مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا الله قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)

 

فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود... الفاء للتفريع، اي بعد هذا البيان للحجج الدامغة والبراهين الواضحة من آيات الله تعالى في السماوات والارض اذا أعرضوا عن قبول الحق والايمان به ، فأنذرهم بالعذاب الذي حلّ بالسابقين من الأمم. ولعله اتى بصيغة فعـل الماضي (انذرتكم) لأنّه إنشاء للانذار كقولك بعت وانكحت.

والصاعقة على ما في مفردات الراغب (الصوت الشديد من الجوّ..) وفي معجم مقاييس اللغة (الصاد والعين والقاف أصلٌ واحدٌ يدلُّ على صَلْقَةٍ وشِدَّة صَوت. من ذلك الصَّعْق، وهو الصَّوت الشَّديد. يقال حِمارٌ صَعِقُ الصَّوتِ، إِذا كان شديدَه. ومنه الصَّاعقة، وهي الوقع الشّديدُ من الرَّعْدِ. ويقال إنَّ الصُّعاق الصَّوت الشديد. ومنه قولهم صعق اذا مات كأنّه أصابته صاعقة).  

فالصاعقة كل ما يحدث صوتا شديدا. وتطلق على البرق اذا أصاب شيئا على الارض، كما تطلق على كل ما يوجب الهلاك. ولعلها اُطلقت هنا بهذا المعنى، اذ يصرّح فيما بعد أنّ التي أصابت قوم عاد ريح شديدة او باردة، كما ورد ذلك في موارد اخرى منها سورة الحاقّة.

وأما ثمود ففي بعض الآيات وصف عذابهم بالرجفة كما في سورة الاعراف:88 وفي بعضها الصيحة كما في سورة هود: 67 وهنا وصف بالصاعقة. فالصيحة والرجفة متلازمان والصاعقة يمكن أن تكون بمعنى ما يوجب الهلاك مطلقا، ويمكن أن يكون العذاب مشتملا على عدة امور.

وعاد وثمود قومان من الأمم القديمة ، بقيت آثارهم الى ايام الرسالة المجيدة، فكان العرب يعرفون اخبارهم ويرون آثارهم. ولذلك اهتمّ بهم القرآن الكريم، ونبّه العرب على لزوم الاعتبار بشأنهم، فقوم عاد كانوا يعيشون في الاحقاف، وهي منطقة ــ على ما يقال ــ في حضرموت اليمن. وأمّا ثمود فكانوا يعيشون في منطقة بين المدينة والشام على ما يقال. وربما يكون هي ما سمي بالحجر في سورة الحج. وهل هي جزء من منطقة وادي القرى ام لا ؟ فيه خلاف بين المؤرخين وعلماء الآثار. والله العالم.

إذ جاءتهم الرسل من بين ايديهم ومن خلفهم ألّا تعبدوا إلّا الله... ظرف لمجيء الصاعقة على عاد وثمود. والاتيان بصيغة الجمع (الرسل) لعله من جهة أنّ كل من جاء من الرسل قبلهم وبلغهم خبره فهو مرسل اليهم.

ولذلك قال تعالى (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ)[1] وهكذا ورد التعبير عن سائر الامم في سورة الشعراء فان تكذيبهم لرسولهم تكذيب لجميع الرسل فكأنّهم بأجمعهم أتوا لجميع البشر.

والدعوة العامّة التي أتى بها جميع الرسل هي (ألّا تعبدوا الا الله) فالظاهر أنّ (أن) مفسّرة لقوله (جاءتهم) الذي يتضمن معنى الدعوة. وأساس الدعوة التوحيد، يعرفه كل من يسمع برسالات السماء. ولكنّ الملفت أن التعبير لم يركّز على الجانب الايجابي من الدعوة، وهو عبادة الله تعالى، بل ركّز على الجانب السلبي، وهو ترك عبادة غيره، واستثنى عبادة الله تعالى.

ولعل الوجه في ذلك أنّ الواجب أوّلا هو تخلية القلب من الركون الى غيره تعالى، ثم تحليته وتزيينه بعبادته، وأنّه لا تفيد عبادة الله تعالى مع عبادة غيره، سواء كان ذلك الغير صنما او كوكبا او بشرا او شيطانا او هوى متّبعا او مالا او تعصبا لقبيلة او طائفة الى غير ذلك.

وقوله (من بين أيديهم ومن خلفهم) لعله بمعنى أنّهم أتوهم بمختلف الوسائل، وفي مختلف الاوقات والحالات، وفي كل محفل ومجمع، فكأنّهم حاصروهم بالبلاغات والادلّة.

