وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللّه بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
والذي أوحينا اليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه... حيث ذكر سبحانه من مقدمات موجبات الفوز والنجاح تلاوة كتاب اللّه وهو معنى عام، اكد في هذه الآية ان الكتاب الذي يجب ان يتلى في هذه المرحلة من الشرائع والنبوات هو القرآن الكريم. وقوله (هو الحق) يفيد الحصر لمكان الالف واللام اي لا حقّ غيره.
وفيه اشارة الى الخلل والتحريف الذي اصاب الكتب السماوية السابقة، ولكنه في نفس الوقت امتداد لتلك الرسالات ولا يمكن ان يحيد عنها بل هو مصدق لما بين يديه اي ما نزل قبله. وقد كثر هذا التعبير في توصيف القران وكذلك الانجيل وذلك تاكيدا على وحدة الهدف والغرض الاسمى من الكتب السماوية، وهو سمة وعلامة على كون الكتاب حقا ونازلا من عند اللّه تعالى.
ان اللّه بعباده لخبير بصير... لعله اشارة الى سر اختلاف الكتب السماوية في احكامها وبعض شرائعها بالرغم من انها كلها تدعو الى هدف واحد، وصراط واحد. والسر هو اختلاف مقتضيات الزمان والمكان، واللّه خبير بصير بعباده وبحاجاتهم المتغيرة، ومصالحهم المتطورة.
وقيل: انها تعليل لايحاء الكتاب الى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم بانه خبير بأهليتك للوحي وبصير بشؤونك.
والفرق بين الخبير والبصير على التفسيرين أن الاول يتعلق بالشؤون النفسية والباطنية، والثاني بالشؤون المرتبطة بالظاهر المحسوس.
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات باذن اللّه... اختلف المفسرون في تفسير الآية وفي بعض مفرداتها الى اقوال كثيرة لا جدوى من التعرض لذكرها.
اما قوله (ثم) فيمكن ان يقال: انها للتراخي في الذكر اي ذكر جملة بعد جملة، وهو كثير التداول، ولكن الظاهر أنها لتراخي ايراث الكتاب عن الايحاء المذكور في الآية السابقة، اي تأخر ايراث الكتاب عن الايحاء به زمانا وهو واضح.
والمراد بالكتاب القرآن الكريم بقرينة ذكره سابقا، فيكون اللام للعهد، بل لعله واضح من السياق. وما ذكر من تاويله بالايمان بالكتب السابقة انما ذكر للفرار من بعض ما يجدونه من صعوبة في تفسير الآية.
انما الكلام في معرفة المراد بالذين اصطفاهم اللّه تعالى لوراثة الكتاب، وأن ذلك هل يقتضي كونهم جميعا من الابرار او المقربين عند اللّه تعالى، ثم توجيه ما ورد في الآية من كون بعضهم ظالما لنفسه، وتوجيه ما يتوهم من الآية التالية من كونهم جميعا في الجنة.
واسخف ما قيل في المقام: إنّ المراد بهم الامة المحمدية، وأنهم جميعا يدخلون الجنّة.
وقال بعضهم: ان الآية لا تدل على انهم لا يدخلون النار فلا تنافي ما تقتضيه المعاصي. ولكن لم ينتبه الى ان من المعاصي ما وعد اللّه عليه الخلود في النار كقتل المؤمن عمدا، وكيف يمكن ان يدخل الجنة طغاة الامة وفراعنتها الذين سوّدوا صفحات التاريخ بظلمهم، وبدّلوا نعمة اللّه كفرا، وصدّوا عن سبيل اللّه، وقتلوا الائمة الطاهرين، ومنعوا حدود اللّه، وملأوا الارض فسادا وجورا؟!
لا اظنّ ان يصدر هذا الكلام ممن له ادنى دراية بحكمة اللّه تعالى، وادنى معرفة بالمعايير التي وضعها اللّه تعالى وقد صرح في كتابه الكريم (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّه وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) النساء: 123، والحاصل ان بطلان هذا الكلام غني عن البيان.
والذي ينبغي ان يقال: إنّ ايراث الكتاب لا يدل على فضيلة وكرامة، قال تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الشورى:14، ولكن الاصطفاء ربما يقتضي ذلك لانه ليس اختيارا مطلقا بل هو اختيار للصفوة وهم الخلّص، ولذلك لم يرد في الكتاب العزيز الا في الانبياء ومن يتلوهم في الفضل او يكتسب منهم الشرف، قال تعالى في سورة آل عمران: 33 (إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ).
