مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللّه حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللّه يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

 

يا ايها الناس ان وعد اللّه حق فلا تغرّنّكم الحياة الدنيا ولا يغرّنّكم باللّه الغرور... هذا تنبيه واخطار عام للبشر (إن وعد اللّه حق). وان من أخطر ما يغترّ به الانسان احتمال ان لا يفي اللّه تعالى بوعده ووعيده، والوعد عام يشملهما. وقد وعد اللّه الانسان بحياة اخرى يعيشها بعد الانتقال من هذه الحياة ليرى اعماله ونتائجها، ومن أوفى بعهده من اللّه، وانما لا يفي بوعده العاجز او الجاهل، اما العاجز فواضح، واما الجاهل فلانه يعد ما لا يستطيع الوفاء به وهو جاهل بذلك. واللّه تعالى عالم الغيب وقادر على كل شيء، فوعده حق بلا ريب.

والذي يوجب اغترار الانسان بهذه الافكار الخاطئة امران:

احدهما من نفسه، وهو تعلقه بملذات الدنيا وشهواتها، فيمنّي نفسه بان هذه لذة حاضرة، ولا وجه لرفع اليد عنها توقعا للذة موعودة. والآية الكريمة تحذره من ذلك (فلا تغرنكم الحياة الدنيا).

والآخر من الشيطان، حيث يوسوس في نفسه، ويهمس في اذنه، ويلقي في روعه، ما يجعله يشك في انجاز اللّه ما وعده. وهو المراد بالغرور (بفتح الغين) اي الذي يغرّ الانسان ويخدعه. وقوله (باللّه) بمعنى أنه يخدعه برحمة اللّه وعفوه وكرمه، او باستبعاد أن يفي اللّه بهذه الوعود، او بانها مبالغات لا يراد بها ظاهرها، ونحو ذلك. ولذلك يقول اللّه تعالى عن ذلك اليوم: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللّه مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الزمر: 47.

ان الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا... الشيطان هو الروح الشرير الذي يبعث في الانسان دواعي الشر، وهو بالطبع عدو للانسان، وقد ابرز عداءه حينما ابعده اللّه تعالى من السماء لعدم سجوده للانسان وخضوعه له، بدعوى انه اشرف منه، ومع ذلك فان الانسان بالرغم من معرفته به يتخذه صديقا، بل سيدا مطاعا، فيعبده ويطيعه ويستسلم له ويسلم له قياده يذهب به اينما شاء، وهو كالبهيمة السائمة لا يهتم الا بعلفه. واللّه تعالى نبه الانسان بخطره منذ اقدم العهود، وهو هنا ايضا يطلب منه ان يتخذ الشيطان عدوا كما هو كذلك، واتخاذه عدوا بمعنى المعاداة له، وهي تتنافى مع الاطاعة والمتابعة.

انما يدعو حزبه ليكونوا من اصحاب السعير... هذا تعليل لوجوب المعاداة، والحزب: الجماعة من الناس يجمعهم رأي واحد او هدف واحد، والمراد بهم هنا من يتبعون الشيطان والقاءاته، والسعير: النار المشتعلة.

والسبب في دعوته لهم الى النار انه يعلم ان هذا مصيره بعد ان امتنع من اطاعة اللّه تعالى، فيريد ان يحشد حوله اكبر عدد ممكن من اصحاب الضلال، فهو في الظاهر وان كان يدعوهم الى الشهوات والملذات، ولكن حيث كانت العاقبة هي النار فكأنه يدعوهم اليها.

ومثله كثير من البشر ممن لا يكتفي بضلالة نفسه، واتباعه للشهوات المنحطة، والقذارات الخلقية، والمفاسد الاجتماعية، بل يحاول ان يجرّ معه أكبر عدد ممكن من الشباب المغفّل. والانسان اذ يلاحظ وسائل الاعلام المتكثرة والمتزايدة يوما بعد يوم يستغرب من إصرار بعض البشر ان يبثّوا سمّا في المجتمع لا ينفعهم، وانما يضرّ الآخرين، لا لشيء الا لمجرد ان يزيدوا من عدد الضالّين المنحرفين مهما امكن.    

الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة واجر كبير... تتعرض الآية لبيان حال الفريقين: حزب الشيطان، وحزب اللّه، ولبيان مناط الانقسام ايضا، فقسم كفروا بنعم ربهم او كفروا به اساسا فلهم عذاب شديد. وتنكير العذاب لعله للاشارة الى شدّته، مضافا الى أنه مختلف باختلاف درجات الكفر وباختلاف الاعمال، فالتنكير أنسب. وقسم آمنوا بربهم وعملوا الصالحات، ولا أثر لايمان لا يستتبع عملا، فاللّه يفيض عليهم مغفرته ورضوانه، و يجازيهم باعمالهم اجرا كبيرا. والتنكير هنا ايضا لبيان عظمة الجزاء، واختلاف مراتبه.

أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا فإن اللّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء... تشير الآية الكريمة الى أخطر ما يمكن ان يبتلى به الانسان فردا ومجتمعا، وهو ان لا يميز بين الحسن والسيء، بل يرى العمل القبيح والسيء حسنا، قال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) الكهف: 103ــ104.

والسبب في كونه اخطر شيء وان صاحبه اخسر عملا هو انه لا يمكنه اصلاح نفسه، لانه لا يحتمل في عمله الخطأ والسهو، ولا في نفسه الجهل والنسيان والاشتباه، فلا يراجع نفسه، ولا يتردد في مسيره، ولا يسأل احدا، ولا يسمع النصح والارشاد من احد، بل يرى كل النصائح والارشادات متوجهة الى غيره.

وهذه المشكلة لا تختصّ بالامور الدينية، وما يحتاجه الانسان لمسيرته الابديّة التي تنتهي به الى عالم الآخرة، بل يشمل كل جوانب الحياة في هذه الدنيا، فالانسان المعجب بنفسه وعقله وسياسته ودهائه وذكائه وعلمه لا يخطو خطوة الى الامام، ولا يحاول تصحيح مساره، لانه يجد نفسه في الخط الصحيح، وانه يسير بالسرعة المطلوبة، بل فوقها بكثير. ومثل هذا لا يؤثر فيه اي نداء وتحذير.

وكما هو الحال في الفرد كذلك في المجتمع، فان المجتمع الذي يجد نفسه بالغا أعلى مراتب الكمال البشري، وانه لا يخطئ المسار الصحيح، وانه لا ينقصه شيء، فهو لا يحاول  مواكبة التطور البشري، ويبقى في مكانه او يعود القهقرى. واما اذا كان المجتمع يرى في نفسه النقص والتخلف عن ركب الحضارة، فانه يحاول ويجهد للتقدم وهذه المحاولة والجهد اول ما يحتاجه كل مجتمع للتقدم والتطور.

والآية الكريمة ترتبط بما قبلها، حيث حذّر في الآيات السابقة من خداع الشيطان وتغريره. وقسّم الناس الى كافر ومؤمن، فبيّن في هذه الآية أنّ اقوى سبب في ضلال الانسان هو غروره بنفسه وبعمله.

وجاء بالتزيين مبنيا على المجهول اذ لا تختلف النتيجة باختلاف الفاعل، فهذا التزيين ربما يكون من نفسه، وربما يكون من الشيطان، وربما يكون من اناس حوله، كالحاشية التي يحيطون بالامراء والملوك، ويحاولون طمأنته بان كل ما يعمله هو الصحيح، ليستدرّوا منه ما يطمعون، وهم ألدّ اعدائه لانهم يزينون له سوء عمله، حتى انهم يسترون عنه الحقائق في الوضع الاجتماعي، فيتصوّر ان الشعب كله يحبونه ويسلمون الامر اليه، والامر بخلافه في الواقع.

