مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

 

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللّه غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَليمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للّه أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَليلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذينَ أَحْسَنُوا في‏ هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللّه واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10)

 

ان تكفروا فان اللّه غني عنكم... لمّا بيّن أنّ العبادة لا تجوز لغيره تعالى، وأنّ ذلك مقتضى ربوبيته وانعامه تبيّن منه ان ترك عبادته واللجوء الى عبادة غيره كفران لنعمه، وكفران المنعم مما يستنكره العقل والفطرة، الا أنّه تعالى لا يمنع عباده عن الكفر لحاجة منه الى شكرهم، وهو لا ينعم على احد طلبا لشكره او لاي شيء آخر، لانه الغني بالذات لا يفتقر الى شيء، فشكر العباد ينفعهم، وكفرهم يضرهم، ولا يضر اللّه شيئا.

ولا يرضى لعباده الكفر... هذه الجملة تردّ على سؤال ينشأ من الجملة السابقة وهو أن الكفر اذا كان لا يضر اللّه شيئا فلماذا ينهى العباد عنه؟

والجواب أنه انما ينهاهم عن الكفر ويدعوهم الى عبادته وشكره لان الكفر اثم ممقوت لا يرضى به اللّه تعالى، فانه اراد لهذا الانسان ان يبذل كل جهده ليصل الى اعلى مراقي الكمال، وهو لا يصل اليه الا بعبادته وحده ونبذ كل شرك وكفر.

ولذلك أبدل التعبير عنهم بضمير الخطاب كما كان في الجملة السابقة الى التعبير عنهم بـ (عباده) مما يدل على نوع من العناية والاهتمام بهم، ولا يراد بهم عباده المؤمنون خاصة بل كل الخلق كما هو واضح.

وبذلك يتبين الجواب عن سؤال ملحّ طالما توسوس به الشياطين في القلوب، وهو ان اللّه تعالى لماذا يطالب الانسان بعبادته وهو غني عنها؟ بل ربما نجد بعض الناس لا ينتظر الجواب ويكفيه الاستبعاد فلا يلتزم بشيء من اوامر الدين ونواهيه رغم اعترافه باللّه تعالى واحترامه لشعائر الدين، وذلك باعتقاد أن اللّه غني عن عبادتنا ولا تضرّه معاصينا. ولكنه لم ينتبه الى ان هذا التوهم يستلزم ان لا تكون هناك حكمة وهدف سام وراء هذا الخلق، وبهذه الدقة وان يكون الخلق عبثا لا غاية له.

وان تشكروا يرضه لكم... لانه هو الطريق الصحيح لبلوغ الكمال وهو ردّ الفعل الطبيعي لمن انعم عليكم بكل هذه النعم العظيمة. ومعنى رضاه تعالى وحبه لعمل من أعمالنا علمه بكونه صالحا للانسان ونافعا له، فانه تعالى لا ينتفع بشيء.

ولكنّ المعروف تأويل الرضا والحب والبغض ونحو ذلك من المفاهيم اذا اسندت الى اللّه تعالى بلوازمها فالرضا يأوّل الى الاثابة والجزاء، والبغض والغضب الى العقاب، وهكذا. والداعي الى هذا التأويل تنزيهه تعالى من أن يكون محلا للعوارض والحالات فان الرضا والغضب والحب والبغض ونحو ذلك عوارض تطرأ على الانسان ولا يمكن أن يطرأ شيء عليه تعالى.

وبما ذكرنا يتبين أنه لا داعي لهذه التأويلات البعيدة.

ويبقى هنا سؤال وهو انه تعالى اذا كان لا يرضى بالكفر فكيف يتحقق، ولا يمكن ان يوجد شيء الا باذنه؟

ومن هنا صارت هذه الآية من مواضع النقاش الحادّ بين الاشاعرة والمعتزلة حيث تشبث بها المعتزلة بانها صريحة في انه تعالى لا يرضى بالكفر مع انه خصلة اكثر الناس، وحاول الاشاعرة التهرب من الاشكال بالتوسل بكل تأويل حتى ان بعضهم قال ان المراد بالعباد هنا العباد المخلصون اي الانبياء المعصومون وهو تأويل مضحك.

و الجواب عن السؤال المذكور واضح عندنا فان عدم الرضا بفعل تشريعا لا ينافي اذنه تكوينا، وهذا الاذن لا يستلزم الرضا بما يحدث، فان حكمته تعالى اقتضت ان يكون الانسان حرا مختارا قادرا على ما يريد، واذنه تعالى ليس بمعنى انه يوجدالفعل على يده شاء ام ابى، بل يعني انه يمدّه بالقدرة وهو يعلم انه يستخدمها في هذا السبيل، وأنّه يهيء له كل فرص العمل حسبما يقتضيه نظام العلة والمعلول، فان هذا الكون يسير على هذا المنهاج بارادته تعالى ومشيئته، وأنّه لا يمنع تاثير العلل والاسباب باعجاز وخرق للقوانين الكونية حتى في نصرة رسله الا في موارد نادرة.

ولذلك قال الامام الحسين عليه السلام في خطبته يوم عاشوراء مخاطبا اصحابه: (ان اللّه قد اذن في قتلكم فعليكم بالصبر..) [1] ولا شك انه تعالى لا يأذن في ذلك تشريعا بل هو من اكبر الآثام واعظم الجرائم، وانما اذن فيه تكوينا حسبما يقتضيه نظام العلة والمعلول، اي ان دوافع قيام القوم بالجريمة الكبرى قد بلغت حدّا لا يمانعه شيء، واللّه تعالى لا يمنعهم بقهر تكويني، وهذا هو معنى اذنه تعالى.

ولا تزر وازرة وزر اخرى... الوزر: الثقل. ويعبر به عن الاثم لانه يثقل كاهل الانسان، والوازرة: النفس، لانها تتحمل المسؤوليات. وهذه جملة متكررة في القرآن الكريم ومضمون يقبله العقل والفطرة السليمة.

ومعنى العبارة ان كل نفس وازرة اي تحمل ثقلها واعباءها ومسؤولياتها، ولا تحمل في نظام العدل الالهي ثقل غيرها ومسؤولية غيرها واثم غيرها، وان كان ربما يتحمل الانسان مسؤولية تجاه الغير كما لو كان مسؤولا عن تربيته او كان هو السبب في ضلاله، ولكن هذا ثقله ومسؤوليته الشخصية وان ارتبطت بغيره.

والتنبيه على هذا الامر هنا لعله لدفع توهم تأثير كفر الكافر على المؤمن بالقرابة او الجوار ونحو ذلك.

ثم الى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون... وفي آخر المطاف لا بد من التنبه ان كل ما يصدر منكم او يدور في خلدكم فهو مسجّل عليكم وتحاسبون عليه يوم ترجعون الى ربكم فيخبركم، ويبين لكم بوضوح حقيقة اعمالكم التي كنتم تجهلونها، وتجدون ظاهرا مغريا منها.

ولعل المراد بالإنباء في ذلك اليوم هو كشف الغطاء فيتبين الحق في كل شيء عاريا لا غشاء عليه (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ق: 22.

انه عليم بذات الصدور... (ذات) بمعنى صاحبة، اي الاعمال التي تصاحب الصدور، والمراد بالصدور النفوس اي الامور المختبئة في النفوس، ويشمل حتى ما لا يلتفت اليه الانسان تفصيلا وانما يكون في ارتكازه ولا شعوره. ومنه يتبين أن الامر لا يقتصر على الاعمال الظاهرة والتي تصدر من الجوارح بل يشمل النوايا القلبية.

وربما يستغرب ذلك من جهة ان الانسان اذا كان مؤاخذا بنواياه فلا ينجو احد من عذاب اللّه تعالى.

والجواب ان ملاحظة ذات الصدور يمكن ان لا يكون لاجل المؤاخذة بل ربما يكون لاحد امرين:

الاول: صبغة العمل الخارجي اذ ان من الواضح ان الصلاة وسائر العبادات لا تصح الا بالنية الصحيحة وبقصد التذلل لدى اللّه تعالى، بل يعتبر ما كان بقصد ارضاء الغير شركا وعملا محرما يعاقب عليه اشد العقاب.

وهذا الفرق الجوهري بين العملين لا يتبين الا بملاحظة ذوات الصدور، واما ظاهر العملين فواحد، بل ربما يكون عمل المرائي احسن في الظاهر كما هو الغالب.

الثاني: تاثير النوايا في كمال الانسان وتعيين درجته ومقامه حتى لو لم يعمل العمل في الظاهر، فالانسان اذا قصد المعصية ولكنه لم يرتكبها لعدم توفر الوسائل فانه لا يعاقب، ولكن تحسب عليه سريرة سيئة تنزله في المرتبة، واذا لم يرتكبها تورعا تحسب له مرتبة.

ثم ان الاعمال وان كانت صحيحة وقصد بها القربة الا ان درجات القربة تختلف، وبها تختلف مراتب الانسان، بل يتغير جوهر العمل فربما يقصد العابد بعمله ان يتقرب الى اللّه تعالى ليحصل على رزق منه في الدنيا، وربما يكون التقرب ليحصل على رزق في الآخرة، وربما يكون لبلوغ مرتبة راقية من القرب لدى اللّه تعالى، وربما يكون لمجرد تحصيل رضاه. وهذه كلها وغيرها مراتب تختلف بها مقامات العابد، مع ان العمل في كلها صحيح ومتحد الشكل.