واما كلمة عبادنا فلا يدل على تشريف خاص فان اللّه عبّر به عن قوم طغاة كفرة قال في سورة الاسراء: 5 (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ...) والمراد بهم جيش نبوخذ نصر وهم كفار ظلمة.
فيا ترى من هم الذين اصطفاهم اللّه تعالى من بين العباد وأورثهم الكتاب؟
يمكن أن يقال: إن الاصطفاء هنا لا يدلّ على ميزة شخصية للمصطفين وذلك لأنه متعلق بالمجتمع لا بالفرد، وهناك فرق واضح بين الأمرين فمعنى الآية أن اللّه تعالى اختار لايراث القرآن الكريم وتحمل الامانة وايصالها سليمة من التحريف والتغيير الى الاجيال المتأخرة المجتمع المدني في عصر الرسالة المجيدة ومن بعدهم الى زمان انتشار القرآن انتشارا واسعا بحيث يأمن من التحريف.
ولكن الاصطفاء ليس بمعنى أن المجتمع بجميع أفراده كانوا صالحين بل كان فيهم منافقون يتربصون بالاسلام والقرآن الدوائر ولعل منهم من حاول التحريف والزيادة والنقصان فلم يوفق وانما المراد بالآية صلوح المجتمع ككل لأداء هذه المهمة. ومثله قوله تعالى في سورة الحج: 78 (هُوَ اجْتَبَاكُمْ..) خطابا للمجتمع المؤمن.
ولعلّ السرّ في تعقيب هذا الاصطفاء بالتنبيه على انقسامهم الى ظالم ومقتصد وسابق مع أنه انقسام متوقع في كل مجتمع هو دفع هذا التوهم من التعبير بالاصطفاء ولكن التوهم بقي ــ مع الاسف ــ بالرغم من هذا التنبيه، وتسرّب الى التفاسير.
هذا وقد ورد في روايات كثيرة عن طرقنا ان المراد بالمصطفين ذرية فاطمة عليها السلام، وورد في بعضها ان المراد بهم الائمة عليهم السلام، واختاره الطبرسي رحمه اللّه، وايده الالوسي بالحديث المتواتر بين الفريقين (اني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي اهل بيتي وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) ولكنه اختار ان يكون المراد علماء الامة وعلى رأسهم أئمة اهل البيت.
ولكن تفسير المصطفين بالأئمة عليهم السلام يواجه اشكالين أحدهما التقسيم الآتي فان ظاهره انقسام المصطفين اليها والآخر اختصاص الايراث بهم عليهم السلام مع أن الكتاب العزيز كان منتشرا بين المسلمين عن غير طريقهم وهم عليهم السلام أقروا بصحة ما في أيدي الناس وأمروا بتلاوتها كما في أيديهم واستدلّوا في أحاديثهم الشريفة بآياتها حسب ما هو متداول عند الناس.
وقد أجاب السيد المرتضى رضوان اللّه عليه عن الاشكال الاول بأنّ الضمير يعود الى (عبادنا) لا الى (من اصطفينا). وربما يؤيّد ذلك بانه أقرب لفظا، والضمير يعود الى ما هو الاقرب. ولكن يبقى السؤال عن وجه المناسبة بين هذا التقسيم للعباد وإيراث الكتاب للمصطفين.
ويردّ الشريف رحمه اللّه على هذا السؤال بأنّ المراد التعليل وبيان وجه الاصطفاء، وهو ان العباد فيهم الظالم والمقتصد والسابق، وليس للكل اهلية الوراثة فاصطفى اللّه السابق بالخيرات لوراثة الكتاب.
قال رحمه اللّه: والذي أعتمده وأعول عليه، أن يكون (فمنهم ظالم لنفسه) من صفة (عبادنا) أي أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، ومن عبادنا ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، أي فليس كل عبادنا ظالما لنفسه، ولا كلهم مقتصدا ولا كلهم سابقا بالخيرات، فكان الذين أورثوا الكتاب السابقون بالخيرات دونهما. [1]
ولكن هذا بعيد عن اللفظ اذ كان ينبغي ان يقول فان منهم كذا وكذا... ليفيد التعليل واما بدونه فالفاء يفيد التفريع.