والتاريخ يرينا من هذا الامر العجب العجاب قديما وحديثا. وأغرب ما في هذا الباب عدم تنبه المتاخرين بما أصاب المتقدمين. وعلى كل حال فالتزيين كيفما حدث ومن اي احد، فان النتيجة وهي انه يرى عمله حسنا هي الموجبة للهلاك.

ثم ان الآية لم تذكر الخبر ليذهب السامع فيه كل مذهب: افمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا... كمن لم يزين له ذلك؟ او... يهتدي الى الطريق الصحيح؟ أو نحو ذلك... وقيل ان الخبر تذهب نفسك عليه حسرات؟ وهو بعيد. ولعل الاصح ان يكون التقدير: يهتدي الى الطريق الصحيح، او تتوقع له الهداية، ونحو ذلك مما يفيد معناه.

والجواب طبعا هو النفي وقوله تعالى: (فان اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء) بمنزلة التعليل له، فهذا لا يتوقع له الهداية لان اللّه تعالى اضله (ومن يضلل اللّه  فما له من هاد) والهداية والضلال بيد اللّه.

ولكن ذلك لا يختص بالهداية والضلال، فكل امر بيده، واليه يرجع الامر كله، فما هو المقصود من هذه العبارة؟

الظاهر ان المراد بيان ان الضلالة والهداية كاي امر طبيعي آخر يتبعان عللهما واسبابهما، فاذا تمّت اسباب الضلال المطلق فلا مجال للهداية، وانما على الرسول البلاغ ومحاولة ايجاد عامل من عوامل الهداية، فان كان المحل غير قابل لها فانه لن يهتدي ابدا مهما حاول الرسول. وهذا معنى ان اللّه يضل من يشاء، وان من اضله اللّه فلا هادي له، لانه امر طبيعي يتبع عوامله المستلزمة له بالطبع. واسناده الى مشيئة اللّه تعالى من جهة ان كل امر طبيعي مستند الى مشيئته محضا، لا تتدخل فيه ارادة اخرى. وهكذا الكلام في الهداية.

وهنا يثار سؤال آخر وهو انه اذا كان ذلك يتبع مشيئة اللّه محضا، فما هو ذنب الضالّ، وبماذا يعتزّ المهتدي؟

ويتبين الجواب بالتامل فيما ذكرناه، فان بعض العوامل المستتبعة للضلال المطلق الذي يوجب الطبع والختم على القلب فلا ينفذ فيه نور الهداية ابدا، امر اختياري وهو العناد مع الحق، ورفض الايمان بعد اتضاحه له استكبارا او حسدا او متابعة للشهوات. وهذا هو مراد من يقول ان الاضلال هنا من باب المجازاة، وليس اضلالا ابتدائيا.

فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ان اللّه عليم بما يصنعون... حيث ان الاضلال والهداية من اللّه تعالى، ولا يمكن رفعهما ومنعهما، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات اي لا تهلك نفسك حسرة على عدم هدايتهم، اي من اجل التحسر والتأسف على ذلك. وهذه الجملة تبرز غاية اهتمام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ــ كسائر الرسل ــ بهداية الناس، لانهم يرون ما لا يراه الناس من عظم الخطر المحدق بالانسان، وهو غافل في مرتعه كالبهيمة المربوطة، همها علفها.

وفي هذه الجملة غاية التسلي للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وسائر الدعاة المخلصين بان لا يهتموا الا بواجبهم وهو الدعوة، ولا يحزنهم عدم استجابة الناس لها. وانما جمع الحسرة لان دواعي الاسف على الناس متعددة، وخسائرهم في حالة الضلال لا تحصى.

وقوله تعالى (ان اللّه عليم بما يصنعون) لبيان انه تعالى يعلم من يستحق الهداية ومن يستحق الضلال بما صنعته يداه. وقيل: انه لتهديد الكافرين وما يستحقونه من عذاب، نتيجة ما يصنعون، فيكون تسلية اخرى للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم.