مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)

 

ما قدروا الله حق قدره... القدر والتقدير محاسبة الشيء حجما او وزنا ونحو ذلك. ويستعار ايضا لمعرفة المنزلة والمكانة. و(حق قدره) بمنزلة المفعول المطلق المبين للنوع،  والاضافة من قبيل اضافة الصفة الى الموصوف، اي ما قدروا اللّه قدره الحقّ. وقدره الحقّ أن لا يشبّه بخلقه، وأمّا معرفته حقّ المعرفة فلا يتيسّر للانسان. فالمراد التنديد بشركهم وتصوّرهم أنّ اللّه تعالى يشبه خلقه، كما يتوهّمه بعض الموحدين ايضا.

والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه... الجملة حالية، اي لم يعرفوا اللّه حق المعرفة والحال أنّ الارض جميعا قبضته.. والقبضة مصدر بمعنى اسم المفعول اطلق عليه للمبالغة اي الارض جميعا مقبوضة له، اي تحت قبضته.

وقالوا: المراد بقوله (جميعا) جميع الارضين، بناءا على انها كالسماوات سبع ارضين. وفي الميزان انّ المراد جميع أجزاء الارض بكل عللها ومعلولاتها، ولا يبعد.

ويمكن ان تكون الارض بمعنى كل العالم السفلي اي عالم الطبيعة بناء على انّ الارض كناية عن ذلك، كما انّ السماء كناية عن العالم العلوي. وقد ورد في نهج البلاغة وغيره انّ السماوات مساكن الملائكة.

والمعروف أن كون الارض في قبضته تعالى والسماوات مطويات بيمينه كناية عن السلطة والقدرة التامّة، فالارض كلها بالنسبة الى قدرته تعالى يوم القيامة كمن اخذ شيئا في قبضته. وكذلك طيّ السماوات باليمين كناية عن القدرة والسلطة عليها، ويكنّى باليمين عن القدرة لأن الانسان غالبا يستعمل يمينه في الاعمال الصعبة.

ورجّح في الميزان أن يكون هذا التعبير كناية عن انحصار السلطة والقدرة فيه تعالى. قال: فهو كقوله تعالى (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) الانفطار: 19. اي باعتبار أن هذه الآية تدلّ على الحصر. ومثلها كثير.

وما ذكره رحمه اللّه أقرب ممّا ذكره غيره فان القبض على الشيء بتمام الكفّ يقتضي منع غيره من التحكّم فيه فيدلّ على الانحصار. والغرض نفي كل تأثير في ذلك اليوم من غيره تعالى.

ولكن يبقى السؤال عن وجه التخصيص بيوم القيامة، ومن الواضح أنّ كون السماوات والارض بقبضته تعالى لا يختص بتلك النشأة.

وفي الميزان أنّ السرّ في التقييد بيوم القيامة مع أنّ القدرة لا تختصّ بذلك اليوم هو ظهور تلك القدرة العامّة للجميع في ذلك اليوم، فهو نظير قوله تعالى: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) غافر: 16، مع أنّ الملك له وحده دائما وأبدا.

ولكنّ الظاهر أن السرّ في مثل هذه الآية وآية الملك وغيرهما أنّه لا يوجد في ذلك اليوم ملك او قدرة لأحد الا من يأذن اللّه تعالى له إذنا خاصّا، بمعنى أنّه ليس في تلك النشأة اذن عام ولا اختيار لأحد، فالنظام في تلك النشأة ليس نظام الاختيار. والانس والجن مسيّرون مقهورون.

ويظهر ذلك بوضوح من قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ..) هود:105، فان التكلم كغيره من الافعال لا يمكن في اي نشأة الا باذنه تعالى، الا أنّ الله منح الاختيار والاذن العامّ في هذه النشأة لكل البشر. وهناك لا يتكلّم أحد الا باذن خاصّ.

ولكن يظهر من بعض التعابير الواردة في تفسير الميزان أمر آخر جدير بالتأمل، حيث قال في موضع من تفسير الآية (انقطاع كل سبب دونه يوم القيامة) وفي موضع آخر (أي الأرض بما فيها من الأجزاء والأسباب الفعالة بعضها في بعض) وفي موضع آخر (تقطّع الأسباب الأرضية والسماوية وسقوطها).

ومعنى ذلك أنّ الذي يحصل في تلك النشأة زوال تأثير الاسباب الطبيعية، بل حتى الغيبية والسماوية. وما يريده اللّه تعالى يحقّقه من دون واسطة.