ولدفع الاشكال الثاني يمكن حمل ايراث الكتاب على احد معنيين:
1ــ ايراث النسخة الصحيحة من موارد اختلاف القراءات، فان ما يقال من ان كل هذه القراءات متواترة غير صحيح على مذهب اهل البيت عليهم السلام حيث ورد في حديثهم (ان القران نزل على حرف واحد من عند الواحد).[2]
2ــ ايراث معنى الآيات فان تفسير الآيات التي اختلف فيها أهمّ من اختلاف القراءات.
وأما الروايات فلا بد من ملاحظتها، وفي ما يلي بعضها:
1- في الكافي عن الحسين عن معلى عن الوشاء عن عبد الكريم عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: سألته عن قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فقال: أي شيء تقولون أنتم؟ قلت: نقول: إنها في الفاطميين؟ قال: ليس حيث تذهب ليس يدخل في هذا من أشار بسيفه ودعا الناس إلى خلاف، فقلت: فأي شيء الظالم لنفسه؟ قال: الجالس في بيته لا يعرف حق الامام، والمقتصد: العارف بحق الامام، والسابق بالخيرات: الامام.
في هذا الحديث لم ينف الامام عليه السلام ما قاله الراوي من أنّ المراد الفاطميون ولكنه نفاه عمن ادّعى منهم الامامة بغير حق، وسؤال الراوي عن معنى الظالم لنفسه أراد به النقض وأن الاصطفاء لا ينافي كونه ظالما فأجاب الامام عليه السلام بأن المراد من الظالم ليس المدعي للامامة بل الجالس في بيته. ويتبين منه أنّ الظالم منهم ايضا مقصود ضمن المصطفين الذين اورثوا الكتاب.
ومهما كان فسند الرواية ضعيف بمعلى بن محمد ولم يوثق بل قال فيه النجاشي انه مضطرب الحديث والمذهب. وفي عبدالكريم كلام. والملفت أن الراوي عن الامام عليه السلام هو سليمان بن خالد وقيل فيه انه كان يقاتل مع زيد بن علي وأنه لم يكن معه من أصحاب الامام الصادق عليه السلام غيره وأنه قطعت يده في الحرب ثم أفلت وقيل انه تاب بعد ذلك.
ولعل قوله في هذا الحديث ان المراد بالمصطفين الفاطميون من عقيدته الزيدية ويدل على ذلك ايضا أن الامام عليه السلام لما سأله عن الآية قال له (اي شيء تقولون انتم؟) ويقصد بضمير الجمع من هم على مذهبه مثل قولهم عليه السلام لمن يسألهم من العامة.
ومن هنا يمكن أن يقال ان الجواب في الحديث ــ على فرض صحته ــ انما كان مبنيا على صحة ما افترضه الراوي، وليس في كلام الامام عليه السلام تفسير صريح للمصطفين.
ولعل الوجه في تخصيص الظالم بمن ذكر أن من دعا الى نفسه وأشار بسيفه ظالم لغيره لا لنفسه فحسب. ولكنه بعيد جدا لأن الجالس في بيته والمتقاعس عن نصرة الامام ظالم للناس ايضا. فالظاهر أن الامام عليه السلام لم يقصد بذلك الا التعريض بمذهب السائل وعقيدته، ولم يذكر الامام المراد بالمصطفين وانما فسر الاقسام الثلاثة.
وفي تفسيره عليه السلام لهذه الاقسام ايضا تعريض حيث ان الظالم لنفسه لا يختص بمن ذكر، بل يشمله ويشمل غيره فتخصيص العنوان بمن لا يعرف الامام قد يكون للتعريض بمن ينتمي الى سائر المذاهب وان كان المذهب منتميا الى الفاطميين.
هذا مضافا الى ما سيأتي من الاشكال في هذا التفسير من الاساس.
2 – وفيه ايضا عن الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الحسن عن أحمد بن عمر قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول اللّه عز وجل: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا..) الآية قال: فقال: ولد فاطمة عليها السلام، والسابق بالخيرات: الامام، والمقتصد: العارف بالامام، والظالم لنفسه: الذي لا يعرف الامام. [3]
وهذا الحديث واضح في تفسير المصطفين بالفاطميين ولكنه ضعيف ايضا بمعلى مضافا الى ما سيأتي من الاشكال العام.