بل ربما يتجاوز كل ذلك فيعبد الانسان ربه تعظيما لمقامه، ولا يقصد تحصيل شيء حتى التقرب، وهذا لا يحصل الا لمن بلغ غاية الكمال في معرفة ربه، فرأى ربه ببصيرته وبعين قلبه، وادرك ذلك الجمال الباهر بكل وجوده، فخضعت له جوارحه.

وهذا ما تفيده العبارة المعروفة المنقولة عن امير المؤمنين وسيد العارفين سلام اللّه عليه (الهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك).[2]

وربما يستنكر ذلك كما نجده في كلام من يدعون اتباع السلف بل ينسبون هذا الامر الى الصوفية واهل البدع، ويستندون الى قوله تعالى في امتداح انبيائه (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا) الانبياء: 90، ولكنهم غفلوا عن أنّ ذلك لا يدل على عدم صحة هذا النوع من العبادة او على نقص فيه، وقد قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) النازعات: 40، ولم يقل خاف عذاب ربه. وقال: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) الرحمن: 46.

وينبغي التنبه الى ان هذه الآية في سورة الرحمن تخصّ المقربين، وتختلف جنتهم عن جنة الابرار كما يختلف مقامهم، ويظهر ذلك ايضا بملاحظة ما ورد بهذا الشأن في سورة الواقعة والدهر والمطففين.

وينبغي التنبه ايضا الى أنّ عبادة الملائكة من هذا القبيل، وهم ايضا يخشون اللّه تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) النحل: 50، ولكن هذه خشية من مقامه لا من عذابه لانهم معصومون (لَا يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم: 6.

واذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا اليه... لما كان الحديث عن وجوب شكر المنعم وقبح كفران نعمه والتنديد بالكفر والشرك بيّن سبحانه وتعالى موردا متكررا من كفران الانسان لربه ليحذّر البشر منه. وهو مضمون متكرر في عدة مواضع من الكتاب العزيز، ومنها في نفس هذه السورة الاية 49 (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ..).

والغرض بيان حالة الانسان بصورة عامة فهو يتوجه الى ربه ويدعوه وحده لكشف الضر، ثم ينسى ربه اذا بلغ غايته على ما يظن. وهذه طبيعة الانسان عموما حتى المؤمنين الا المتقين الصادقين. والغالب على طبيعة البشر هو نكران الجميل وكفران نعمة الرب جل وعلا، ثم الرجوع اليه اذا تفاقمت الامور واستعصت عليه السبل. ولذلك جعل الموضوع في الآية الانسان ولكن الآية تحذّر من انه ربما ينتهي الامر به الى الكفر.

والضرّ: كل ما فيه ضرر. ومسّ الضرّ بمعنى اصابته. ولعلّ التعبير به للدلالة على أنه يدعو ربّه بأقل ضرّ يصيبه لأن المسّ في الاصل هو اللمس باليد. والانابة: الرجوع. ومقتضى التعبير بالرجوع ان الانسان المفروض في الآية مؤمن بربه، وانما يغفل عنه نتيجة توغله في الدنيا. ويمكن ان يكون الرجوع باعتبار انه بفطرته مؤمن بربه وان عبد غيره بتاثير من عادات المجتمع.

ومهما كان فان الانسان حتى لو كان كافرا يتوجه الى ربه بخالص النية اذا اضطر وانسدت عليه السبل، فان السبيل الوحيد الذي يبقى مبعثا للرجاء هو التضرع الى اللّه تعالى، ولكنه بعد ان ينال بغيته ينسى ربه.

ثم اذا خوّله نعمة منه نسي ما كان يدعو اليه من قبل... التخويل هو الاعطاء. والاصل فيه ان يعهد الى احد القيام بشؤون شيء مّا لان ما بايدينا من متاع الدنيا انما نحن مخولون عليها ننتفع بها لمدة قصيرة.

والمراد بما كان يدعو اليه من قبل الضر السابق لانه هو الذي كان يدعو ربه ان ينجيه منه. ويدل عليه قوله تعالى (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى‏ ضُرٍّ مَسَّه‏) يونس: 12.

وجعل للّه اندادا ليضل عن سبيله... من هنا يبدأ ببيان النتيجة الحاصلة لبعض البشر في هذا المقام وهو الكفر باللّه تعالى او الشرك به. والانداد: الامثال، والمراد انه يشرك بربه فيجعل غيره مماثلا له تعالى في التاثير في الكون.

