي ياخذه كاملا حين الموت بل حين النوم ايضا، والجسم انما هو مركب له ويتعلق به نحو تعلق لا نعلم كيفيته. ويتبين من الآية ان ذلك العنصر ينفصل عن الجسم في الموت، بل والنوم ايضا ثم يعود اذا لم يقض عليه بالموت.

والنوم من غرائب هذه الحياة. ومهما كان سببه الطبيعي فان ما يحصل عنده حسب هذه الآية هو انفصال النفس عن الجسم، ويبقى في الجسم ما تتقوم به الحياة ما لم يقض عليه بالموت، وهذا غير ما هو نفسه وحقيقته، فهذا امر يشاركه فيه كل حيوان، كما انّ النوم ايضا لا يختصّ به. فالانسان النائم كالانسان الميت من حيث انفصاله عن الجسم وان كانت الروح التي بها قوام الحياة باقية فتجده يتنفس ويتحرك وتعمل كل اعضائه وقواه الداخلية الا انه لا يشعر بما يدور حوله، ولا يسمع ولا يبصر. نعم ربما يتأثّر بصوت ونحوه فينهض وحينئذ تعود العلاقة بينه وبين الجسم.

وهذا ما صرّح به في بعض الروايات كما في مجمع البيان عن العياشي بسنده عن الامام الباقر عليه السلام (ما من احد ينام الا عرجت نفسه الى السماء وبقيت روحه في بدنه، وصار بينهما سبب كشعاع الشمس فان اذن اللّه في قبض الارواح اجابت الروح النفس، وان اذن اللّه في ردّ الروح اجابت النفس الروح، وهو قوله سبحانه [ اللّه يتوفى الانفس حين موتها ] فمهما رأت في ملكوت السماوات والارض فهو مما له تأويل، وما رأت في ما بين السماء والأرض فهو مما يخيّله الشيطان ولا تأويل له). وهذه الامور ممّا يدعو الانسان الى التفكّر في أمر النوم والموت، وأنّ شؤون الانسان تحت تدبير ربّ حكيم.

ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون... تبيّن بعض ما في ذلك من الآيات التي تدل على ربوبيته تعالى. ومنها الرؤيا الصادقة كما أشار اليه الامام الباقر عليه السلام في الرواية المذكورة. وما يجده الانسان في المنام من انشطة الروح.

ويقال انّ الانسان بمجرّد ان يغلبه النوم يرى الاحلام، وهي في الغالب أماني الانسان ومخاوفه تتجسم له وهو يتأثّر بها من حيث لا يشعر، ولكنه لا يتذكّر شيئا مما يرى، وانما يتذكر ما يجده في آخر لحظة حيث يكون بين النوم واليقظة، اي تكون نفسه في حال الارتباط الضعيف بالجسم. واما ما يراه في حالة الانقطاع الكامل اي توفّي النفس فلا يتذكر منه شيئا. وغالبا مّا يؤثر في الرؤيا ما يحدث حول الانسان النائم، والسبب فيه هو ما ذكرنا من انه بين اليقظة والمنام.

ومهما كان فالمنام في بعض موارده نافذة الى الغيب يجد الانسان فيه ما يتحقق بعد ذلك بمدة قليلة او كثيرة، فربما يجده بصورته الواقعية، وربما يجده بصورة اخرى، ولكنه نفس الحقيقة تتجسم له بصورة غير صورته الاصلية. وهذا اي تبديل الصور ايضا من غرائب انشطة النفس البشرية.

وهناك في القرآن موارد من الرؤيا الصادقة كالرؤيا التي رآها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، قال تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ..) الاسراء: 60، وورد في الروايات انه رأى بني امية ينزون على منبره نزو القردة.

وقال تعالى (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّه فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ..) الانفال: 43.

وفي موضع آخر (لَقَدْ صَدَقَ اللّه رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّه آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ..) الفتح: 27.

وكذلك رؤيا سيدنا ابراهيم عليه السلام حيث امر بذبح ابنه، ورؤيا يوسف عليه السلام (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) يوسف: 4، ثم كان تاويله ما ورد في قوله تعالى (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا..) يوسف: 100. ورؤيا ملك مصر الذي فسره يوسف عليه السلام، ورؤيا صاحبي يوسف في السجن.

وكل منا يعلم موارد من الرؤيا الصادقة رآها هو او سمعها من اصحابه.

ومن الغريب انّ كل ما تجده من الرؤيا الذي ربما يستغرق ساعة او اكثر تجده كله في لحظة واحدة. وقد مرّ في حديث الامام الباقر سلام اللّه عليه السرّ في الفرق بين الرؤيا الصادقة وغيرها.