مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

بسم الله الرحمـن الرحيم

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)

 

(فصلت) سورة مكية، وذلك واضح من سياقها وخطاباتها الموجهة الى المشركين. ويقال: إنّها من أقدم السور المكية. ويدلّ على ذلك الحديث التالي المروي في بحار الأنوار، نقلا عن كتاب (إعلام الورى بأعلام الهدى). ونحن ننقله من هذا المصدر، وإن روي في مصادر أخرى أيضا من كتب العامة والخاصة بألفاظ مختلفة:

(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لا يكفّ عن عيب آلهة المشركين ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمد. ويقول بعضهم: هو كهانة. ويقول بعضهم: هو خطب. وكان الوليد بن المغيرة شيخا كبيرا، وكان من حكام العرب يتحاكمون اليه... وكان من المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، وكان عم ابي جهل بن هشام فقال له: يا أبا عبد شمس ما هذا الذي يقول محمد أسحر أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه.

فدنا من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهو جالس في الحجر فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك. قال: ما هو بشعر، ولكنه كلام الله الذي بعث به انبياءه ورسله. فقال: أتل عليّ منه فقرأ عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم" فلما سمع الرحمن استهزأ فقال: أتدعو الى رجل باليمامة يسمى الرحمن. قال: لا ولكنّي أدعو الى الله، وهو الرحمن الرحيم.

ثم افتتح سورة حم السجدة، فلمّا بلغ الى قوله "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" وسمعه اقشعرّ جلده، وقامت كل شعرة في راسه ولحيته، ثم قام ومضى الى بيته، ولم يرجع الى قريش. فقالت قريش لأبي جهل: يا أبا الحكم! صبا أبو عبد شمس الى دين محمد، أما تراه لم يرجع الينا، وقد قبل قوله ومضى الى منزله، فاغتمّت قريش من ذلك غمّا شديدا.

وغدا عليه ابو جهل، فقال: يا عم نكست برؤوسنا وفضحتنا. قال: وما ذاك يابن أخ؟ قال: صبوت الى دين محمد. قال: ما صبوت وانّي على دين قومي وآبائي، ولكنّي سمعت كلاما صعبا تقشعرّ منه الجلود. قال ابوجهل: أشعر هو؟ قال: ما هو بشعر. قال: فخطب هي؟ قال: لا، إنّ الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضا له طلاوة. قال: فكهانة هي؟ قال: لا. قال: فما هو؟ قال: دعني افكّر فيه فلما كان من الغد، قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا هو سحر فإنّه آخذ بقلوب الناس فأنزل الله تعالى فيه: ذرني ومن خلقت وحيدا... الى قوله: عليها تسعة عشر) [1]

حم... من الحروف المقطعة، وربما يقال: انه اسم للسورة. وقد مرّ بعض الكلام حول هذه الحروف في تفسير سورة يس المباركة.

تنزيل من الرحمن الرحيم... اي هذا القرآن تنزيل.. والتنزيل مصدر بمعنى اسم المفعول، اي منزّل من الرحمن الرحيم.

والتعبير بالتنزيل ليس بمعنى أنه اُنزل من مكان مرتفع بل باعتبار العلوّ المعنويّ، حيث إنّه اُرسل الى البشر من عند ربّ العالمين، او بلحاظ أنّ مضامين هذا الكتاب معان عالية جدا لا يبلغها عقول البشر فنزّلها الله تعالى الى مستوى فهم الانسان وإدراكه.

والرحمن صفة مشبّهة تدلّ على المبالغة في الرحمة من جهة الشمول والسعة. فهي تشمل الرحمة على الكافرين ايضا ولكن في الدنيا.

والرحيم ايضا صفة مشبّهة ولكنها تدل على الثبات واللزوم، فهي تختصّ بالمؤمنين، حيث إنّ الرحمة لازمة لهم لا تنفكّ عنهم وتشملهم حتى في الآخرة.

وفي حديث عن الامام الصادق عليه السلام في تفسير البسملة قال عليه السلام (والله إله كل شي‏ء الرحمن بجميع خلقه الرحيم بالمؤمنين خاصة).[2]

وعليه فالتركيز على الإسمين الكريمين ، لعله للدلالة على أنّ القرآن الكريم يفيد البشر في الدنيا والآخرة، لأنّه منزّل من الرحمن، الإسم الذي يشير الى الرحمة العامة، والرحيم الذي يشير الى الرحمة الخاصة. أو يفيد الكافر والمؤمن، أمّا الكافر فبهدايته الى الإسلام والإيمان، وأمّا المؤمن فبتثبيت إيمانه، وإنارة طريقه الى رضا الله تعالى.