واللام في قوله (ليضل) للغاية يعني ان ذلك يفضي بالنتيجة الى كونه مضلا للآخرين وصادا عن سبيل اللّه فضلا عن كفره بنفسه. فانظر الى اين يتمادى الانسان في كفران نعمة ربه.

قل تمتّع بكفرك قليلا انك من أصحاب النار... ويأتيه الخطاب الموجّه تبليغه الى الرسول: (تمتّع بكفرك قليلا..) وفيه الاشارة الى انه يكفر ليتمتع بكفره لا انه يكفر لعدم وضوح الامر له، والكفر من موجبات التمتع، لان الايمان يقيّد الانسان ويكبح جماحه ويمنعه من كثير من شهواته وملذاته. ومهما كان فان هذا التمتع قليل حتى لو دام مئات السنين فانه زائل وينتهي به الى النار فتحرق كل ملذّاته.

أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما... اي أهذا الكافر المضل الذي انتهى امره الى النار خير بدوا وعاقبة أم من هو قانت آناء الليل؟! والاستفهام انكاري اي هما لا يتساويان كما دل عليه قوله تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون..).

والقنوت: الخضوع. وآناء جمع انى (بكسر الهمزة وفتحها) بمعنى الساعة. وخص الحكم بالقنوت في الليل لبعده عن الرياء، ولتفرد الانسان واختلائه بربه، ولانه اذا كان يعبد ربه في زمان الراحة والنوم فهو يعبد في النهار ايضا بطريق اولى. والسجود والقيام للدلالة على الصلاة.

يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه... يبين هنا حالته النفسية، وهي كونه بين الخوف والرجاء، فهو يحذر الآخرة وأهوالها وعالمها المجهول، ولكنه يرجو رحمة ربه ان تشمله وان قصرت اعماله.

وهكذا يجب ان يكون المؤمن فهذا انسان تعمّق في الكون، وتجاوزت بصيرته وايمانه ظواهره، وبلغت العالم الغيبي، فهو العالم حقيقة لا الذي توقّف علمه في ظواهر هذا الكون وان تعمّق فيها وسبر اغوارها، كما قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الروم: 7.

قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون... الاستفهام انكاري ايضا اي لا يستويان. وهذه قضية عامة لا تختص بالمورد، ولذلك لم يذكر للعلم متعلق فالعلم بكل شيء ليس كالجهل به. ولا يستوي العالمون والجاهلون في اي مجال. ولكن الغرض تطبيقها في المقام، وهو الفرق الواضح بين هذا الانسان المؤمن الذي علم حقيقة الكون وآمن بها وعلم أنه عائد الى ربه ومسؤول عن أعماله، ومن يتبع هواه جاهلا او متجاهلا لهذه الحقيقة.

انما يتذكر اولوا الالباب... اللبّ هو العقل وما تدرك به حقائق الامور. والاصل فيه الخالص من الشيء الذي انفصل عن القشور والزوائد. والتعبير بالتذكر يشير الى ان الانسان مسبوق بمعرفة هذه الحقائق ولكنه ينساها، فان ذُكّر بها وكان ذو لبّ تذكر وكان من الذين يعلمون. وان كان طائش اللبّ أصرّ على جهله وتغافله.

والجملة في مقام التعليل لبروز هذا الاختلاف بين افراد الانسان، فهناك من يعلم الحقائق، وهناك الجاهل الغافل. والسبب فيه أنّ الانسان يغفل عن ما هو مرتكز في فطرته ولا ينتبه بالتذكر الا من كان ذو لبّ. وليس معناه أن الآخر معذور لانه لا عقل له، بل المراد أنه لا يتبع مقتضى عقله وادراكه، وانما يتبع هواه.

قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم... يتحول عن مخاطبة الكافرين والمشركين والتنديد بافكارهم الى مخاطبة المؤمنين وتحذيرهم من ان الايمان وحده لا يكفي ان لم يؤثر في الحياة العملية، فامر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ان يبلغهم خطابه، ووجه الخطاب الى المؤمنين بانفسهم تشريفا وتكريما لهم، وحثّا لهم على اصلاح النفس في مقام العمل.

وبدأ الخطاب بتوصيفهم بالعباد. والكسرة تدل على ياء المتكلم اي يا عبادي، واضافهم اليه زيادة في التشريف والتكريم. ووصفهم ايضا بانهم الذين آمنوا للاشارة الى ان مقتضى الايمان التقوى، فالذي يؤمن برب العالمين وعموم رحمته وقدرته وحكمته يتقيه لا محالة. وانما يعصي الانسان نتيجة لضعف ايمانه.

ثم ان التعبير بالرب ايذان بان التربية تقتضي ان تتقيدوا وتلتزموا باحكامه واوامره ونواهيه، فلا يغرّنّكم الايمان، ولا تظنّوا أنّ لكم على اللّه عهدا خاصا، فلا فوز الا بالتقوى.

للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة... المشهور بين المفسرين ان الجار والمجرور (في هذه الدنيا) متعلق بقوله (احسنوا) وان الحسنة وهي الجزاء مطلق يشمل الدنيا والآخرة، فالمعنى بناءا عليه أن الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم جزاء حسن في الدنيا والآخرة.

ولكن الصحيح أن الجار والمجرور متعلق بقوله حسنة، فالمعنى أن الذين أحسنوا أعمالهم لهم جزاء حسن في الدنيا. وذلك لانه على الاحتمال الاول يبقى الجار والمجرور قيدا زائدا، اذ ليس هناك مجال آخر للاحسان حتى يكون احترازا.

ويؤيّده قوله تعالى (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) النحل: 30، فان قولهم (ولدار الآخرة خير) يدل على أن الحسنة المذكورة سابقا خاصة بالدنيا.

ويبقى السؤال في الغرض من هذه الجملة، مع ان القرآن يستهدف الاستهانة بشؤون الدنيا. والظاهر ان الغرض ــ كما يبدو من السياق ــ حثّ المؤمنين الذين يلقون مضايقات من الكفار في اوطانهم على الهجرة وترك الاوطان، فقدّم على ذلك الوعد بانهم اذا أحسنوا في اعمالهم فان لهم في هذه الدنيا ايضا حسنة، ولا يختصّ الجزاء بالآخرة حيث انّ الباعث لهم على البقاء هو الخوف من مضائق الحياة الدنيا اذا اغتربوا عن اوطانهم، فهذه الجملة تبيّن لهم انّ ذلك يتبع التقوى والاحسان.

وهو وعد إلهي بالجزاء الحسن في الدنيا للمتقين المحسنين بان يوفقهم في اكتساب الخير، ويرزقهم من حيث يحتسبون ومن حيث لا يحتسبون، ويهيء لهم اسباب السعادة اينما كانوا.

وارض اللّه واسعة... وهذا حثّ للمؤمنين بان يفرّوا بدينهم اذا لم يتمكنوا من إحياء شعائرهم في اوطانهم، او في محل اقامتهم، وهو بالطبع مقيّد بما اذا كانت الارض بالنسبة له واسعة، وكان بامكانه الهجرة فلا يشمل السجين، والمحكوم عليه بالبقاء، او من يعلم ان المكان الذي يمكنه الهجرة اليه اكثر ضيقا.

ومن الدواهي في عصرنا أنّ المؤمنين اضطروا الى الهجرة من بلاد الاسلام الى بلاد الكفر ليجدوا فيها الرحب والسعة، و تمكّنوا هناك من معرفة أحكام دينهم والعمل بها، بعد ان منعوا عنها في بلدهم مهد العلم والدين، كما حصل ذلك لاهل العراق في عهد الطاغية صدام حسين.

انما يوفّى الصابرون اجرهم بغير حساب... هذه الجملة تكمل ايجاد الرغبة في نفوسهم الى الهجرة بانها لا تخلو من صعوبات في المعيشة خصوصا في تلك العهود، ولكن اذا كان التمسك بالدين يتوقف على ذلك فلا بد من التضحية في سبيله بتحمل بعض المشكلات والصبر عليها، ووعدهم ان هم صبروا عليها واختاروا الهجرة ان يوفّيهم اجرهم بغير حساب.

والتوفية هو الايصال الكامل. واللّه لا يبخس احدا حقه، فهو الذي جعل له الحق، والا فلا يستحق احد على اللّه شيئا.

وقوله (بغير حساب) إمّا بمعنى عدم محاسبته على معاصيه فيعتبر صبره هذا مكفرا عن سيئاته، او بمعنى أنّ الجزاء يزداد مع الصبر اضعافا مضاعفة فلا يحسب اعماله ليجازى بحسبها. ومردّ ذلك الى انّ الصبر يرفع شأن العمل وان كان في نفسه حقيرا.

والظاهر انّ الصبر هنا يشمل انواعه المختلفة من الصبر على الطاعة او المعصية او المصيبة، فان الاغتراب عن الوطن ربما يستتبع كل ذلك.



[1]  كامل الزيارات ص 152 والحديث صحيح واسناده مختلفة

[2]  بحار الانوار ج41 ص14