خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْري لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ في بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ في ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللّه رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
يعود السياق الى منع عبادة غير اللّه تعالى على اساس ان العبادة انما يستحقها الرب المدبر المنعم على الانسان. وفي هاتين الآيتين اشارة الى بعض وجوه تدبيره تعالى في الخلق، ويفرع عليه ان من يكون كذلك هو الرب وهو المعبود، ويشير الى ان خلقه تعالى للكون مستمر والتدبير ايضا منه لانه يتبع الخلق.
ويردّ بذلك على التفكير السائد لدى الوثنية من ان اللّه تعالى خالق الكون، ولكنه ليس هو الرب المدبر بل لكل شأن من شؤون الكون ربّ يدبره. وهذا التفكير الشركي موجود لدى كثير من جهلة الموحدين ايضا كما ذكرنا وان لم يصرحوا به بل صرحوا بخلافه. والقرآن يريد ان يزيل كل اثر من آثار الشرك فلا يخاف الانسان شيئا الا ربه، ولا يرجو الا ربه، ولا يعبد الا ربه، وهو اللّه الواحد القهار.
خلق السماوات والارض بالحق... الظاهر أن السماوات والارض عبارة عن كل الكون، إما بلحاظ أن السماوات تعبير عن العالم العلوي اي ماوراء الطبيعة، والارض عبارة عن العالم السفلي بجميع ادواره وطبقاته وعوالمه، وإما بلحاظ أنه تعبير كنائي باعتبار أنّ الانسان لايرى حوله الا سماءا فوقه وارضا تحته.
والمراد بقوله (بالحق) انه تعالى خلق الكون لغاية ولم يخلقه باطلا، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا...) ص: 27. وهذا مقتضى حكمته تعالى فهو لا يخلق عبثا ولعبا، كما قال تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) المؤمنون: 115، وقال ايضا (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) الانبياء: 16.
وهذا يدل على أنّ الخالق هو المدبر وهو الرب، فان القول بان الخالق لا يدبر الكون يستلزم ان يكون الخلق عبثا ومن دون تدبير وغاية وهدف، ولذلك نسبه الى ظن الذين كفروا في سورة ص.
وهذا التوهم لا يختص بعبّاد الاوثان بل نجد في هذا العصر المبهورين بالعلوم والاكتشافات البشرية يظنون مثلا ان نظرية التطور بديلة للقول والاعتقاد بان للعالم خالق ذكيّ، فيردّ عليهم بعض المعتقدين باللّه بعدم المنافاة لامكان ان يكون اللّه خالقا للكون على اساس قانون التطور، وربما يخطر بالبال لدى بعضهم ان اللّه تعالى خلق الكون واوكل امر ادارته الى النظم والقوانين الكونية، وانه لا يتدخل فيها بل ربما نسمع من بعض الناس ما يدل على الاعتقاد بعجزه تعالى عن التدخل، بل لا يبعد ان يكون ذلك دفينا في قرارة نفوس كثير من المؤمنين باللّه تعالى (وما قدروا اللّه حق قدره..).
والقرآن يؤكد ويركز على ان اللّه الخالق للكون هو الرب المدبر لكل شؤونه. والدليل عليه هو ما أشارت اليه هذه الآية من ان خلقه للكون ليس عبثا ومن دون هدف وغاية. وهذا مقتضى حكمته فلو لم يكن مدبرا للكون، ومراقبا لما يفعله الانسان، وما يدور في خلده، وتنطوي عليه نفسه، ليوصله الى غايته في الحياة الاخرى، وليضعه موضعه الصحيح، ومرتبته الواقعية لكان الخلق عبثا وبلا غاية. وهكذا يتبين بوضوح ان اللّه الخالق هو المدبر.
يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل... هذا بيان لبعض التدبير الربوبي الناشئ من الخلق، فيكون دليلا على ان الخالق هو المدبر، فقد خلق الارض والشمس بكيفية ينشأ منها الليل والنهار، ويتبادلان المكان والزمان، فاستمرار تكوّن الليل والنهار واختلافهما ــ وهو من شؤون التدبير والربوبية ــ يتبع الخلق.
وعبّر عن خلق الكون بفعل الماضي، وعن التكوير بالمضارع لانه مستمر في الحدوث والتبدل. ولذلك ايضا عاد فعبّر بصيغة الماضي عن تسخير الشمس والقمر.
وقد عبّر اللّه سبحانه عن هذه النعمة وهذا التدبير في موضع آخر بقوله تعالى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) الاعراف: 54، وفي مواضع باختلاف الليل والنهار وفي سورة يس بانسلاخ النهار من الليل.