والرحمة في الأصل رقّة في القلب تستدعي لطفا وعناية. ولكنّ ذلك مستحيل على الله تعالى، فاذا نسبت اليه كانت بمعنى نفس اللطف والعناية.

كتاب فصّلت آياته... خبر بعد خبر. والمراد بالتفصيل التوضيح والتبيين. ومنه ايضا قوله تعالى في نفس هذه السورة في الآية 44 (ولو جعلناه قرآنا اعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي..) فالتفصيل هنا في مقابل العجمة حيث يكون المعنى مجهولا لدى العربي.

والمقصود أنّ آيات هذا الكتاب واضحة المعاني وليست معقّدة، وإن كانت لها بواطن ربما لا يعلمها أحد الا بتبيين من الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، ولكن لها معان ظاهرة وواضحة تكفي لإيصال الإنسان الى الهدف المنشود.

ويمكن أن يكون التفصيل باعتبار أنّ هذا الكتاب يفيد كلّ أحد يرجع اليه ممّن يعرف اللغة على اختلاف المستويات الثقافية، وعلى اختلاف المذاهب والأديان، وعلى اختلاف الأذواق والأفكار، وعلى اختلاف المشاكل والحاجات، فالقرآن يمدّ كلّ أحد بما يناسبه.  

قرآنا عربيا... حال من الكتاب اي فصّلت حال كونه قرآنا عربيا. والقرآن مصدر من قرأ بمعنى جمع، اي هو مجموعة من المطالب باللغة العربية الفصحى. ويمكن أن يكون مصدرا بمعنى القراءة اي التلاوة، وان كان الاصل فيها ايضا الجمع، فالمراد على ذلك أنه مقروّ ومتلوّ، اي سهل القراءة ينتفع به الجميع.

لقوم يعلمون... متعلق بقوله (فصلت) ولعل المراد الذين يعلمون اللغة العربية. ويمكن ارادة العلم بمعنى مطلق في مقابل من ليس له رصيد علمي اصلا، فلا ينتفع بشيء منه، او بمعنى من له قابلية العلم نظير قوله تعالى (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[3] اي من له قابلية اليقين، في مقابل المعاند.

بشيرا ونذيرا... حالان ايضا من الكتاب لبيان الهدف من التنزيل، وهو تبشير المؤمنين بما يستقبلهم من رغد العيش في الحياة الآخرة، وإنذار لمن سمعه فأعرض عنه بما اُعدّ له من العذاب في تلك الحياة الابدية.

فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون... استغراب من مقابلة كفار قريش لهذا الكتاب الذي اُنزل بلغتهم، وفُصّلت آياته، وهو يبشّرهم ويحذّرهم وينذرهم بمستقبل خطير، ومع ذلك أعرضوا عنه ولم يهتمّوا به، كأنّهم لا يسمعون شيئا. وكان المفروض ممن يعقل أن يهتمّ بمستقبله ويسمع لأيّ تحذير. ولذلك نُزّل عدم اهتمامهم بمنزلة عدم السماع اذ لا يعقل من الانسان العاقل أن لا يهتمّ بمثل هذا الانذار.

والأغرب من ذلك أنّ هؤلاء يشكّلون الاكثرية في هذا المجتمع. وهذا من الموارد التي يتبيّن منها ضعف أداء الاكثرية، وبطلان اللجوء الى رأيها والاستناد اليها.

والظاهر أنّ الضمير في (أكثرهم) يعود الى قوله تعالى (قوم يعلمون) اي العرب العالمين باللغة، او من لهم شيء من العلم، او قابلية العلم.

ومهما كان فالمراد بالاكثر كفار مكّة، وربّما يقال: إنّ أهل مكّة أسلموا بعد ذلك فلماذا نسب الكفر والجحود الى أكثرهم؟

والجواب أنّ الأكثرية قد يكون بلحاظ زمان نزول الآية، او باعتبار أنّ أكثرهم ماتوا على الكفر، او باعتبار أنّ أكثر من أسلم منهم إنّما أسلم بعد الفتح كرها ونفاقا.

وقالوا قلوبنا في أكنّـة مما تدعونا اليه وفي آذاننا وقر... الأكنّـة جمع كِنان، كالأغطية جمع غطاء، وهو بمعنى الغطاء ايضا. والمراد بالقلوب العقول، وكونها في غطاء كناية عن عدم تأثّرها بما يلقى عليهم من المعلومات، اي أنّهم لا يفهمون معنى ما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وما يدعو اليه من حقائق، كما قال قوم شعيب عليه السلام له: (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ..).[4]  

والوقر في الاصل الثقل، فيطلق على الثقل في الحمل، وعلى الثقل في السمع، وهو الصمم. والمقصود أنّـا لا نسمع كلامك، فضلا عن فهم معانيها.

ومن بيننا وبينك حجاب... (من) زائدة، اي بيننا وبينك حجاب، والظاهر أنّها تؤكّد البينية فتفيد أنّ الحجاب خاص بيننا وبينك وليس حجابا عاما. والحجاب كل ما يستر شيئا عن شيء والمراد به هنا ما يمنع الرؤية، فالمعنى أنّا لا نراك اصلا، فضلا عن السماع. وبذلك أرادوا ان يؤيسوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من إيمانهم لعله يتركهم وشأنهم.

وهم صادقون في ما قالوا، فهذا الحجاب والوقر والاكنّة اُمور طبيعية، تحصل من عناد الانسان في مواجهة الحق. وقد أخبر بها الله تعالى في موارد عديدة من كلامه العزيز، منها قوله تعالى (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا...).[5]

فاعمل اننا عاملون... قيل: إنّ المراد اُتركنا واعمل بما تراه صحيحا، ونحن ايضا نعمل بما نراه. ولكنّ هذا لا يناسب غطرسة القوم، بل هو الذي كان يطالب به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بأمر من الله، قال تعالى (وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ الله مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ..)[6] وكانوا يرفضون هذه الفكرة.

والظاهر أنّ المراد به التهديد اي اعمل ضدّنا كما تشاء، وائتنا بما تعدنا، إنّا عاملون ضدك بما نستطيع، او إنّا ماضون على طريقتنا. ويؤيّده الجواب الذي يأتي في الآية التالية.

قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ... أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم أن يردّ على كلامهم بأنّه ليس الا بشرا مثلهم، والعذاب إنّما يأتي به الله تعالى اذا اراد. فهذا جواب على قولهم (فاعمل اننا عاملون) وهو كما ذكرنا يؤيّد التفسير المتقدم لهذه الجملة.

والآية تنبّه على أنّ الفرق بين الرسول وغيره من الناس أمر واحد، وهو أنّه يوحى اليه. ولعل بعض الناس يتوهّم أنّ هذا ينزّل من شأن الرسول، وأنّ كل ما يقال في إكرام الرسل، وأنّهم فوق مرتبة سائر الناس انما هو غلوّ في حقهم، لأنّ الله تعالى يقول: إنّ الرسول بشر مثلكم، وإنّما هو بشر يوحى اليه.

ولكنّ الواقع أنّ هذا الفرق كبير جدّا كالفرق بين السماء والارض، فأين البشر المتوغّل في الامور الماديّة او المهتمّ بها، فضلا عن الذي يجد بينه وبين الرسول حجابا، والذي لا يسمع صوته، من البشر الذي يرتبط بالسماء، وتنزل عليه الملائكة، ويوحي اليه ربه؟!

إنّ هذا الفرق الكبير أعظم من أن تناله أوهامنا وتصل اليه أفكارنا. نعم! الرسول بشر مثلنا في جسمه، وما يتبعه من اوصاف نفسية بشرية، كالغضب والرضا، والحب والبغض، ولكنّه بشر انتخبه الله تعالى واصطفاه ليؤدّي رسالة السماء، وأمر الناس جميعا بإطاعته، لأنّه معصوم لا يمكن أن يأمر بما يهواه ما لم ينزل به الوحي الالهي.

أنّما إلهكم إله واحد... يبدو من الجملة انحصار الوحي في توحيد العبادة، وذلك لأنّه في مقام بيان الفارق بينه وبين سائر البشر، وأنّ الفرق ليس الا الوحي، ثمّ حدّد متعلق الوحي بالتوحيد فالسياق يقتضي الانحصار.

وليس هذا من المبالغة، بل هذا هو أساس كل ما يوحى الى الرسل في جميع الشرائع: (لا تعبدوا الا الله) وهو أساس الوحدة الاجتماعية في البشر (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)[7] والبشر لولا الدين لاتّحدوا على الباطل، وانما تفرّقهم الأهواء (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ..)[8] فالذي تدعو اليه الأديان وشرائع السماء هو الالتفاف حول كلمة التوحيد، ونبذ التفرق على هذا الاساس.

قال تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ..)[9] فهذا هو روح الشرائع.

والاله هو المعبود، فالمطلوب من الانسان أن لا يعبد الا الله تعالى، وهذا يشمل عبادة الأصنام والبشر والمال والشيطان والهوى ونحوها. وكل سعادة الانسان تكمن في ذلك، فان الاطاعة العمياء عبادة، فاذا لم يطع الانسان بشرا ممّن لم يأمر الله تعالى بإطاعته، ولم يطع ما يلقيه اليه شياطين الجنّ والانس، ولم يطع هواه، فإنّه يقرب من أن يكون معصوما.

