مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ الله إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا الله الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الله لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

 

ويوم يحشر أعداء الله الى النار... اي واذكر يوم.. والحشر بمعنى الجمع، اي أنّهم يجمعون ويذهب بهم مجتمعين الى النار. والمراد باعداء الله الكافرون المعادون لرسالة السماء.

وقد ورد التعبير بالعداء لله تعالى في موارد عديدة من القرآن الكريم. قال تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)[1] وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ)[2] وقال تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ)[3] وقال تعالى عن كفار مكة ومشركي العرب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ..).[4]

ومن المعلوم أنّ المذكورين ما كانوا ينكرون وجود الله تعالى، بل يعتقدون أنّه خالق السماوات والارض، وانه الرازق، ولكنّهم كانوا يعادون رسالة السماء والشريعة التي أرسلها الله اليهم، فاعتبرهم الله أعداءا له.

وهذا امر يدعو الى التأمّل لمعرفة حدود هذه العداوة، وأنّها ربما تشمل بعض المجرمين من الذين يزعمون أنّهم آمنوا بالله تعالى، ولكنهم لا ينصاعون لشريعته التي أرسلها اليهم على ايدي رسله، بل ربما ينكرون لزوم متابعة الشريعة ويصرّحون بها في مقالاتهم.

والعداء في الاصل بمعنى التجاوز. والمراد هنا التجاوز عن الحدّ المعقول في التنافر، فانّه الى حدّ مّا ربما يكون طبيعيا في ما لا يلائم مشتهيات الانسان او ذوقه، ولكن اذا تجاوز الحدّ بحيث يسعى كل منهما الى إبادة الآخر سمي عداءا وعداوة.

والعداوة بالنسبة الى الله تعالى يتجلّى في معاداة رسالته وشريعته، وربما يفرط الكافر في عدائه لله تعالى حتى انه يشمئزّ من ذكره تعالى ذكره كما قال سبحانه (وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).[5]

فهم يُوزعون... اي يُمنعون. والمراد أنه يمنع أوائلهم من التقدّم ليلحق بهم الأواخر، وهو كناية عن الجمع. ومثله قوله تعالى (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ)[6] والحشر بذاته يفيد معنى الجمع. وانما يراد بهذه الجملة أنّهم يُجمعون بحيث لا يشذّ منهم احد.

حتى اذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون... (حتى) لانتهاء الغاية اي يوزعون ويجمعون الى أن يصلوا الى النار، فتشهد عليهم أعضاؤهم. و(ما) في (ما جاءوها) زائدة وتفيد معنى التأكيد. والظاهر أنّ المراد التأكيد على أنّ الشّهادة تتحقّق بمجرد وصولهم الى النار.

ولكن بعض المفسرين ذكروا أنّ هنا تقديرا وهو أنّهم لما وصلوا الى النار سألهم خزنتها عما ارتكبوا فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم.. والظاهر أنّه لا حاجة الى تقدير بناءا على ما سيأتي من تفسير الشهادة. 

والظاهر أنّ ذكر هذه الاعضاء من باب المثال لقوله تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[7] وقوله تعالى (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[8] بل الامر لا يختص بالاعضاء، فالارض ايضا تشهد كما قال تعالى (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا).[9] الزلزلة: 3و4.

والظاهر ايضا أنّ كل عضو يشهد على الانسان بما اقترفه بواسطته، او ما كانت الجريمة ترتبط بوظيفته، فالسمع يشهد بما استمع اليه مما حرم الله الاستماع اليه، ويشهد على أنّه سمع دعوة الرسول ولم يجبه، او سمع استغاثة المظلوم قادرا على رفع الظلم فلم يغثه، او سمع استعانة الفقير المسكين فلم يساعده.