ويمكن أن يكون إشارة الى الرسالات التي سبقت وهي التي من خلفهم، والرسالات المعاصرة في مختلف بقاع الارض التي كانوا يسمعون بها، وهي التي بين أيديهم اي كانت حاضرة أمامهم وفي عصرهم.

قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة... هذا هو الجواب المتكرر في الأمم السالفة، ومن لحقهم. ويبتني على اساس استصغار الانسان من أن ينزل عليه الوحي من الله تعالى. وعبّروا عن الله بالربوبية إيذانا بأنّ ذلك مقتضى ربوبيّته لنا، فإنّه إذا أراد أن يهدينا الى هذا الصراط لأرسل ملائكة الينا، لكي يقطع العذر ويتمّ الحجة.

وقد ردّ هذا البيان بوجوه مختلفة في القرآن الكريم:

منها قوله تعالى (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ)[2] ولعل المراد بذلك أنّ نزول الملك على الناس ــ لو فرض إمكانه ــ فإنّه يقطع العذر، ولا يبقي مجالا للامهال، والله تعالى يعلم أنّ عدم إيمان القوم ليس لعدم قناعتهم بالآيات، بل لعنادهم وإصرارهم على متابعة الآباء والاجداد، فإرسال الرسول البشري يبقي لهم مجالا للتشكيك، فيُمهلون ريثما يعودوا الى رشدهم ويتركوا العناد، وأمّا اذا عاندوا مع وضوح الحق بنزول آية من السماء واضحة ــ وهو المتوقّع منهم كما سيأتي ــ فإنّ الإمهال لا مجال له بعد ذلك، فيُعجّلون بالعذاب، والله تعالى لرحمته بعباده يريد إمهالهم.

ويحتمل قويّـا أن يكون المراد أنّ الملائكة لا ينزلون الا ويجعلون كل شيء في موضعه، ومقتضى ذلك أن لا يمهل الكفار والمعاندون، كما قال تعالى (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ)[3] فقوله تعالى (بالحق) يدلّ على أنّ الملائكة اذا نزلوا انما ينزلون بكل الحقّ من دون مداهنة ومسامحة، فيوضع كل شيء في موضعه الحقّ.

ومنها قوله تعالى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)[4] والمعنى أنّ إنزال الملك لا يفيد البشر، ولا يكون حجة عليهم، ولا يمكنه التفاهم معهم، ولا يكون اُسوة لهم، فاذا أردنا أن نرسل ملكا لزم أن يكون بصورة رجل لكي يتمكن من الارتباط بالناس والتكلم معهم، فالملك بصورته الاصلية ليس جسما، ولا يمكن أن يرتبط بالناس، واذا اُلبس صورة الانسان رجع الاشكال واللبس، فإنّهم لا يعلمون أنّه ملك حيث يرونه بشرا فسيقولون لا نؤمن حتى يبعث الله لنا ملكا. وهذا معنى قوله (وللبسنا..). واللبس: الخلط.

والى هذا المعنى ايضا يشير قوله تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا).[5]     

ومنها قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله...)[6] ومعنى ذلك أنّه لا ينفعهم إنزال الملائكة فإنّ عدم إيمانهم ليس لعدم قناعتهم، ولا لقصور في الحجج والآيات، وانما هو لعنادهم قبال الحق، فهم لا يؤمنون حتى لو نزّل اليهم الملائكة أو كلّمهم الموتى، لأنهم سيقولون إنّا مسحورون، كما قال تعالى (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ).[7]

فإنّـا بما اُرسلتم به كافرون... الفاء للتفريع، أي حيث لم يرسل الله ملكا الينا فإنّا لا نصدّق رسالتكم. وليس المراد بقولهم هذا تصديقهم لاصل الرسالة وكفرهم بمضمونها، بل إنّما يعبّرون عنه بما اُرسلوا به تهكّما واستهزاءا بدعوى الرسالة، نظير قول فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ).[8]

فأمّا عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق... بيان تفصيلي لما واجهوا به الرسل وما لحقهم من العذاب بعد ما مرّ من الاجمال. والاستكبار في الارض يراد به الاستكبار على الناس والطغيان عليهم. وقوله (بغير الحق) قيد توضيحي. اذ الاستكبار كله بغير الحق، فهو نظير قوله تعالى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).[9]

ويمكن ان يكون المراد بالاستكبار لازمه، وهو استعباد الناس وفتح البلاد لتولّي شؤون الناس قهرا، كما كان يصنعه الملوك الجبابرة، فيكون بغير الحق بمعنى أنّ الله تعالى لم يجعل لهم ولاية على الناس، فمحاولتهم للتصدّي لشؤون الولاية كان على غير وجه الحق.