فاستقيموا اليه... تفريع على التوحيد. والإستقامة هو الاعتدال، وعدم الانحراف يمينا او شمالا، وهو السير على الصـراط المستقيـم، ويفيد معنى الثبـات ايضا. وحيث ضُمّنت الاستقامـة معنى التوجّـه عُـدّيـت بـ (الى) اي استقيموا في توجّهكم اليه. ومعنى ذلك أنّ مجرّد التوجّه الى الله تعالى غير كاف، بل لا بدّ من الاستقامة فيه، ومتابعة الطريق الذي رسمه الله تعالى عن طريق الوحي وبواسطة رسله، والثبات والعزم في الاستمرار عليه.

واستغفروه... لا بد للبشر من الاستغفار، اذ لا يخلو انسان من الانحراف قليلا يمينا او شمالا، فلا بد من الرجوع. والاستغفار هو طلب المغفرة اي الستر عما بدر من الانسان المخطئ.

وويل للمشركين... الويل دعاء بحلول الشر. واذا صدر من الله تعالى فهو إحلال للشّرّ. وقيل: كلمة يقال عندما يراد تقبيح فعل او صفة. وهذا نتيجة لما سلف من أنّ المطلوب هو التوحيد، فمن أشرك بالله فقد حلّ عليه الشرّ.

الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون... المراد بالزكاة مطلق الانفاق في سبيل الله، فلا وجه لاستغراب بعضهم من جهة أنّ وجوب الزكاة انما شُرّع في المدينة، وهذه السورة مكية، بل من أوائل ما نزل بمكّة.

والوجه في التعبير بالزكاة عن الانفاق ، تخصيصه بما يكون موجبا لتزكية النفس وتنميتها معنويا، ولا يكون ذلك الا اذا قصد به التقرب الى الله تعالى، فالانفاق وان كان في حدّ ذاته من مكارم الصفات، وقد قال الله تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[10] الا أنّه ليس بنفسه زكاة. وقد كان الجود صفة معروفة لكثير من المشركين، ولكن الذي كانوا يفقدونه هو ميزة التقرب الى الله تعالى. ولذلك لم يكن في جودهم تزكية للنفس.

ولعل السر في الاهتمام بهذا الأمر هنا هو تنبيه المشركين بأنّ ما ينفقونه من مال لا ينفعهم، بل يكون وبالا عليهم قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً...).[11]

ثم وصفهم بإنكار الآخرة، حيث إنّ مشركي الجزيرة كانوا ينكرونها، مع اعترافهم بالله تعالى. وهذه مفارقة غريبة. وتكرار الضمير للتأكيد على أنّ هذه صفتهم خاصّة، كأنّهم وحدهم من ينكرها. مع أنّه ليس كذلك ولكن للتنبيه على غرابة هذا الإنكار أكّد على ذلك.

إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون... حيث طال الحديث عن المشركين واقوالهم وما يؤول اليه امرهم تعرّض لحال من هم بخلافهم من المؤمنين لئلا يخلو من تبشير، كما هو الحال في موارد عديدة من الكتاب العزيز.

و(ممنون) بمعنى مقطوع. وهو الاصل في معنى هذه الكلمة. والمراد أنّ أجرهم أي الجنّة لا تقطع عنهم فهم خالدون فيها، كما قال تعالى (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)[12] والمجذوذ ايضا بمعنى المقطوع.

وقيل: إنّه بمعنى نفي المنّة عليهم، وأنّه بهذا الاعتبار سمّاه الله تعالى أجرا فكأنّهم نالوه عن استحقاق، ونفس هذا الامر اي عدم المنّ عليهم تفضّل من الله تعالى.

ولكنّه غير صحيح فإنّه تعالى يمنّ على عباده بما أنعم عليهم، ويعدّ نعمه على أنبيائه ايضا، والمنّ قبيح من غيره، وقد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى...)[13] وأمّا عدّ النعم والمنّة منه تعالى فزيادة إحسان وفضل.

 

[1]بحار الأنوار ج17 ص211

[2] الكافي ج1 ص114

[3] الجاثية: 20

[4] هود: 91

[5] الاسراء: 45- 46

[6] الشورى: 15

[7] آل عمران: 103

[8] البقرة: 213

[9] الشورى: 13

[10] الحشر: 9

[11] الانفال: 36

[12] هود: 108

[13] البقرة: 264