إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
انا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا... تأتي هذه المجموعة في سياق الآيات السابقة لتسلية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، ولتحذير الظالمين المكذبين. وقوله (بالحق) متعلق بالارسال. والباء للمصاحبة، اي مصاحبا للحق، والمراد به القرآن الكريم، اوالآيات والمعجزات، او الدين الصحيح. ويمكن ان يتعلق بالبشير والنذير، اي انك تبشر بالوعد الحق وتنذر بالوعيد الحق. والغرض اكمال التنبيه السابق ــ حيث حصر الوظيفة الرسالية في الانذار ــ بالتاكيد على ان انذارك مشفوع بالبشارة للمؤمنين، وان انذارك وتبشيرك انما هو برسالتنا وانه بالحق لا يشوبه كذب او مبالغة.
وان من امة الا خلا فيها نذير... (خلا) اي مضى. وهذا تأكيد على أن الانذار لا يختص بهذه الامة، فما من امة اي مجموعة من البشر الا سبق لهم الانذار. والامة ــ كما في مفردات الراغب ــ كل جماعة يجمعهم أمر مّـا إمّا دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد.
وهنا يبدو سؤال، وهو ان هناك كثيرا من المجتمعات البشرية لم يأتهم رسول ومنهم عرب الجزيرة قال تعالى: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) القصص: 46. وقد تكرر ذكر ذلك في القرآن الكريم فكيف نجمع بين الآيتين؟
وأجاب عنه في الميزان بانه لم يقل (الا خلا منها نذير) بل قال خلا فيها... فلا ينافي ان يكون النذير اتاها من غيرها. ولكن هذا الجواب لا يحسم الاشكال لان العرب في الجزيرة وغيرها لم ياتهم نذير لا منهم ولا من غيرهم. ولعله رحمه اللّه أراد بذلك الاشارة الى الرسالات القديمة كما سيأتي.
ويمكن ان نقول: ان النذير اذا قصد به الرسول فلا بد من التوسع في معنى الامة ليشمل كل مجموعة بلغتها الرسالة ولو قبل قرون. وهذا غير بعيد، فان المجتمع البشري في العصر الحاضر يصدق عليه انه جاءه النذير، اي الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم مع تاخره عنه بقرون، ويصدق عنوان الامة الواحدة على هذه المجموعة من البشر التي لا يجمعها الزمان.
وعليه فيصح ان يقال ان عرب الجزيرة مثلا وان لم يبعث فيهم ومنهم رسول، ولكنهم امتداد لمجموعة قديمة خلا فيهم رسول بل رسل كابراهيم واسماعيل عليهما السلام.
ويمكن ان يقصد بالرسول كل من يبلغ الانذار ولو بالواسطة، فلا حاجة الى هذا التوسع في معنى الامة. وعليه فيصح ان يقال: ان عرب الجزيرة مثلا خلا فيها نذير ابلغهم رسالات السماء القديمة ولو بالواسطة، سواء في منطقتهم او في المناطق النائية.
ويقال انه كان من العرب اوصياء لعيسى عليه السلام وان منهم عبد المطلب وابا طالب عليهما السلام، كما ان هناك حكماء في العرب يظهر من كلماتهم واشعارهم انهم كانوا على علم بالرسالات القديمة، بل كانوا يؤمنون بها ويسمون هؤلاء بالاحناف.
كما ان من الممكن ان يعتبر النذير بمعنى ما ينذر لا من ينذر، فيكفي بلوغ الخبر. وهذا التعبير شائع ايضا ووارد في الكتاب العزيز، قال تعالى: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى) النجم: 56. وعليه فيصح ان يقال ان عرب الجزيرة مثلا وان لم ياتهم نذير بمعنى الرسول الا انهم خلت فيهم النذر ببلوغ رسالات السماء الى اسماعهم.
وان يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير... هذا الموضوع مما كرر القرآن التاكيد عليه، وهو مشابهة الامم في مواجهة الرسالات، وان اكثرهم كذبوا الرسل، مع انهم ايضا جاؤوهم بالبينات، اي المعجزات الواضحات التي تُظهِر بوضوح انتماءهم الى السماء، وان اللّه تعالى هو الذي بعثهم، وجاؤوهم ايضا بالزبر وبالكتاب المنير.
وقد اختلف المفسرون في الفرق بين الزبر والكتاب حيث ان الزبر جمع زبور وهو بمعنى الكتاب، فقال بعضهم ان الزبور هو الكتاب الذي غلظت كتابته لان في الزبر معنى الشدة والغلظة، وقال بعضهم ان الزبور هو الكتاب الذي يشتمل على الاخلاق والادعية دون الاحكام والشرائع، ولذلك عبّر عن كتاب داود وهو مجموعة من الادعية بالزبور، وقال بعضهم ان الكتاب المنير يراد به خصوص التوراة، ويراد بالزبر سائر الكتب.
ولكن الظاهر ان الزُبُر يراد بها النواهي والاحكام، فان الزبر ــ بفتح الزاء ــ هو المنع والردع، عبّر به عنها لما فيها من الغلظة والشدة حيث يمنع الانسان من بلوغ مآربه وما يهواه. والكتاب المنير ما يشتمل على الحجج والادلة، ولا يدل التعبير على تعدد الكتاب، فالكتاب الواحد قد يشتمل على حجج وبراهين، وعلى عظات وانذارات. فالغرض واللّه العالم انهم بالرغم من انه بلغهم من اللّه تعالى معجزات وآيات، وبلغهم ايضا عظات وزواجر، وبلغهم ايضا ادلة وبراهين قولية تثبت دعاوى المرسلين، فلم يبق لهم اي عذر، ومع ذلك كذّبوا رسلهم، فاخذهم اللّه بعذابه الشديد.
ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير... (ثم) يدل على التراخي، فلم يستعقب التكذيب نزول العذاب فورا، بل أمهلهم اللّه تعالى وأتم عليهم الحجة، فلما تمادوا في الغي أخذهم. والتعبير بالأخذ ينبئ عن عذاب عظيم أتى عليهم بأكملهم فلم يبق منهم أحد. وللتهويل بما اصابهم اكتفى بالسؤال، ليعترف السامع بهول العذاب: فكيف كان نكير؟!
والنكير مصدر بمعنى الانكار، ولكنه انكارعملي وايّما انكار؟! انكار بعذاب اليم ساحق لا يبقي الحرث ولا النسل، فتدفن كل القابليات التي لم تحن أوان بروزها وتسقط كل الزهور والورود والبراعم. واللّه تعالى لا يبالي بالتبعات، فكل ذلك خلقه وله في خلقه شؤون، وله الحمد على كل حال.