وقد صرّح العلامة بذلك في تفسير قوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) المعارج: 4، حيث قال: إنّ المراد بعروج الملائكة والروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط، وتقطّع الأسباب، وارتفاع الروابط بينها وبين مسبّباتها، والملائكة وسائط موكلة على أمور العالم وحوادث الكون، فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها، وزيّل اللّه بينهم، ورجع الكلّ إلى اللّه عز اسمه، رجعوا إليه، وعرجوا معارجهم..

ولكن القرآن الكريم يصرّح بأنّ الملائكة هم القائمون بالأعمال يوم الحساب، وأنّ كل نفس تأتي معها سائق وشهيد، وهما ملكان. و الملائكة هم الذين يلقون أهل النار في النار (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) ق: 24، وهم خزنة النار، ويتحدّثون مع أهل النار من أول ورودهم اليها وبعد ذلك، وهم يتلقّون المؤمنين في الجنّة، ويدخلون عليهم من كل باب بالسلام. الى غير ذلك من المواقف.

بل لا ينتفي حتى توسّط غير الملائكة، قال تعالى (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الاعراف: 44، فهذا المؤذن وسيط لهذا الاعلام. والروايات تدل على أنّه أميرالمؤمنين عليه السلام، بل القرآن يصرّح بوجود رجال يوم القيامة ينفذون أوامر الله تعالى كما قال: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ..) الاعراف: 46. مضافا الى أن نفس الجنّة والنار واسطتان للثواب والعقاب.

والصحيح أنّه لا يمكن أن تسقط الوسائط بين الله وخلقه في أيّ نشأة من النشئات.

ويبدو من عبارته رحمه الله أنّه استند في تفسيره الى قوله تعالى (وتقطّعت بهم الاسباب) وقوله (فزيّلنا بينهم).

أما الجملة الاولى فوردت في قوله تعالى (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) البقرة: 166. قال العلامة في تفسيرهذه الجملة: (فلم يبق تأثير لشي‏ء دون الله).

ولكنّ الظاهر أنّ الجملة لا علاقة لها بالوسائط، ليكون المعنى زوالها في ذلك اليوم، بل المعنى أنّ ما كانوا يعقدون عليه الآمال من الاسباب والوسائط تقطّعت عنهم، او تقطعت دونهم فبقوا حيارى. والدليل على ذلك أنّ هذه الظاهرة خاصّة بالمشركين التابعين وليس أمرا من مميّزات ذلك اليوم وتلك النشأة كما هو المدّعى.

وأما الجملة الثانية فقد وردت في قوله تعالى (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) يونس: 28، ويكفينا هنا أن ننقل ما ذكره العلامة نفسه في تفسير الآية، ليتبين عدم ارتباطها بهذا الامر.

قال رحمه الله: (قطعنا الرابطة التي كانت تربطهم بشركائهم، وهي رابطة الوهم والحسبان التي يتصلون بسببها بشركائهم، فانقطعوا عن شركائهم وانقطع شركاؤهم عنهم، فبان أنّ عبادتهم لم تقع عليهم ولم تتعلق بهم، لأنهم إنما عبدوا الشركاء وهم ليسوا بشركاء).       

سبحانه وتعالى عما يشركون... تنزيه للّه سبحانه عما يشركون به، حيث يجعلون له أندادا في التأثير في الكون، ومن ثَمَّ يعبدونهم فيشركون عقيدة وعملا.

ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض الّا من شاء اللّه... الصور: قرن الثور، كانوا ينفخون فيه قديما لاعلان الحرب ونحوه. وقد تكرر في القرآن الكريم التعبير بنفخ الصور عن يوم الحشر وإحياء الموتى، وبنفس المعنى ما ورد من النقر في الناقور في سورة المدّثّر/8، كما ورد التعبير بالصيحة في سورة ق/42، ونحو ذلك. ولعلّها كنايات عن أنّ إحياء الموتى لا يحتاج الى شيء أكثر من ارادة الهية سريعة كلمح بالبصر او هو أقرب.

ولكن الوارد في هذه الآية نفختان، فالنفخة الاولى تتسبب في إبادة الحياة على هذا الكوكب وعلى غيره، والنفخة الثانية تحقق الإحياء. وعليه فإبادة الحياة ايضا لا تحتاج الا الى أمر تكويني من اللّه تعالى فتتحقق فجأة. والتعبير عنه بالصيحة والنفخة ليتناسب مع صعقة كل من في السماوات والارض.