والتعبير هنا ربما يفهم منه الاشارة الى كروية الارض، فان التكوير بمعنى الادارة واللفّ والليّ يقال: كار العمامة على رأسه وكوّرها اي لفّها على رأسه، فكأنّ التعبير هنا يشير الى منظر الليل والنهار لمن يشاهدهما خارج الكرة الارضية، وهما يلفّان عليها ويتبادلان المكان. ولذلك أوّل المفسرون القدامى هذا التعبير ليناسب تصورهم للارض.
ومثله قوله تعالى (يطلبه حثيثا) اي سريعا فانه لا يتحقق الا على فرض الكروية حيث يجد الملاحظ ان الليل يتعقب النهار يطلبه مسرعا ولا يصل اليه ولا تنتهي الملاحقة.
ويجب أن ننبه على أنّ القرآن ليس كتابا علميا يوضح هذه الحقائق ولم ينزل بهذا الهدف والا لذكر الحقائق كاملة ولم يبق للبشر مجال للتطور والتقدم العلمي. وانما يتبين من هذه الملاحظات أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر وانما هو كتاب اللّه تعالى خالق الكون.
وسخّر الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمى... ربما يكون المراد من التسخير خلقهما مسخّرين اي منضبطين تحت القوانين الكونيّة بارادة اللّه، كما قال تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ..) الاعراف: 54، ويمكن ان يكون المراد تسخيرهما للانسان كما قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ..) ابراهيم: 33، والمراد تسخيرهما لصالح الانسان اذ ليس امرهما بيده كما هو واضح.
وعلى كل حال فتسخير الشمس والقمر وجريهما بانتظام يحقق منافع عظيمة للانسان الذي اراد اللّه تعالى له ان يعيش على هذا الكوكب ويبلغ هنا كماله المتوخّى له بالعبادة واطاعة اوامر اللّه سبحانه.
وقوله تعالى (كل يجري لأجل مسمى) يمكن ان يكون اشارة الى هذا النظام الذي لا يمكن ان يتجاوزه الكون، بمعنى ان جريهما في كل حالة وفي كل مدار محدود باجل وغاية زمنية خاصة.
ويمكن ان يكون اشارة الى زوال هذا النظام بامره تعالى، فالمراد بالاجل نهاية الكون، وانه ليس امرا ابديا كما لم يكن ازليا. وهذا مما يصرّ الكتاب العزيز على التنبيه عليه كلما تعرّض لبيان الامور الكونية. والتعبير بكون الاجل مسمى للدلالة على ان اجله معين معلوم عند اللّه سبحانه لا يتجاوزه قيد انملة.
وقد مر سابقا أنّ هذا التعبير ربما يتوهّم منه المنافاة لما وصل اليه العلم البشري من أنّ ما نشاهده من حدوث الليل والنهار وتغيّر الفصول ليس نتيجة لجري الشمس والقمر، بل هو نتيجة لحركة الارض ودورانها حول نفسها. ولذلك حاول بعضهم ان يرفع المنافاة بتأويل ان الايات تشير الى حركة الشمس وجريانها مع كواكبها في مدار آخر لا دورانها حول الارض.
ولكنّ الصحيح انّ الآيات تشير الى نفس هذا الجري الذي يتكوّن منه الليل والنهار والفصول، وذلك ظاهر واضح من آيات كثيرة ولا حاجة الى التأويل. وذلك لان المقصود ليس بيان حقيقة كونية، والقران لا يهدف الى ذلك نهائيا، فهو كسائر الكتب السماوية ليس كتابا علميا، وليس من اهداف الدين وغاياته مساعدة الانسان في المجال العلمي، بل هذا مجال متروك له لينتزع لقمة عيشه ومقومات بقائه من بين الشوك والحجر على هذا الكوكب الغامض، وفي ظل هذه القوانين المستعصية، وانما شأن الدين ان يهدي الانسان لما لا يمكنه الوصول اليه مهما سبر أغوار العلم وبلغ القمّة فيه، وهو ما يهيّء له الحياة السعيدة الابدية في النشأة الاخرى.
وعليه فما يرد في القرآن وغيره من كتب السماء من التعابير يجري على ما هو المعروف والمحسوس من أنّ الشمس تجري حول الارض، كما أنّنا في تعابيرنا المتعارفة نعبّر بطلوع الشمس وغروبها وارتفاعها وغير ذلك، ولا يختلف في هذا التعبير العلماء وغيرهم، مع ان الجميع يعلمون انه غير واقعي، ولكن التعبير يتبع الحالة المحسوسة.
ألا هو العزيز الغفار... اختلف المفسرون في وجه تذييل الآية بهذين الوصفين، خصوصا مع تقديم أداة التنبيه مما يدلّ على الاهتمام بالتنبيه عليهما في هذا الموضع.
وقد تبيّن بما ذكرناه أنّ من مقدمات الاستدلال المذكور في الآية على ربوبيته والوهيته تعالى بعد فرض كونه خالقا هو عدم كون الخلق عبثا، وانه لا بد من وجود غاية له، وانه تعالى يراقب اعمال الانسان وافكاره ليضعه موضعه، وهذا هو الهدف. فلزم من ذلك التنبيه على امرين:
الاول انه تعالى عزيز وغالب على امره وقهار لكل شيء فلا يمنع من تحقيق هدفه شيء ردا على احتمال عدم ترتب الغاية على الخلق.
والثاني انه تعالى غفّار لعباده، فالحساب وان كان دقيقا، الا ان رحمته وغفرانه يشملان الجميع، حسبما قال تعالى (إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) الزمر: 53، وقال (إِنَّ اللّه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) النساء: 48، وقال ايضا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..) النساء: 31، وغير ذلك من الآيات.
ويمكن ان يكون الوصف الاول اشارة الى انه تعالى بعيد عن تناول الافهام وادراك الاوهام، فان العزة بمعنى عدم الوصول اليه ايضا، ولذلك يقال لكل شيء نادر الوجود انه عزيز. ومنه قوله تعالى (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ) ابراهيم: 20، فحيث كان الكلام في معرفة اللّه وعموم ربوبيته لكل شؤون الكون وهو امر صعب التناول على اكثر الناس، أشار الى ذلك بقوله (الا هو العزيز) فلا يدرك معرفته احد، ولكنه غفار في نفس الوقت، فيقبل من كل انسان ما توصل اليه من المعرفة، ويغفر له قصوره وتقصيره في ذلك.
خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها... ردّ واضح على فرضية التطور في خصوص الانسان على الاقل. وقد مرّ سابقا أنّ هذه الفرضيّات حتى لو فرض دعمها بشواهد كثيرة لا تعدو بالنسبة الى تفسير الحوادث الكونيّة احتمالا وحدسا وتخرّصا على الغيب، والانسان مهما تعمّق في حقائق الكون فانه لا يؤتى من العلم الا قليلا، قال تعالى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الاسراء: 85، ولذلك نجد العلم في كل يوم يكشف عن اخطاء سابقة للعلماء حتى فيما تتناوله التجربة، فكيف اذا كان حدسا وتخمينا وتخرّصا على الغيب في الماضي السحيق. هذا مع أنّ الشواهد حتى الآن لم تساعد هذه الفرضية التي مضى عليها اكثر من قرن.
ومهما كان فالآية تشير الى ان البشر بمختلف اقوامه واممه ينتهي اصله الى انسان واحد وهو آدم عليه السلام، وتدل ايضا أنّ اللّه تعالى خلق زوجه منه. وتأنيث الضمير باعتبار النفس. ولعل المراد من كونها منه انها من نفس النوع والجنس فخلقها ابتداءا كخلق آدم، او أنّه تعالى خلقها من فاضل طينته كما في بعض الروايات.
واما خلقها من اقصر ضلع من ضلوع آدم اليسرى فانما ورد في عدة روايات لدى العامة والخاصة، وهي تشتمل على ما لا يطابق الواقع الخارجي فان عدد الاضلاع واحد في الرجل والمرأة، وهذه الروايات تقول ان الرجل ينقص عن المراة في عدد اضلاعه اليسرى، وقد ورد ذلك في التوراة ايضا مما يدلّ على مصدر الوضع في هذه الروايات. وفي رواياتنا ما يردّ على ذلك ويكذّبه ويصرّح بأنّ المراد في هذه الآية ونظائرها أنّ حوّاء خلقت من فاضل طينة آدم عليهما السلام.
و اما التعبير بـ (ثم) الدال على التراخي مما يقتضي ان يكون خلق حواء بعد خلق الناس فقد ذكروا في تأويله احتمال ان يكون ذلك للتراخي في البيان. وهو كثير في التعابير المتعارفة.
ويمكن ان يكون اشارة الى ان بني آدم مرّوا بمرحلة من الخلق بمجرّد خلق ابيهم آدم. وهذا قد يكون حقيقة كونية مجهولة ربما تتناوله الدراسات المتعلقة بالجينات او غيرها. وقد يكون اشارة الى مرحلة من مراحل الخلق خارج نطاق الطبيعة. وهذا ليس مستغربا وان صعب على بعض الباحثين التسليم له، فقد قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ..) الاعراف: 11، وهذا يدل على ان مرحلة من الخلق بل التصوير لكل البشر قد سبق تواجده على هذا الكوكب.
والتصوير هو تكوين الهيئة الخاصة فالظاهر انه تجاوز مرحلة الخلق المندمج في صلب الاب الى ظهوره بهيئة خاصة لا يعلمها الا اللّه تعالى. ولعلّها هي المشار اليها في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ...) الاعراف: 172.
وانزل لكم من الانعام ثمانية ازواج... بيان لتدبير شأن من شؤون الحياة البشرية على الارض، وهو خلق الانعام ليستفيد الانسان من ألبانها ولحومها وجلودها وأصوافها وأشعارها وأوبارها وركوب بعضها وغير ذلك، وهي الابل والبقر والضأن والماعز.
والزوج: المثلان المتقارنان يقال لهما زوج وزوجان. وحيث ان الزوج يطلق على كل واحد من المثلين المتقارنين فكل ذكر من الاصناف الاربعة زوج وكل انثى ايضا زوج، والمجموع ثمانية.
والتعبير بالانزال باعتبار انها نعمة من اللّه تعالى فاسناد تحققها الى اللّه تعالى يقتضي التعبير بالانزال، وكل نعمة من اللّه سبحانه نازلة من السماء. وليس المراد بها مكانا فوق الارض كما يتوهم بل المراد جهة العلو المقامي.
يخلقكم في بطون امهاتكم... الظاهر ان تأخير ذكره عن انزال الانعام ليشمل ضمير الخطاب كلا من الانسان والحيوان لان هذه الكيفية من الخلق تشملهما. والحيوان وان لم يكن موردا للخطاب الا أن شمول الخطاب له من باب تغليب جانب ذوي العقول.
ومن اللطيف انه ذكر أوّلا خلق الانسان بصيغة فعل الماضي ثم أتى بفعل المضارع (خلقكم ... يخلقكم) ولعلّه لبيان أنّ هناك مرحلتين من الخلق للانسان مرحلة سابقة خاصة به عبّر عنها بفعل الماضي ومرحلة مستمرة في الاجيال بصورة طبيعية يشارك فيها الحيوانات عبّر عنها بالفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار.
خلقا من بعد خلق... اشارة الى مراحل تكوّن الجنين وان تحوله من كل مرحلة الى اخرى خلق جديد فهو خلق مستمر، والجنين لا يتحول طفرة من حالة الى حالة بل يتدرّج ببطء. وتسمية بعض الحالات كالعلقة والمضغة لا يعني أنها حالات يتوقف عندها التطور، وانما هو مجرد اشارة الى توارد الحالات المختلفة على الجنين، نظير تسمية حالات الانسان كالصبا والمراهقة والغلمة والشباب والكهولة والهرم والشيخوخة.
ومن الغريب اعتراض بعض الملحدين على هذا التعبير بان مراحل تكون الجنين لا تنحصر في ذلك وانه يتحول تدريجا. وهذا واضح ولكن التدرج محسوس في كل تحول وتطوّر، ولا ينافي ذلك وضع اسماء لبعض حالات التطور كالتمر مثلا فيسمى تارة بلحا واخرى رطبا وثالثة تمرا ونحو ذلك.
في ظلمات ثلاث... الظاهر ان المراد ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة. ولعله اشارة الى ان كل هذه التطورات الغريبة تتم بعيدا عن انظاركم، وفي ظلمات ثلاث لا يمكنكم بصورة طبيعية تجاوزها ورؤيتها فضلا عن التدخل فيها.
ذلكم اللّه ربكم... الاشارة الى البعيد للاجلال والاعظام، والبعد عن تناول الاوهام. وهذا هو نتيجة التامل في خلق اللّه للسماوات والارض، وخلق البشر والانعام بصورة مستمرة، وكذلك في بدو خلق الانسان قديما من طين، فهو الذي ربّاكم واوصلكم الى هذه المرحلة من الخلق، وانعم عليكم بكل مقومات الحياة.
له الملك... تقديم الظرف يفيد الحصر اي انه هو المالك للتصرف في الكون لا يمكن لاحد ان يتصرف فيه الا باذنه.
لا اله الا هو... واذا كان هو الرب الذي يدير شؤون الخلق وهو المليك عليهم والمنعم عليهم فهو الاله الذي يجب ان يعبد شكرا لافضاله وانعامه، واستنزالا لرحمته، وتوقّيا من عذابه وسخطه، ولا إله غيره اذ لا ربّ غيره.
فانى تصرفون... والى عبادة من تتوجهون؟! أنّى استفهام يفيد معنى (كيف) و(اين) اي الى اين يُذهب بكم وكيف يُذهب بكم. والتعبير بالفعل المبني للمجهول لعله كناية عن ان ذلك يتمّ بدون تفكر ورويّة، وانما هو اندفاع وراء العادات والتقاليد البالية، فكأنّ هناك من يدفعكم الى ذلك وانتم لا تشعرون.</