وقالوا من أشدّ منّـا قوة... هذه الجملة تبيّن أساس استكبارهم، فهم كانوا يرون أنفسهم أقوى الناس، حيث إنّهم كانوا ــ كما قيل ــ رجالا أقوياء لهم بأس شديد وحضارة متقدّمة في ذلك العصر ومال كثير. وهكذا الانسان الحقير يطغى اذا رأى في نفسه القوّة والمنعة. والله تعالى يرد عليهم:

أولم يروا أنّ الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوّة... والتعبير بالرؤية يدلّ على أنّه وإن لم يكن أمرا محسوسا ومبصرا بالعين الا أنّه من الوضوح بمنزلة الشيء الذي تراه، فخالق القوّة والقدرة أقوى وأقدر، فلا يجوز للانسان أن يطغى على ربه الذي خلقه، وبالنتيجة لا يجوز أن يطغى على عبيده الآخرين الذين خلقهم الله مختلفين في القوّة والضعف، فالاستكبار على الخلق إستكبار على الله تعالى وطغيان عليه، ورفض للتسليم أمام أوامره ونواهيه.

وكانوا بآياتنا يجحدون... عطف على قوله فاستكبروا.. وما بينهما تعليل للاستكبار كما قلنا. وهذا الجحود ايضا ينشأ من الاستكبار، فهم مضافا الى استكبارهم في الارض وعلى الناس جحدوا آيات الله. ومعنى الجحود أنّهم أنكروها بالرغم من علمهم بالحق، وبأنّها آيات الله تعالى. وقوله تعالى (كانوا..) يدل على استمرارهم في الجحود.

فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيّام نحسات... هذا جزاء طغيانهم وجحودهم وتكذيبهم للرسل بعد أن أرسل الله اليهم هودا عليه السلام فكذّبوه واستكبروا عليه، فأهلكهم الله بعواصف شديدة لم تبق شيئا من مبانيهم وقصورهم المشيّدة التي كانوا يتباهون بها على الامم. وقد حدّد الله مدّة هذه العواصف في قوله تعالى (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ).[10]

والصرصر إمّا بمعنى شدّة الصوت او شدّة البرد. والنحسات جمع نحس في مقابل السعد، والمراد نحوسة الايام عليهم، كما قيل.

ولكن هناك من يقول إنّها أيّام نحسة مشؤومة في نفسها، وأنّ الايام منها نحس ومنها سعد. وهناك روايات تدل على ذلك إجمالا، وروايات تنفي ذلك. ولكن الملفت للنظر تكرّر التأكيد على نحوسة أيّـام العذاب على قوم عاد من دون تعرّض لذلك في غيرهم من الامم السابقة، قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ).[11]

وهذا يدلّ على أنّ النحوسة ليست من خصوصية تلك الأيام والا لكانت نحسا على جميع الناس. وليس هناك دليل قاطع على اقتضاء بعض الايام نحوسة بذاتها، بل هو بعيد في حدّ ذاته وان لم يكن مستحيلا. 

لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا... الخزي: الذلّ والهوان والفضيحة. ولعل إضافة العذاب الى الخزي باعتبار أنّه موجب له، فهو مضافا الى أنّه أبادهم وأهلكهم، أخزاهم وأذلّهم في الدنيا، وأصبحوا عبرة للآخرين، إذ يختلف أن يموت إنسان او قوم باجمعهم نتيجة حادث طبيعي يستجلب استرحام الناس لهم، وأن ينزل عذاب الاستئصال على قوم من السماء لكفرهم وطغيانهم فيبيدهم بأجمعهم في خزي وعار.

ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون... نعم! الأخزى والأوجب للمذلّة من عذاب الاستئصال في الدنيا، عذاب الآخرة، فهناك ذلّة مستمرّة وصغار لا ينتهي، والانسان حيّ يشعر به، وهو على مرأى ومسمع من الخلائق اجمعين، مضافا الى أنّه ليس هناك من ينصره، فلو كان في الدنيا من يودّ أن ينصر الامّة المعذّبة وإن لم يقدر عليه، فهناك ليس من محاولة للتناصر، بل لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه.

وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون... ثمود قوم صالح عليه السلام. وكانوا يعيشون في الجزيرة العربية ايضا. وقد طلبوا من نبيهم صالح آية تثبت رسالته. والظاهر أنّهم حدّدوها، وهي أن تخرج من الجبل ناقة خلقها الله من دون ولادة، فأخرج الله لهم ذلك، وكانت ناقة عظيمة تشرب ماء القوم في يوم واحد، فأخبرهم الرسول بذلك (قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)[12] فأزعجهم ذلك وأجمعوا على قتلها.