والصعقة تطلق على الموت وعلى الغشية، لان اصله بمعنى الصوت الشديد، ومنه الصاعقة. وانما يطلق على الموت والغشية من باب اطلاق اسم السبب على المسبب.

والظاهر أنّ هذه الصيحة او النفخة تتسبب في موت من بقي من اهل الارض. كما يظهر من الآية انّ اهل السماوات ايضا يموتون بذلك، ولعل المراد بهم الملائكة. ولعل هذه النفخة هي التي تهدم نظام الكون.

والاستثناء يمكن أن يكون للاشارة الى أنه تعالى قادر على أن لا يعمّم الهلاك من دون أن يراد وجود من لم يشملهم ذلك، كقوله تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود: 108، ويمكن أن يكون هناك من لا يشملهم هذا الموت العامّ. واختلف في انّهم هل هم الملائكة المقربون او هم مع الشهداء او الارواح؟ والله العالم.

ثم نفخ فيه اخرى فاذا هم قيام ينظرون... اي نفخ في الصور نفخة اخرى، فكما ماتوا بنفخة او صيحة كذلك قاموا أحياءا بنفخة اخرى.

والامر أسرع من ذلك، قال تعالى (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) النحل: 77، بل لا فاصل بين ارادته تعالى وتحقق المراد.

ولعل التعبير بالنفخ للاشارة الى توجيه الامر الالهي الى الاجساد البالية ليقوموا. وتوجيه الامر اليها كتوجيه الامر بكلمة (كن) الى ما لم يوجد بعد كما قال تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس: 82.

وقيام جمع قائم، والظاهر أنّ المراد بكونهم قائمين ينظرون تصوير حالتهم، وهو مشهد رهيب تجد فيه البشر بمختلف قومياتهم وطوائفهم، وكل من عاشوا طيلة قرون متمادية قائمين ينظرون، فهم كانوا قبل لحظة موتى والآن أحياء ينظرون اي يبصرون. ولعل المراد بالنظر أنهم ينظرون مبهوتين.

ولا ينافي ذلك انهم ينسلون الى ربهم كما في سورة يس، وانّهم يخرجون من الاجداث سراعا كما في سورة المعارج، فانّ ذلك يحصل في مرحلة اخرى.

وأشرقت الارض بنور ربّها... أشرقت اي أضاءت واستنارت. والمراد بالارض أرض المحشر لا هذه الكرة الارضية فانها تتبدّل الى غيرها.

وقد اختلفت الكلمات في معنى الجملة، والظاهر أنّها كناية عن ظهور الربّ لاهل المحشر لا يحجب جماله شيء، وذلك لانّ الحجب ترتفع في تلك النشأة، فيدرك الانسان كل الحقائق بتمام وجوده. وهذا الادراك أقوى من الرؤية البصرية كما قال تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ق: 22.

ولا يشبه هذا الادراك علم في هذه النشأة الا علم الانسان بنفسه، لانه علم حضوري فالانسان يدرك نفسه بكل وجوده لا بالرؤية ولا بالسمع ولا باللمس ولا بتوسّط ايّ حاسّة، وانّما هو اتّحاد المُدرِك والمُدرَك. ويوم القيامة ترتفع الحجب فيدرك الانسان بكل وجوده كل الحقائق. وبذلك ترتفع الفواصل وتجتمع الاباعد. ولو صحّ ما روي من أحاديث الرؤية فهذا هو المقصود لا الرؤية البصرية، اذ هي مستحيلة في غير الاجسام.

وياله من تعبير تصوّر تلك الحقيقة التي لا يدرك كنهها الانسان مهما بلغ من علم ومعرفة ومهما لطف شعوره ورقّت أحاسيسه.

وأشرقت الارض بنور ربّها... لا يكاد الانسان يشبع من التأمل في هذه الجملة وتكرارها.

يا ترى ماذا يحدث في تلك النشأة؟ كل الجمال وكل البهاء وكل العظمة تتجلى في هذا الاشراق.

ولا يمكن أن يتصوّر الانسان او يتخيّل جمالا وبهاءا فوق ذلك. ولو أدرك الانسان هذا الجمال وأشرق قلبه بهذا النور لم يطلب شيئا وراءه.

وما وراءه؟

وما فوقه؟

لا مجال لتكامل وتطور بعد ذلك ولا تتطلع النفس الى جمال وعظمة وبهاء بعده.

وأشرقت الارض بنور ربها..