والبصر ايضا يشهد على ما نظر اليه مما حرّم الله تعالى النظر اليه، وكذلك يشهد عليه أنّه رأى آيات الله فأعرض عنها، ورأى المنكر فلم يغيّره بيد ولا بلسان، ورأى الظلم فلم يشارك في رفعه، بل ربما شارك في الظلم بنحو من الانحاء. وهكذا سائر الاعضاء.

والجلود أشمل الاعضاء في تحمّل الشهادة، فإنّها مع كل هذه الاعضاء ومع غيرها. ولعله لذلك ذكر بعضهم أنّها كناية عن الفروج، كما ورد في بعض الروايات ايضا. وهو أمر محتمل بملاحظة أدب القرآن في التعبير، وبملاحظة أنّ الفروج مما يصدر منها كثير من الجرائم التي يخفيها الانسان. ولكنه خلاف ظاهر اللفظ، ولا موجب للحمل عليه.

ومهما كان فالكلام في كيفية شهادة الاعضاء، فقال بعضهم إنّ الله تعالى يخلق فيها النطق كما خلق في الشجرة حيث نادى موسى عليه السلام. ولكنّ هذا يفقدها صفة الشهادة التي تتوقف على تحمّل الواقعة عن علم ثم أدائها، فإنّ هذا التأويل يبتني على عدم علم الاعضاء بالحوادث، وعدم تأثّرها بها وإنّما تنطق بإرادة قاهرة من الله تعالى، فالتعبير بالشهادة يبتني على نوع من التسامح.

وقال بعضهم إنّ الله تعالى يخلق فيها العلم والادراك ذلك اليوم فتشهد عن علم ودراية.

وهذا ايضا كسابقه من حيث عدم كون الشهادة عن تحمّل للواقعة مع إدراكها حين التحمل. وقيل غير ذلك.

وكل هذه التأويلات من جهة أنهم التزموا بحمل النطق على المعنى المتعارف.       

ولا يبعد أن لا يكون المراد النطق بالمعنى المتعارف، بل بمعنى إراءة نفس الحوادث، وهذه أقوى شهادة. وهذا هو ما يظهر من الآيات التي تدلّ على تجسّم الاعمال، وأنّ الذي يظهر في ذلك الموقف للعيان هو نفس الاعمال بوجه آخر.

ولا موجب لحمل النطق على المعنى المعروف لدينا ــ وهو التكلم باللسان ــ حتى يحتاج الى تأويل خلق الكلام، فإنّ حقيقة النطق هو إبراز الحقائق، فاذا أمكن للشيء أن يبرز ما في ضميره بصورة حيّـة يراه ويشعر به كل احد فهو أقوى النطق، فان الكلام ربما يكون كذبا لا يحكي عن الواقع، وربما يشتمل على مبالغة او مجاز.

وحيث إنّ يوم القيامة يوم انكشاف الغطاء وبروز الحقائق، فينبغي أن يكون نقل الحقائق والاعتراف بها ايضا على أساس إراءة نفس الحقيقة بوجه يشعر به كل ملاحظ شعورا أقوى من الرؤية، ويلمس الحقيقة بكل وجوده.

بل لا يبعد أن يكون التعبير بالنطق والشهادة ونحو ذلك تعبيرا كنائيا معاكسا لما يحدث باعتبار أن النتيجة واحدة، فالذي يحدث في تلك النشأة هو انكشاف الغطاء عن الانسان بسبب تحرّره عن قيد الجسم والمادّة، ويلازمه بروز الحقائق، فالتعبير بالنطق والشهادة تعبير عكسي يحكي عمّا هو ملازم لما يحدث واقعا، ولعلّ السبب أنّ هذا التعبير أقرب الى فهم المخاطبين.

ونظير ذلك التعبير عن صعود الانسان الى مرتبة يمكنه فيها محادثة الملائكة ورؤيتهم بعبارة تنزيل الملائكة، قال تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)[10] وكذلك قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)[11] اذ الظاهر أنّ نسف الجبال وجعل الارض قاعا صفصفا ليس فيها التواءات وتعاريج كناية عن انكشاف الحقائق ايضا.    

وممّا يشهد على ما ذكرنا من معنى النطق قوله تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[12] مع التصريح بأنّ الالسنة ايضا تشهد عليهم، قال تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[13] فكيف يجمع بين ختم الافواه وشهادة الالسن؟!

وانما يتمّ الجمع بينهما بما مرّ من أنّ شهادة الاعضاء ليس بمعنى التكلم والنطق المتعارف، فختم الافواه بمعنى أنّهم لا ينطقون ولا يتكلّمون، وانما تتكلّم ألسنتهم بمعنى أنّها تظهر الحقائق بأنفسها، لا أنّها تنطق كما تنطق في هذه الحياة، فإنّها هنا تعبّـر عمّا في ضمير صاحبها بخلافها هناك حيث تحكي الواقع.

وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا... يستنكر الانسان من أعضائه أن تشهد عليه وهي جزء منه، فهذا سؤال إستنكاري. ولعل ذكر الجلود خاصّة ليس لخصوصية فيها، بل للاستغناء بذكرها عن ذكر سائر الاعضاء، فالتقدير (وقالوا لجلودهم وسمعهم وأبصارهم..) كقوله تعالى (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ..)[14] اي والبرد.

ولعل تخصيص الجلود من جهة أنّها موجودة مع سائر الاعضاء ايضا.

قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء... تعتذر الاعضاء بأنّها لم تنطق برغبة منها، بل إنّ الله تعالى الذي أنطق كل شيء هو الذي أنطقها، اي جعلها تنطق من غير اختيار. وقد مرّ أنّ المراد على ما يبدو هو إبراز الحقائق، لا النطق بالمعنى المعروف، فانه ايضا نوع من الابراز، الا أنّ ما يحدث هناك هو أقوى إبراز للواقع، حيث إنّه يبدو بكل وجوده، ويشعر به الناس المخاطبون بكل وجودهم، وليس لفظا يحتمل الصدق والكذب.

وبهذا المعنى جعل الله النطق في كل شيء، وإن كنا نحن في هذه الحياة لا نشعر به، فالحقائق الدفينة في الاشياء لا تصل اليها أفهامنا، ولا يعلم نطقها الا الله تعالى ومن أطلعه الله عليه.

وعليه فقوله تعالى (الذي أنطق كل شيء) عام لكل الاشياء، ومطلق يشمل هذه النشأة ايضا كما هو ظاهر اللفظ، وإن احتمل أن يكون المراد أنّه تعالى يُنطق كل شيء يوم القيامة.

ويمكن ان يكون السؤال (لم شهدتم علينا) والجواب المذكور لسان الحال، فحال الانسان في ذلك اليوم حال مستغربٍ ومستنكرٍ لشهادة أعضائه عليه، وحال الأعضاء يكشف للجميع أنها تنطق وتبرز الحقائق قسرا وقهرا، فكما أنّ نفس حكايتها للوقائع كشف عنها لا نطق بالمعنى المعروف كذلك اعتذارها كشف عن حقيقة حالها.

وقيل: إنّ المراد أنّه تعالى أنطق كل ناطق. وهذا تاويل بعيد جدا ولا موجب لهذا التخصيص بل هو عام ومطلق كما قلنا. ومن هنا نقول إنّ قوله تعالى (أنطق كل شيء) قرينة على ما مرّ من توجيه معنى النطق، فانه هو النطق العامّ في كل شيء.  

وربما يتساءل: اذا كان النطق بإجبار من الله تعالى فكيف يكون حجة عليهم؟!

والجواب واضح على ما ذكرناه من أنّ النطق ليس بمعنى التحدّث، بل هو بمعنى إبراز الحقائق بعينها، فكأنّ الاعضاء تحمل شريطا في ذاتها، وتكرّر ما حدث منها او عليها على شاشة، فحجية الشهادة ليست من جهة كون الشاهد عادلا صادقا مختارا، بل من جهة بروز الحقيقة للجميع بلا حجاب، او ــ بالأحرى ــ من جهة انكشاف الغطاء عن الانسان.

وهو خلقكم أوّل مرة واليه ترجعون... الظاهر من السياق أنّه تتمة لقول الاعضاء في ذلك الموقف، ويحتمل أن يكون تعقيبا من الله سبحانه.

ولعلّ الوجه في بيان ذلك ــ بناءا على كونه من الاعضاء ــ رفع الاستبعاد من نطقها وشهادتها على صاحبها بأنّها من عطاء الله لكم، وليس أمرها الا بيده، لانه هو الذي خلقكم أوّل مرة، اي في الحياة الدنيا، فهو الذي أعطاكم إيّـاها، ووهبها لكم.

واليه ترجعون.. اي هو الذي يحاسبكم عليها، ويجازيكم حسب تعاملكم معها، فإنّها أمانات منه تعالى لديكم، وقد حدّد لكم وجوه استخدامها. ومعنى كون المرجع اليه تعالى هو الحضور أمامه بمسؤولية، ولذلك لم يعبّر عنه بالرجوع بل بالارجاع، فالانسان يُرجع اليه تعالى قهرا وقسرا.

وهناك تساؤل في هذه الجملة عن وجه الاتيان بالفعل المضارع (تُرجعون) مع أنّه ــ بناءا على هذا الاحتمال ــ كلام او نطق صادر يوم القيامة، وبعد رجوع الخلق الى الله تعالى؟

والجواب واضح بناءا على ما ذكرنا من أنّ المراد بالارجاع المحاسبة لا نفس الاحياء بعد الموت، والكلام صادر حين المحاسبة لا بعدها.

وأما بناءا على كونه تعقيبا من الله تعالى في الكتاب الكريم، وبعد حكاية ما سيحدث في ذلك الموقف فلا مجال لهذا التساؤل، الا أنّ الذي يبعّد هذا الاحتمال تقييد الخلق بكونه أوّل مرة مما يشعر بكون الجملة صادرة في وقت الخلق الجديد.

وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أنّ الله لا يعلم كثيرا ممّا تعملون... يحتمل في هذه الآية ايضا أن تكون من نطق الاعضاء على ما مرّ في تفسير النطق، وأن تكون تعقيبا من الله سبحانه.

وفي معناها احتمالان:

الاول: أنكم كنتم تستترون في معاصيكم وقبائحكم، ولكن ما كنتم تستترون مخافة أن يشهد عليكم سمعكم او ابصاركم او جلودكم، وانما كنتم تستترون بتوهّم أنّ الله تعالى لا يراكم اذا استترتم ولا يعلم بأعمالكم.

الثاني: أنكم ما كنتم تستخفون من أعضائكم، اي ما كان لكم أن تستخفوا منها، لأنّها كانت معكم، وكنتم تعملون بواسطتها، ولكن الذي هوّن عليكم المعاصي، أنّـكم ظننتم أنّ الله تعالى لا يعلم ما تعملون ولم تحسبوا لرقابة الأعضاء عليكم حسابا. وعليه فالتقدير في الآية (ما كنتم تستترون من أن يشهد..).

والاحتمال الثاني أقرب لأنّ الاول لا يتعرّض لما يناسب المقام، وهو الاهتمام بشهادة الاعضاء بل يقلّل من شأنها، والثاني يقتضي الاهتمام بها، وأنّها من طرق الرقابة على أعمال الانسان. وأهميتها ليست من جهة التأثير في انكشاف الامر، فان الله تعالى محيط بكل شيء، وانما تكمن أهمّيّـتها في إحساس الانسان بوجود رقيب عليه من نفسه.

ولعله قال (كثيرا مما تعملون) لان مورد الكلام من يعتقد بالله وبصفاته التي منها العلم ومع ذلك يظنّ هذا الظنّ بربّه. ويمكن ان لا يكون المراد بالظن الاعتقاد التفصيلي الذي يلتفت اليه الانسان، فان الظنّ يطلق على ما في الارتكاز واللاشعور ايضا. ولا يبعد أن يحصل هذا الظنّ بصورة خفية لكثير من المؤمنين بل أكثرهم، ولولا ذلك لكثر المتقون الخاشعون.

وذلكم ظنّـكم الذي ظننتم بربّـكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين... (أرداكم) اي أهلككم. وقوله (ظنّـكم) بدل عن إسم الاشارة، اي هذا الظنّ الذي ظننتموه بالله هو الذي اهلككم فخسرتم الخسارة العظمى قال تعالى (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).[15]  

ومن هنا يتعين على الانسان أن يحاول معرفة ربّـه اكثر فاكثر، ولا يقتصر بما تمليه عليه الافكار السائدة والتقاليد البالية، فانّ معرفة الله مفتاح كل خير، والجهل به وبصفاته الحسنى مفتاح الشرور والغرور. والشيطان يزيد الانسان غرورا بربّه، كما قال تعالى (وَغَرَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ)[16] اي الشيطان.

فإن يصبروا فالنار مثوى لهم... اي فلا ينفعهم الصبر. يا للغرابة! حتى الصبر الذي يعدّ وسيلة للفلاح والنجاح لا ينفع هناك، فان النار مثوى لهم صبروا ام لم يصبروا. والمثوى هو محل الاستقرار. والمعنى أنّه ليس هناك أمل في أن ينتج لهم الصبر نفعا، فإنّ النار يبقى مثوىً نهائيّـا لهم كما قال تعالى (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ).[17]

والسرّ في ذلك أنّ الصبر انما يفيد في عالم الدنيا حيث إنّه عالم الاختيار والتربية والتكامل فالصبر وتحمّل الشدائد وعدم الجزع منها يقوّي النفس ويمنحها سعة وسلطة وأما يوم القيامة فهو يوم حصول النتائج ولا أثر للصبر والتحمّل.

وجملة (فالنار مثوى لهم) سادّة مسدّ الجزاء. والتقدير: فلا ينفعه الصبر لأنّ النار تبقى مثوى لهم لا يتخلّصون منها.  

وإن يستعتبوا فماهم من المعتبين... الاستعتاب: طلب العتاب. والعتاب في الاصل: إظهار الموجدة، فاذا وجدت في نفسك شيئا على أحد تحبّه ولا تتوقّع منه ذلك أظهرت له موجدتك. ولكن حيث إنّ هذا الاظهار يوجب زوال الموجدة عبّر عن الرضا ايضا بالعتبى، فقولك (لك العتبى) بمعنى لك ما ترضى به.

والآية تحتمل المعنيين: العتاب والرضا. فعلى الاول بمعنى أنّهم يطلبون العتاب فلا يعاتَبون، اذ العتاب يختص بمن لا يتوقّع منه ما صدر منه، وهو دليل على الحبّ والتعلّق، كما أنّه يوجب زوال السخط والموجدة.

وعلى الثاني بمعنى أنّهم يطلبون الرضا، اي يحاولون استرضاء ربهم، ولكنّهم لا يعطون ذلك، ولا يرضى عنهم ربهم، إذ قد فات أوان الاسترضاء.



[1] البقرة: 98

[2] الانفال: 60

[3] التوبة: 114

[4] الممتحنة: 1

[5] الزمر: 45

[6] النمل: 17

[7] يس: 65

[8] النور: 24

[9] الزلزلة: 3- 4

[10] الفرقان: 25

[11] طه: 105- 107

[12] يس: 65

[13] النور: 24

[14] النحل: 81

[15] الزمر: 15

[16] الحديد: 14

[17] الطور: 16