وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللّه يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
وما يستوي الاعمى والبصير... تشبيهات للمؤمن والكافر، والذي يتاثر بالانذار ومن لا تؤثر فيه الايات والنذر. فالاول بصير أي ذو بصيرة يمكنه أن يرى الحقائق التي لا ترى بالعين، والثاني أعمى وان كان له بصر. وقد تكرر التعبير عن فقدان البصيرة بالعمى، قال تعالى: (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) الاسراء: 72.
ولا الظلمات ولا النور... تشبيه آخر فالذي لا يؤثر فيه الانذار يعيش في ظلمات، والمؤمن له نور. قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) الانعام: 122.
وهناك من الكفر ما تتراكم فيه الظلمات فهو لا يرى فيه حتى يده قال تعالى: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّه لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) النور: 40. ويلاحظ أن المشبه هنا هو الايمان والكفر لا المؤمن والكافر كما في التشبيه السابق. وتكرار اداة النفي للتأكيد وكذا في الجملتين التاليتين.
ولا الظل ولا الحرور... وهذا تمثيل آخر للايمان والكفر، فالايمان ظل يستظل به المؤمن ويستريح من مشاكل الحياة وهمومها. واما الكفر فهو حرور. وهي ريح حارة تؤذي وتضر، فكأنّ الكافر في صحراء قاحلة ليس له ظل يأوي اليه، والريح الحارة تمنعه من الاستقرار.
وما يستوي الاحياء ولا الاموات... وهنا يشبه المؤمنين بالاحياء، والكفار بالاموات. وهذا التشبيه من جهة ان الكافر لا يتاثر بسماع الايات والنذر وان كان يسمع، فكانه لا يسمع، بل كانه ميت ليس فيه حياة فان الاصم ايضا ربما يتاثر برؤية الرسول والداعي، وما يبديه من حركة الفم وما يبدو عليه من تاثر حين الانذار، اما الميت فهو جماد لا يمكن ان يتاثر بشيء من هذا القبيل.
ان اللّه يسمع من يشاء وما انت بمسمع من في القبور ان انت الا نذير... كل هذه التمثيلات تاتي في اطار تسلية الرسول صلى اللّه عليه و آله وسلم، وايئاسه عن ايمان اهل الجحود المتغطرسين، فهؤلاء اموات مقبورون لا يمكنك اسماعهم فلا تبتئس بعدم استجابتهم، وما دورك الا دور الابلاغ والانذار، واللّه يسمع من يشاء، ولا يشاء الا اسماع من كملت فيه شرائط الايمان، فلكل قبول ورفض عوامل عريقة في النفس الانسانية، وهناك دواع كثيرة لعدم الاستجابة. ومشيئة اللّه تعالى بمعنى اكتمال عوامل القبول حيث يتبعها بالطبع الايمان والتسليم.
ولعلك تسأل: كيف يمكن التوفيق بين هذه الآية وما ورد من ان الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم خاطب اجساد صناديد قريش بعد مقتلهم يوم بدر، وقد روي بوجوه متعددة، وفي بعضها انه صلى اللّه عليه وآله وسلّم قال لهم في ما قال: اليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا، وان بعض الصحابة قال: كيف تخاطبهم وهم جيف؟ فقال الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده ما انتم باسمع منهم ولكنهم لا يطيقون الجواب. وكذلك ما ورد من تلقين الميت بعد الدفن وما ورد من زيارة اهل القبور وخطابهم بالسلام وغير ذلك.
والجواب ان التعبير في الاية الكريمة تعبير ادبي، ويلاحظ فيه تشبيه الكفار بالاموات وتشبيه عدم تاثرهم من الانذار بعدم السماع. والتعبير الادبي لا يبتني على كون الصفة في المشبه به واقعيا، بل يبتني على تاثر السامع به نفسيا، فحينما تقول زيد كالاسد تشبه زيدا بالاسد في الشجاعة، ومن الممكن ان يكون زيد اشجع منه بكثير، ولكن نفس السامع متاثرة بشجاعة الاسد، وربما يشبه وجه انسان وسيم بالقمر والقمر في واقعه تراب وحجر ليس فيه جمال خلّاب، ولكن التشبيه على اساس ما يتأثّر به الانسان من نوره في الليالي الظلماء. وهكذا سائر الموارد.
ولذلك تختلف الحضارات في التشبيه فالمجتمع الذي نعيشه الآن لا يشبّه بالحمار الا من كان غبيّـا فكأنّ الغباء هو الميزة الواضحة لهذا الحيوان، بينما كانت العرب قديما تشبه الرجل الصبور والذي يتحمل اقسى الشدائد في الحرب وغيره بالحمار لما يمتاز به هذا الحيوان من تحمل الاذى والمشقة، ولذلك سمي آخر خلفاء بني امية بمروان الحمار. والتشبيه هنا ايضا على اساس ما يشعر به السامع ويقتنع به من كون الميت جمادا لا يتاثر بما حوله، فيقول اللّه سبحانه ان هؤلاء كالموتى لا يسمعون ولا يشعرون، ولا يعني ذلك ان الموتى لا يسمعون في الواقع الخارجي بل في شعور السامع.