3- وفي بصائر الدرجات عن سورة بن كليب عن أبي جعفر عليه السلام انه قال في هذه الآية (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا..) الآية قال: السابق بالخيرات الامام فهي في ولد علي وفاطمة عليهم السلام.
وسند هذا الحديث لا باس به وكذا ما يليه لو ثبتت صحة نسخة بصائر الدرجات المطبوعة، وهو غير واضح.
5- وفيه ايضا عن عمار الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) قال: قال: هم آل محمد والسابق بالخيرات هو الامام. [4]
ويظهر من الحديث أن المراد بآل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم ما يشمل غير الأئمة عليهم السلام.
6- وفي معاني الاخبار عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال: سألته عن قول اللّه عز وجل: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه) فقال: الظالم منا من لا يعرف حق الامام، والمقتصد العارف بحق الامام، والسابق بالخيرات بإذن اللّه هو الامام (جنات عدن يدخلونها) يعني السابق والمقتصد.[5]
7- وفي الاحتجاج عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن هذه الآية: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) قال: أي شئ تقول؟ قلت: إني أقول إنها خاصة لولد فاطمة عليها السلام. فقال عليه السلام: أما من سل سيفه ودعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد فاطمة وغيرهم، فليس بداخل في الآية، قلت : من يدخل فيها قال: الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى والمقتصد منا أهل البيت هو العارف حق الإمام والسابق بالخيرات هو الإمام .[6]
وهذا كالحديث الاول والسند ضعيف ايضا.
وهناك روايات اخرى بنفس المعاني او قريبة منها لا يصح منها شيء.
ثم ان هنا اشكالا اخر وهو ان وراثة الكتاب ــ بناءا على هذا التفسير ــ خاصة بالائمة عليهم السلام، واما غيرهم من ولد فاطمة عليها السلام فلا يختلفون عن سائر الناس، بل لعل في اصحاب الائمة عليهم السلام من هم اولى بعلم الكتاب من بعض الاشراف، بل ان في ذرية فاطمة عليها السلام من شرك في دم الامام كما ورد في شان علي او محمد بن اسماعيل حفيد الامام الصادق بالنسبة لعمه الامام الكاظم عليهما السلام، ومنهم الطواغيت والفراعنة.
ولو فرض شمول الحكم لمن هم في عهدنا فان منهم من ارتد عن الدين، وهناك اسر من السادة في لبنان وغيرها تنصروا، ومن السادة من اعلن عداءه لاهل البيت عليهم السلام.
واجاب عن ذلك العلامة الطباطبائي رحمه اللّه بانه لا مانع من اسناد الايراث الى مجموعة مع ان الذي يختص بحفظ الكتاب جمع خاص منهم، كما ان بني اسرائيل اورثوا التوراة حسبما صرح به في القران مع ان حفظة الكتاب جمع قليل منهم.
ولكن هناك فرق بين الموردين فان اسناد ايراث التوراة الى بني اسرائيل باعتبار ان منهم الانبياء والاحبار له وجه وجيه، وذلك لان هذا الاختصاص شرف اختص به بنو اسرائيل في مقابل بقية الامم، ولم يرد فيه التعبير بالاصطفاء واما اصطفاء بني فاطمة سلام اللّه عليها من بين الامة بوراثة الكتاب مع ان المصطفين في الواقع والذين اورث اليهم هم الائمة فقط فهو كضم الحجر الى الانسان، ولا يناسبه التعبير بالاصطفاء.
ويحتمل ان تكون هذه الروايات او بعضها قد حُرّفت عن المعنى المقصود وانها في اصل الصدور انما حصرت السابق بالخيرات في الائمة عليهم السلام، ولم تتعرض لبيان المصطفين كما هو صريح اكثر ما ورد في هذا الباب.
ويلاحظ ايضا اختلاف روايات سورة بن كليب في بصائر الدرجات حتى ان حديثين منها متحدان في السند تماما ومختلفان من حيث اضافة (فهي في ولد علي وفاطمة عليهما السلام) مما يدل على أن الاضافة قد تكون من بعض الرواة.