واشوقاه الى ذلك الافق المضيء المشرق الذي أشرق بنور الله جلت عظمته، وتعالى شأنه، مهما شقّ الطريق، وبعدت الشقّة، وتهيّبت الاهوال في ذلك اليوم، فان كل ذلك لا يزيد الانسان الى رؤية ذلك النور الا شوقا ولهفة.

اللهم نوّر قلوبنا بالايمان، وعجّل لنا الاستضاءة بنورك في هذه النشأة.

اللهم أحبب لقاءنا، وحبّب الينا لقاءك. 

ووضع الكتاب... الكتاب بمعنى المكتوب. والاصل فيه الجمع، فكل مجموعة من الالفاظ او المعاني ونحوها كتاب. والظاهر انّ المراد به هنا ما يحكي عن كل ما عمله الانسان وملابساته وظروفه لتكون المحاكمة عادلة حتى في نظره.

انظر الى ايّ مدى يكرّم اللّه الانسان وحريّته!

وهذا الكتاب هو الذي يضيّق الخناق على المجرمين، قال تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف: 49، فيبدو من الآيات انّ الكتاب لا يعطي تسجيلا او صورة بل هو شيء تظهر فيه نفس الاعمال بوضوح.قال تعالى: (هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)الجاثية: 29.

وجيء بالنبيين والشهداء... امّا النبيون فلكي يسألوا عن تبليغهم قال تعالى (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) الاعراف: 6. واما الشهداء فلكي يشهدوا على ما رأوا.

والقرآن الكريم يذكر شهداء على الانسان غير البشر:

منها: الارض (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) الزلزلة: 4.

ومنها: اعضاء الانسان قال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يس: 65. وقال: (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) فصّلت: 20 ــ 21.

ومنها: الملائكة (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) ق: 21، وقال تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق: 18، وقال ايضا (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) الزخرف: 80،

وهناك أقرب الشهود من المشهود عليه وهو نفس الاعمال، وهناك أقوى الشهود وهو اللّه سبحانه (وكفى باللّه شهيدا). وهكذا تكون المحاكمة العادلة.

هذا اذا اريد بالشهداء الذين شهدوا الحوادث.

ويمكن أن يكون المراد من تتمّ بهم الحجّة على الخلق، فيشمل الانبياء والائمة والصالحين ومن قتل في سبيل اللّه. وشهادتهم بمعنى انّ حضورهم يقطع كل عذر، فلا يمكن للانسان ان يعتذر بعدم امكان الحفاظ على الدين وسائر ما نجده او نسمعه من المعتدين على حقوق الناس، او المتهاونين بامر دينهم من اعذار.

وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون... القضاء بينهم بالحقّ يتمّ بظهور الحق عيانا للجميع فيرتفع الاختلاف، وهم لا يظلمون بل يصل كل انسان الى حقّه، ويوضع في موضعه، وينال مرتبته التي تليق به.

ووفّيت كل نفس ما عملت... اي اعطي كل انسان عمله كاملا لا ينقص منه شيء ولا يجازى بجزاء وضعيّ، بل هو نفس عمله يستوفيه بوجهه الواقعي من دون تزيين، فالاعمال في هذه النشأة مزيّنة، وهناك يسقط المكياج وتبدو الاعمال على طبيعتها الاصلية، كما قال تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة: 7 ــ 8، والانسان يفرّ من عمله السيّئ اذا رآه بوجهه الحقيقي كما قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا..) آل عمران/30

ونظيره في هذه النشأة محكمة الوجدان والضمير الحي، وهو الذي يعبّر عنه القرآن بالنفس اللوّامة (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) القيامة: 1 ــ 2.

وهو أعلم بما يفعلون... ولا يعلم مقاييس الاعمال الا اللّه تعالى. والمحاسبة دقيقة لا يمكن أن تترك شيئا من مقوّمات العمل، فربّما يكون عمل في ظرف خاص وحالة نفسية خاصّة له قيمة خاصّة فكل ذلك يدخل في الحساب، بل حتى ما لا ينتبه له الانسان في الدنيا من الدواعي الخفيّة تدخل ايضا.

والتعبير بكونه تعالى اعلم يمكن ان لا يكون من باب التفضيل، كما هو كذلك في سائر الموارد المشابهة، ويمكن ان يكون بالقياس الى الانسان نفسه وهو عالم بنفسه كما قال تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) القيامة: 14، ولكن ربما يكون في المقام ما لا ينتبه اليه الانسان او يخدع نفسه فيه، واللّه تعالى اعلم بها منه، لانه أقرب اليه من حبل الوريد.