وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنّة زمرا... السوق بذاته لا يقتضي الاهانة فلا مانع من التعبير به عن حثّ المتقين للذهاب الى الجنة او هدايتهم اليها، ويبدو من الآيات شمولية السوق في يوم الحشر سواء كان الى الجنة ام الى النار، قال تعالى: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) ق: 21. ولو صح ما قيل من أن السوق خاص بموارد الزجر والاهانة، فيمكن توجيهه هنا أنه من باب المشاكلة للسوق في الفريق الاول.
وقيل: انّ المراد سوق مراكبهم. وهو بعيد عن السياق.
والتعبير بالتقوى يفيد أنّ المقابل للكافرين هنا ليس كل المؤمنين، بل المتّقين منهم. وهم ايضا جماعات تختلف مراتبهم اختلافا فاحشا.
حتى اذا جاءوها وفتحت ابوابها... لم يقل فتحت ابوابها (بحذف الواو) كما قال في اصحاب النار، قيل: لانّ الابواب كانت مفتوحة قبل أن يأتوا احتراما لهم. ولو صحّ ذلك لكان المناسب ان يقال: حتى اذا فتحت أبوابها وجاءوها...
ويمكن ان يكون الوجه فيه حذف جملة الجزاء. ولذلك عطف قول الخزنة ايضا على الشرط. ولعلّ حذفها للاشارة الى ان الجزاء اكبر من ان يتصور او يذكر بلفظ.
ويحتمل أن يكون لفتح باب الجنّة شرط آخر لا بدّ من تحقّقه، فلا يكفي الايمان والعمل الصالح. وهذا الشرط هو ما وردت الاشارة اليه في سورة الأعراف/46 ــ 49 حيث قال تعالى:
(وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).
وأصحاب الأعراف هم محمد وآل محمد صلى الله عليهم.
روى الكليني في الكافي عن الامام الصادق عليه السلام قال: (جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين (وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)؟ فقال نحن على الاعراف، نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الاعراف الذي لا يعرف الله عزوجل إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الاعراف يعرّفنا الله عزّوجل يوم القيامة على الصراط، فلا يدخل الجنة إلا من عرِفَنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه.إن الله تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا، فانهم عن الصراط لناكبون، فلا سواء من اعتصم الناس به ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها، لا نفاد لها ولا انقطاع). ج1 ص 184 ورواه مختصرا في البحار ج8 ص332 عن ابي القاسم الحسكاني من العامة عن الاصبغ بن نباتة.
وروى الصفار في بصائر الدرجات بسند معتبر عن بريد العجلى قال سألت ابا جعفر عليه السلام عن قول الله (وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) قال انزلت في هذه الامة والرجال هم الائمة من آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم قلت: فالاعراف؟ قال صراط بين الجنة والنار فمن شفع له الائمة منا في المؤمنين المذنبين نجا ومن لم يشفعوا له هوى. ص516
والروايات في ذلك كثيرة. وعليه فمعنى الآية ــ والله العالم ــ اذا جاءوها وأذن أصحاب الأعراف ففتحت الابواب...
ولا ينافي ذلك كون الجزاء محذوفا ليذهب فيه السامع اي مذهب.
وقال لهم خزنتها سلام عليكم... يمكن ان يكون هذا ترحيبا لفظيا احتراما واكراما لهم، ويمكن ان يكون القول بمعنى فعل ما يستوجب احاطتهم بالسلام الكامل من كل جهة، كما قال تعالى (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ..) الرعد: 23 ــ 24، فلعل المعنى واللّه العالم ان السلامة عليهم من كل باب ومن كل جهة.
طبتم فادخلوها خالدين... الفاء تدل على أن الدخول والخلود في الجنة جزاء للطيبة الموجودة فيهم، فلا يدخل الجنة الا من كان طيبا. والطيب هو الطهارة والنزاهة، ويقابله الخبث، وهو في الامور المعنوية ما يمجّه العقل والفطرة، ويستقبحه الشرع من الصفات النفسية والافعال، فمن يجد في نفسه اي خبث معنويّ فليبذل جهده في ازالتها ليستحق دخول الجنة والخلود فيها.
وقيل (طبتم) دعاء لهم بأن يعيشوا هناك بالطيب. وقيل انه تعليل للسلام. وعليهما لا يناسب الاتيان بالفاء.
وقالوا الحمد للّه الذي صدقنا وعده... يحمد المتقون ربهم حيث صدقهم الوعد و ادخلهم الجنة. والوعد قد تكرر في الكتب السماوية. و يبدو من الآية أن الحمد أول جملة يقولونها في الجنّة، فاذا شفعناه بقوله تعالى (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يونس: 10، تبيّن أنّ الحمد هو شغلهم الشاغل في الجنّة.
وأورثنا الارض... المراد بالارض ما استقروا عليه، ولا شك أنه غير هذه الارض.
واختلف المفسرون في المراد بايراث الارض، فقيل: انه تشبيه بحال الوارث حيث يتصرف في الارث كيف يشاء.
وقيل: انّ الارث يصدق على كل ما يحصل عليه الانسان من دون تعب، والمتقون وان تعبوا ولكن الجزاء اكبرمن عملهم بكثير.
وقيل: انّ لكل احد مكانا في الجنة، فان لم يعمل ما يستحقه اعطي لغيره، فهو وارثه.
ويمكن ان يكون المراد انهم هم الباقون على قيد الحياة يتمتّعون من نعم اللّه دون غيرهم، حيث ان اهل النار يذوقون الموت وان لم يموتوا، وهم كانوا متمتّعين في الحياة الدنيا، وكل من يخلف قوما على النعم فهو الوارث.
فالتعبير مبنيّ على انّه لولا هذا الاختلاف في نتيجة الاعمال لكان الكل متنعّما على وتيرة واحدة كما كانوا في الدنيا، ولكان ذلك ينغّص الحياة على اهل التقوى، كما انه مما يحزّ في النفس بشدّة ما نجده في هذه النشأة من التساوي بين الصالحين والفاسدين، بل بالعكس نجد الصالحين مقهورين ومظلومين، والفاسدون هم الذين يتولون الزعامات، ويتنعمون باحلى النعم الظاهرية، فالذي يحمد المتقون عليه ربّهم هنا هو انه أورثهم الارض، ولم يشركهم في ذلك الكافرين والظالمين.
وحقا انه لنعمة كبرى تقرّ بها أعين أولياء اللّه و يشفي اللّه بها صدورهم وينتقم بها ممن ظلمهم.
نتبوأ من الجنة حيث نشاء... التبوء التمكّن من المكان.
واشكل التفسير ايضا على بعض المفسرين من جهة استلزام اللفظ لعدم تقيّد اهل الجنة بموضعهم ولا بدرجتهم، اذ تدلّ الآية على انّ لكل احد الحريّة المطلقة في الاستقرار في ايّ مكان شاء، مع انّ الجنة درجات ومراتب!!
فقال بعضهم: إنّ المراد أنّ لكل منهم الحريّة المطلقة في جنّته، ولا يتجاوز الى جنّة غيره. ولكل منهم من المكان ما يصدق عليه انه يتبوّأ من الجنّة حيث يشاء، اي انّ السّعة بمقدار ما يشاء.
ولكن لا يبعد ان تكون الجنّة مكانا عاما واسعا، يجتمع فيه المتّـقون فلا تزاحم هناك بينهم، وامّا الدرجات والمراتب فلعلها ليست في الجنّة وانحاء النعم، وانما هي في امور اخرى معنوية هي اهمّ من النعيم المادي.
فنعم اجر العاملين... الظاهر انه تتمة كلام اهل الجنة، اذ يبعد دخول الفاء على تعقيب كلامهم بكلام من اللّه سبحانه.
وهذا ايضا من دواعي سرور اهل الجنة حيث يشعرون بانّ النعيم انما استحقوها لعملهم، وان كانت النعمة اضعافا مضاعفة بفضل اللّه سبحانه، الا أنّه لا يستحقها غير العاملين.
والتنبيه على ذلك في الآية ضروريّ لحثّ الناس على العمل في سبيل اللّه، وترك التكاسل والاعتماد على الاماني الكاذبة، كما حكاه اللّه تعالى عن اليهود والنصارى في سورة المائدة/18: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ..).
وحكى عن اليهود في سورة البقرة/80 (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
وفي سورة البقرة/111 (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
وغير ذلك من الآيات.
ونحن نجد اليوم ان المسيحيين يرتكبون أكبر الآثام دون خوف من اللّه حتى الذين يعتقدون منهم بالآخرة، لانهم يرون أنّ المسيح عليه السلام بعثه اللّه فداءا لهم فقتل حتى يغفر اللّه لهم كل ما يفعلون من آثام!!! تبّا لهذا الاعتقاد الفاسد.
وترى الملائكة حافين من حول العرش... الآية ترسم مشهد الانتهاء من الحساب، ووصول كل احد الى موضعه المخصّص له، فيخاطب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او كل من يقرأ القرآن او يسمعه انك ترى الملائكة وقد أحدقوا وأحاطوا بالعرش.
وقد مرّ مرارا انّ العرش كناية عن السلطة والحاكمية، والجهة التي تصدر الاوامر. وهو تعبير شائع. فالمراد واللّه العالم انّهم ينتظرون صدور الاوامر لتنفيذها. وهذا دأبهم دائما، الا ان الذي يحدث يومذاك انّ الانسان يجد هذا المشهد العظيم، والملائكة لا يحصي عددهم الا اللّه تعالى، وهم ينتظرون الاوامر الصادرة ينفذونها. وقد تبيّن انّ الرؤية قد لا تكون بمعنى الابصار بل يمكن ان يكون بمعنى تبيّن الحقائق على ما هي عليها بوجه اخر.
يسبحون بحمد ربهم... والباء في (بحمد ربّهم) للمصاحبة اي يسبّحون ربّهم مصاحبا لحمده، فهم ينزّهونه عن كل ما لا يليق به، ويثنون عليه بكل صفاته الحسنى.
وقضي بينهم بالحق... لا يمكن ان يعود الضمير الى الملائكة ــ كما توهمه بعضهم ــ اذ لا اختلاف بينهم ولا اعتداء، وكل منهم في موضعه الحق دائما، بل الضمير يعود الى الناس خاصة او الى الجنّ والانس.
وهذه الجملة وان سبقت في آية سابقة الا انّ الغرض هناك ترسيم مشهد المحاسبة، وأنّ القضاء والمحاكمة عدل مطلق، وانّه لا ظلم اليوم. والغرض هنا ترسيم مشهد الانتهاء، ووصول كل مكلف الى غايته، ووضعه في موضعه الحق.
وقيل الحمد لله رب العالمين... وهكذا ينتهي المشهد الرائع بقول (الحمد للّه ربّ العالمين) وهذه كلمة الكل، ولذلك أتى بالقول مبنيا للمجهول فليس له قائل خاص، وليست هي الكلمة اللفظية فحسب، بل يتجلّى هذا المعنى للجميع، ويعرفه الجميع، ويعترف به الجميع، وهو انّ كل ثناء من كل احد انما هو للّه ربّ العالمين الذي خلقهم ورباهم وأوصلهم الى الغاية التي كتبها لهم. ونحن نقول ايضا دائما: الحمد للّه رب العالمين.