ومع قطع النظر عن الروايات فالظاهر كما مر أن المراد بالمصطفين العلماء والقراء وحملة الكتاب من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والمراد بالاصطفاء اختيارهم لحمل الكتاب وتسليمه لمن يأتي بعدهم وهو شرف لهم وميزة، الا انهم ليسوا في مرتبة واحدة، فمنهم ظالم لنفسه لم يعرف حق الامام، فلم يفده حمله للكتاب اذ لم يتمسك بالثقل الاخر وهو العترة الطاهرة، فلا يقبل منه عمل. ومنهم المقتصد الذي عرف حق الامام فهو يقصد الخير بمتابعته، ولكنه غير معصوم فربما تصدر منه زلة فهو متوسط، والاقتصاد هو التوسط، ومنهم الامام وهو السابق بالخيرات.
والمراد بالسبق التقدم الرتبي لا الزماني، فالمعصوم افضل عملا من غيره وان كان متأخرا زمانا، مع أنه مقدم زمانا ايضا على أهل زمانه في الخيرات لا في الولادة، لانه الامام والصالحون يتبعون أثره والمتقدم عليه مارق.
والخيرات الاعمال الصالحة قال تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) البقرة: 148. ولا ريب في أن كل شيء لا يكون الا باذن اللّه تعالى، ولكن في سبق المعصومين بالخيرات عناية خاصة، فان ما انعم اللّه عليهم من العلم والعصمة هو الذي جعلهم السابقين الى الخيرات، وهم المقربون السابقون السابقون [7] كما في سورة الواقعة، فالثلة من الاولين هم الانبياء عليهم السلام والقليل من الآخرين هم محمد وآله صلى اللّه عليهم.[8]
ذلك هو الفضل الكبير... الظاهر أن (ذلك) اشارة الى السبق بالخيرات، فالمراد أن سبقهم الى الخيرات بفضل من اللّه تعالى كما أنه باذنه ايضا. ولعل المراد بالفضل ما منحهم اللّه تعالى من العصمة. والفضل في ذلك من اللّه تعالى عليهم وعلى الناس ايضا كما قال يوسف عليه السلام في ما حكي عنه في قوله تعالى: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللّه مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللّه عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)يوسف: 38.
فان قوله عليه السلام: (ما كان لنا ان نشرك..) يدل على ان ذلك لا يمكن ان يصدر منهم، وليس ذلك الا للعصمة الالهية. ثم اوضح ان عصمتنا فضل من اللّه علينا وهو واضح، وهو فضل على الناس ايضا حيث جعل اللّه لهم ائمة معصومين يقتدون بهم ومثلا للفضيلة والايمان يتبعون اثرهم.
والفضل الزيادة بمعنى انه زائد على ما يقتضيه الامتحان الالهي وما وعده اللّه تعالى في بدء الخليقة من ارسال الهدايات قال تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) طه: 123 فاللّه تعالى لفضله ولطفه بالناس لم يكتف بذلك، بل زاد عليه بنصب ائمة معصومين من الانبياء والاوصياء والامر بالاقتداء بهم. وهذا هو الفضل الكبير.
جنّات عدن يدخلونها يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير... هذه الجملة مستأنفة لبيان جزاء السابقين بالخيرات او مع المقتصدين. والظاهر أنّه مبتدأ والجملة التي بعده خبره، والمعنى يدخلون جنات عدن. ويؤيّد ذلك القراءة بالنصب في (جنّات) فيكون قوله (يدخلونها) مفسرا للفعل المقدر (يدخلون). والعدن بمعنى الاستقرار والثبات اي انها جنات خلود.
وقوله (يُحلّون) اي يُلبسون الحلي وهي الزينة. و(من) في (من أساور) زائدة، وورد بحذفها في قوله تعالى (وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ..) الدهر: 21.ويمكن ان تكون بيانية لبيان الحلية المبهمة المفهومة من السياق اي يحلّون حلية من أساور.
والأساور جمع سوار وهو ما يُزيّن به المعصم. قيل انه معرب (دستواره) وهي فارسية. وقوله (ولؤلؤا) عطف على محل (من أساور) اي يحلون فيها لؤلؤا.
والمراد بيان تنعمهم في الجنة بالنعم المادية مضافا الى النعمة المعنوية الكبرى التي لا يعادلها شيء وهي رضوان اللّه تعالى. والنعم المادية هناك ايضا لا يعادلها شيء في هذه الحياة فليست الماكولات والمشروبات هناك كما هي هنا، والفرق بينهما فرق جوهري كما ان النارهناك ليست كالنار هنا، ولكن القران يستعمل المفاهيم التي نعرفها اذ لا يمكن التعبير عن تلك المفاهيم بحيث يعلمه البشر الا بما يدل على المفاهيم المألوفة له.
