قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
قل اللهم فاطر السماوات والارض عالم الغيب والشهادة انت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون... الظاهر أنّ هذه مناجاة اُمر بها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كردّ فعل لاستبشار المشركين واشمئزازهم المقزّز لنفسه الطاهرة. ولعله امر بأن يقولها امامهم ليكون فيه اعراض عنهم، فهم لا يستحقون الخطاب بعد هذا الكفر الواضح وان كان الموضوع مما تكرر الاعلان عنه.
وقدّم الوصفين لان كونه فاطر الكون مما يعترف به الخصم، وهو الدليل كما مر في الآيات السابقة على ربوبيته، وهو ايضا الدليل على حكمته التي تقتضي ان لا يكون الخلق عبثا، فلا بد من يوم تظهر فيه الحقائق، ويرتفع فيه الاختلاف، ويتبين به الحق ناصعا واضحا. ومن ذلك اختلافه معهم في العقيدة.
واللّه عالم الغيب والشهادة يعلم مكنونات الضمائر، فهو الحكم العدل بين العباد يوم القيامة. وقد مرّ ان الحكم بين العباد انما هو بظهور الحقائق علنا.
ولو انّ للذين ظلموا ما في الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة... حيث اشار في المناجاة السابقة الى يوم القيامة تعرّض هنا لحال المشركين هناك وعمّم الحكم لكل الظالمين، وهو عنوان يشملهم لما مرّ من انّ الذي يكذب على اللّه ويكذّب بالحق هو اظلم الناس، فهو يوم القيامة يرى من فظاعة العذاب ما لو كان يملك كل ما في الارض لافتدى به.
والغرض بيان أنّ الانسان هنا وفي هذه الحياة يستخفّ بالآخرة ويستخف بعذابها، ويرجّح التنعّم بملذّات الدنيا على اتّقاء ذلك العذاب، وتعجبه بهرجة هذه الحياة ونعمها من مال وولد وجاه ومنصب والقاب وغير ذلك، فاذا رأى فظاعة العذاب هناك هانت عليه كل ما في الدنيا من نعيم وهناء، وهو مستعدّ لأن يفتدي بكل تلك النعم حتى لو كان يملك ضعف ما في الارض ليتخلّص من هذا العذاب.
ولكنه تنبّه بعد فوات الأوان فليته كان في الدنيا يتنبّه لذلك قليلا ويقتصر من نعيم الدنيا على حلاله على الاقلّ، ان لم يتزهّد حتى في بعض الحلال ويقتصر على مقدار الضرورة، كما كانت سيرة الانبياء والاولياء. والقرآن ينبّه البشر على هذه الحقيقة التي ستنكشف له بعد حين حتى لا يحتجّ بانّه كان غافلا عن ذلك.
وبدا لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون... اي ظهر لهم من عذاب الله ونقمته ما لم يحسبوا له حسابا، وما كانوا يظنّون أنّ الله تعالى يفعل بهم ذلك. نعم! الذي يراه الانسان هناك ويبدو له من عذاب اللّه فوق تصوّره وتقديره، كما ان نعيم الجنة ايضا ليس كما نتوهم، قال تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ..) السجدة: 17.
ويمكن أن يكون منشأ عدم الاحتساب أن الانسان يمنّي نفسه في هذه الدنيا برحمته تعالى واستغنائه عن تعذيب عباده. وهذا ما نسمعه مكررا من أبناء الدنيا واللاهين بنعيمها فانهم يستبعدون محاسبة الله تعالى لهم على هذه الدقائق الموجودة في الشرع، بل يستبعدون أن يعذّب الله تعالى أحدا بالنار. وربما يستهزئون بما يرد في النصوص من التهويل بعذاب جهنّم وبسائر أنحاء العذاب المصرّح به في القرآن الكريم والاحاديث الشريفة، ونسمع ذلك حتى ممّن يدّعون الاسلام ممّن استهوتهم العلمانية وارتدّوا في بواطنهم عن الدّين وان لم يتجرّأوا على التصريح.
وبدا لهم سيئات ما كسبوا... وهذا مما يزيد في فظاعة العذاب فان الافجع للانسان ان يعلم أنّ ما صنعه هو نفس العذاب، وأنّ عذابه صنيعة يده، ولكنّه في هذه الحياة يرى وجها آخر من عمله فلا يرى فيه قبحا ولا فظاعة، بل هو وجه جميل يتلذّذ من منظره، او هو أكلة لذيذة، او تمتع، او فخفخة في الالقاب، او بناء عظيم، او كرسيّ في البرلمان او تقلّد لوزارة او غير ذلك، ولكن وجهه القبيح يظهر في تلك النشأة فالانسان يرى نفس عمله ويتمنى لو كان بينه وبينه امدا بعيدا (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليُروا اعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).
وأفظع من ذلك اذا كان يتصور في هذه الحياة ان ما يصنعه جميل حتى في تلك النشأة، وربما يتعب نفسه او ينفق ماله، بل ربما يضحّي بنفسه ليعمل عملا يراه جميلا، ويتعبّد الله به وهو من اكبر الجرائم، فهذا يخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) الكهف: 103 ــ 104.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون... حاق بهم اي نزل بهم، من حاق يحيق، اي نزل به عاقبة فعله او مكره. قال تعالى (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فاطر: 43.
وقيل: بمعنى أحاط به. وعليه فلعله مأخوذ من الحوق، وهو بمعنى الاحاطة، فقلب ياءا. والذي استهزأوا به هو عذاب جهنم أعاذنا اللّه منها.