وكانت هذه محادّة صريحة وعلنيّـة لارادة الله تعالى. ومن الناس من يعجبه أن يبرز جرأته وشجاعته وتهوّره أمام أقوى قوّة يجدها أمامه، وإن كان في ذلك هلاكه، او هلاك خلق كثير، او كان ذلك أمرا عظيما لدى عامّة الناس.

ولذلك تجد بعض الناس يعجبه أن يباهي بقتل الانبياء والائمة والملوك وكبار الشخصيات، او من يتأبّى الانسان من قتله كالنساء والاطفال.

وهكذا أبرز عضلاته أشقى القوم متحدّيا إرادة الله تعالى لجهله وغبائه، وعقر الناقة المعجزة، فنزل الوحي أنّ لهم ثلاثة ايام، ذلك وعد غير مكذوب، ثم نزل عليهم العذاب وأبادهم جميعا، مع أنّ المستهتر كان واحدا، الا أنّهم جميعا ارتضوا فعله فشملهم العذاب.

وحيث إنّهم استكبروا، واحتقروا الرسول والرسالة، واستصغروا التهديد الالهي بالعذاب، وصف الله سبحانه عذابهم بصاعقة العذاب الهون. وقد مرّ الكلام حول الصاعقة وما تعنيه هذه الكلمة. والهون بمعنى المذلة. وهو مصدر وصف به العذاب من باب المبالغة فكأنّ عذابهم هو بنفسه الذلّ والهوان.

وانما اوجب العذاب لهم المذلّة والخزي لانه كان باديا عليه أنّه من عذاب السماء ومن غضب الله عليهم، ولم يشبه الحوادث الطبيعية. وهكذا يهين الله تعالى ويخزي من يستهين برسله ورسالاته.

ويبقى السؤال في هذه الآية: ما هو المراد بالهداية في قوله فهديناهم؟

الظاهر في تفسيرها ــ كما هو المشهور ــ أنّ المراد بها إراءة الطريق. وبالطبع فإنّ ما ذكر هنا من الهداية لا يختصّ بقوم ثمود، كما أنّ ما ذكر في قوم عاد ايضا لا يختصّ بهم.

ولكنّ بعض المفسرين ذكر أنّ المراد بها إيمانهم بعد ظهور الناقة فيكون أمرا خاصّا بهم، حيث إنّهم بوجه عامّ آمنوا بالرسالة وبالآية الالهية، ثم استحبّوا العمى على الهدى.

ولكن يبعّد هذا الاحتمال أنّ الآيات التي وردت بشأن هذا القوم لا تشير الى ذلك نهائيا، ومن البعيد إغفال هذا الامر في سرد قصتهم، كما أنّ من البعيد أن يهتدي قوم بهداية الله تعالى، بمعنى الوصول الى المطلوب ثم يرتدّ جميعهم.

فالصحيح هو ما ذكره الاكثر من أنّ المراد أنّ الله تعالى بعث اليهم الرسول، فتلا عليهم آياته، وأراهم سبيلي الحق والباطل، وخصَّهم بمعجزة عظيمة لا يمكن إنكار كونها معجزة الهية، ولكنهم قدّموا الباطل على الحق، واستحبوا العمى على الهدى. وورد التعبير بالهداية في القرآن عن إراءة الطريق مكرّرا. منها قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[13] وقال ايضا (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).[14]

ونجّينا الذين آمنوا وكانوا يتقون... لعل هذه الجملة ترتبط بكلتا القصّتين، لأنّ هذه سنة الله تعالى في الامم، فلا يُنزل العذاب الشامل الموجب للاستئصال الا بعد ان يأمر الرسول والذين آمنوا بالخروج من المجتمع الفاسد لئلّا يشملهم العذاب.

ولكنّ الآية تؤكّد أنّ الناجين لم يكونوا ممن أظهروا الايمان فقط، بل كانوا يتّقون الله تعالى، فكان الايمان قد خالط قلوبهم وضمائرهم، وسيطر على أعمالهم ونيّاتهم. و(كان) يدل على الاستمرار، وأن التقوى كانت لهم شيمة وخلقا.

 

[1] الشعراء: 123

[2] الانعام: 8

[3] الحجر: 8

[4] الانعام: 9

[5] الاسراء: 95

[6] الانعام: 111

[7] الحجر: 14- 15

[8] الشعراء: 27

[9] البقرة: 61

[10] الحاقة: 6- 8

[11] القمر: 19

[12] الشعراء: 155

[13] الدهر: 3

[14] البلد: 10