وقيل: ان (جنات) بيان للفضل الكبير او بدل عنه.
ولكن مقتضى ذلك ان تكون الاشارة في قوله تعالى (ذلك هو الفضل الكبير) الى نفس الخيرات لتتحد مع الجنات، فيكون المراد بالسبق السبق الى سببها اي الاعمال الصالحة، وهو يحتاج الى تاويل اذ لا يشار الى الخيرات بـ (ذلك) فانه للاشارة الى المفرد المذكر.
والظاهر ان (ذلك) اشارة الى نفس السبق كما مرّ آنفا، اذن فاعتبار (جنات) بيانا للفضل لا يلائم السياق.
وقالوا الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور... تشير الآية الى حالة الرضا والبهجة لاهل الجنة وهم يحمدون اللّه تعالى الذي اذهب عنهم الحزن. والكلام هنا في المراد بالحزن الذي أذهبه اللّه تعالى عنهم فيحتمل ان يكون ذلك اشارة الى تخوّفهم في الحياة الدنيا مما سيستقبلهم في الآخرة، او حزنهم مما يجري على المؤمنين بل على البشرية جميعا في الحياة الارضية من ظلم واضطهاد، وصدّ عن سبيل اللّه، وضلال، واتباع للشهوات، وغفلة عما يستقبلهم من مخاوف ومخاطر، او حزنهم على ما كانوا يلقونه في الدنيا من ظلم وهتك واساءة. وعلى كل حال فالدنيا مليئة بما يستوجب الحزن للجميع.
ولكن التعليل بالغفران والشكر يوحي بان المراد بالحزن تخوفهم من مستقبل أمرهم في الآخرة فيحمدون اللّه تعالى على غفرانه لتقصيرهم وشكره لاعمالهم الصالحة.
ولا ينافي ذلك ما مر من احتمال ان يكون المراد خصوص السابقين وهم المعصومون المقربون فان العصمة لا تنافي الخوف من المستقبل والانسان كلما زاد قربا وخصه اللّه تعالى بفضل ورحمة ونعمة فانه يزداد مسؤولية وتكليفا، كما هو الحال في الشؤون الدنيوية فيختلف خوفنا عن خوفهم. نحن نخاف مغبّة سوء اعمالنا حيث نعلم انها ربما تستوجب النار، وهم يخافون نقصا في الدرجة وكل انسان همّه بقدر همّته، مضافا الى أن استحقاق الجنة يشمل المقتصدين ايضا.
الذي أحلّنا دار المقامة من فضله... أحلّنا اي أنزلنا. والمقامة مصدر بمعنى الاقامة. والمراد بها الخلود. وقوله (من فضله) بمعنى انه ليس من استحقاق فلا يستحق أحد على اللّه شيئا مهما عظم قدره، وكل ما ينعم به على الخلق فضل منه تعالى.
لا يمسّنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب... يصفون حالهم بانهم لا يصيبهم في الجنة نصب وهو التعب، ولا لغوب، وقد فسر بالتعب ايضا، ولكن في الكشاف انه الملل الذي يحصل من التعب، وظاهر الآية يقتضي التغاير. ويمكن ان يكون المراد باللغوب الملل الحاصل من البقاء في الجنة، فان الانسان بطبعه يملّ من البقاء في مكان واحد ويحب التغيير ولكنه في الجنة لا يحب ذلك، كما قال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا) الكهف: 108.
[1] رسائل الشريف المرتضى ج3 ص 102
[2] صحيحة فضيل بن يسار قال قلت لابي عبد اللّه عليه السلام: (ان الناس يقولون: ان القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا أعداء اللّه ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد) الكافي: ج2 ص630
[3] الكافي: 1 ص 214-215
[4] بصائر الدرجات ص 64
[5] معاني الاخبار ص 104
[6] الاحتجاج ج2 ص 138
[7] الصحيح في تفسير الآية ان التكرار للتاكيد بمعنى أنهم سبقوا الآخرين سبقا كثيرا لا يمكن اللحاق بهم
[8] كمال الدين وتمام النعمة للصدوق رحمه اللّه: 206 عن ابي جعفر الباقر عليه السلام (ونحن السابقون ونحن الآخرون)