وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ الله النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
وقيّضنا لهم قرناء... التقييض ــ على ما يبدو من موارد استعمال اللفظ ــ هو جعل شيء مثيلا لآخر، ومنه المقايضة بمعنى المعاوضة، فان العوض يجعل في الاعتبار مثيلا للمعوّض.
وفي تفسير الميزان أنّ التقييض بمعنى التبديل، وأنّ الآية إشارة الى أنّهم لو آمنوا واتّقوا لأيّدهم الله بمن يسدّدهم ويهديهم، لكنهم كفروا وفسقوا فبدّل الله لهم قرناء من الشياطين.
ولكن التقييض ليس بمعنى التبديل، بل بمعنى جعل شيء مثيلا لآخر. ويدلّ على عدم صحّة هذا التفسير قوله تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)[1] اذ لا يصحّ جعل التبديل هنا بدلا عن التقييض كما هو واضح.
مضافا الى أن التقييض في الآية وقع على القرناء، حيث جعل مفعولا به. فلو كان معناه التبديل كان معنى الآية أنّ القرناء هم الذين بدّلهم الله تعالى وليسوا مبدلا اليه. ومقتضى ذلك ان يكون لهم قرناء قبل ذلك فبدّلهم الله تعالى الى غيرهم. وهذا خلاف الفرض، مع انه لو اريد ذلك كان اللازم ان يقال قرناءهم مع أنه في الآية نكرة.
وبعضهم فسّره بالسلطة، اي نسلّط عليه القرناء، باعتبار أنّ القيض هو القشر الاعلى من البيض. ولم يرد في اللغة استعمال التقييض بهذا المعنى، مع أنّه لا يناسب التعدي باللام.
والصحيح أنّ المراد جعلنا لهم قرناء يماثلونهم في الصفات، وهم لكونهم شياطين يريدون الشرّ يزيّنون لهم اعمالهم الفاسدة.
ويبدو من الآية ــ بناءا على ما ذكر ــ أنّ هذا الشيطان نتاج عمل الانسان وصفاته النفسية ولعله ليس مخلوقا من ذي قبل، وانما يخلقه الله تعالى بسبب عمل الانسان او انه نتيجة طبيعية لعمله يخلق ويوجد في دخيلة نفسه يزيّن له عمله.
وتزيين القبائح امر مشهود في الانسان، ولذلك نجده اذا تمادى في غيّه وعناده، وأصرّ على ضلاله يصل الى مرحلة يرى ما يعمله من المنكر معروفا، بل ربما يجده واجبا، وأنّه يستحقّ عليه التبجيل والاحترام.
وأغرب منه أنّ المجتمع ايضا يتحول تدريجا، وينزل الى هذا الحضيض اذا كثرت فيه المفاسد والمنكرات، كما ورد في الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم:
روى الكليني رحمه الله عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم وشرّ من ذلك كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف، فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا. [2]
ثمّ إنّ هذا القرين الذي يغوي الانسان ويقيّضه الله له شيطان شِرِّير فربّما يكون من الانس، وربّما يكون من الجنّ. وقد ورد في الكتاب العزيز (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ..)[3] وقال تعالى: (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).
وكلاهما صنيعة يده، أمّا الجنّ فلعله ــ كما قلنا ــ يُخلق نتيجة عمله، وهو في دخيلة ذاته. وأمّا الانس فإنّ أصدقاء الانسان يتأثّرون بأخلاقه وصفاته، والانسان الفاسد يُفسد من حوله، فتكون النتيجة أنّهم ايضا يتبدّلون الى أمثال له، وكأنّ كلّا منهم نسخة منه، وهم جميعا قرناء، وكلّ منهم يُغوي الآخر، ويحرّضه على الجرائم والآثام، ويزيّن له القبائح، ويشجّعه على ارتكاب العظائم.
وهكذا نجد أنّ المجرمين اذا تجمّعوا وتحزّبوا يشكّلون خطرا عظيما على المجتمع، ويقومون بجرائم لا يقوم بها المجرمون الآحاد.
وقولـه تعالى (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) يحتمل العموم ايضا، وكذلك يحتمله ما بعده، قال تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ).[4]
فكلّ هذه الآيات تنطبق على قرناء الانس والجن معا. ويدل على إرادة العموم هنا للصنفين قوله تعالى بعد ذلك في حكاية استغاثة الكافرين يوم القيامة (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ...). ومن هنا فإنّ من الضروريّ أن يراقب الانسان قرينه فلا يصادق الفاسدين، والذين لا يهتمّون بارتكاب الآثام، كما يجب على الآباء أن يراقبوا أصدقاء أولادهم، فكم من مؤمن تربّى في بيئة صالحة وأفسده الاخلاء الفاسدون.
فزيّنوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم... وقع الكلام في المراد بما بين ايديهم وما خلفهم. يحتمل أن يكون المراد التنبيه على إحاطة الشيطان او القرين السوء بهم من كل جانب، فإنّ ما بين الايدي كناية عن الامام فهم محاطون من الامام والخلف، وهو بدوره كناية عن عدم تمكنهم من الفرار عما نسجوه حول أنفسهم بسوء فعلهم.
ويحتمل أن يكون المراد ممّا بين أيديهم نفس العمل فإنّه أمامهم، وبما خلفهم النتائج المترتبة عليه، سواء في الدنيا او في الآخرة. وهذا مما يكثر التسويل فيه من قبل قرناء السوء من الجنّ والانس، حيث إنّهم يزيلون الخوف من المغفّلين اذا استعظموا الجريمة، ولم يقتربوا منها خوفا من العقوبات او الفضائح، بوسوستهم أنّه لا ضير في ذلك، او أنّه غير معلوم، او أنّ اللذّة لا تكون الا للجسور، ونحو ذلك.
وحقّ عليهم القول في اُمم قد خلت من قبلهم من الجنّ والانس إنّهم كانوا خاسرين... الظاهر أنّ المراد بالقول هو الجملة الاخيرة (إنّهم كانوا خاسرين) فالخسارة بالحقيقة هي ما يخسره هؤلاء، لا الذي خسر ماله في الدنيا، كما قال تعالى (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).[5]
وهؤلاء يدخلون ضمن اُمم وجماعات كثيرة من الجن والانس قد خلت من قبلهم، اي ماتوا قبل هذه الجماعة فهؤلاء يلحقون بهم.
والغرض من هذه الجملة بيان أنّ أكثر الجنّ والانس خاسرون، فلا يغرّنّكم ولا يخيفنّـكم كثرة الفاسدين والمفسدين، وقلة الاتقياء والاخيار.
وتدل الآية كما نبّه عليه العلامة الطباطبائي قدّس سره أنّ الجنّ ايضا يموتون.
وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون... المراد بهم كفار قريش حيث كانوا يأمرون جُهّالهم وشبابهم بان لا يكتفوا بعدم الاستماع الى الرسول صلى الله عليه و آله وسلّم حين يتلو القرآن على الناس، بل يصيحوا أثناء قراءته بكلام لغو لا معنى له او لا فائدة فيه حتى لا يسمع الناس تلاوته، فتكون لهم الغلبة عليه في المجال الاعلامي.
وهذا دأب العجزة حيث لا يمكنهم مقارعة الحجّة بالحجّة، ولا مقاومة تاثير الكلام الحقّ في المجتمع، فاذا لم يقدروا على إخماد أنفاس الدعاة الى الحق وقتلهم او حبسهم حاولوا منع تأثيره بايجاد كل ما من شأنه ان يجلب انتباه الناس اليه حتى يضيع الحق ويضلّ الناس عنه ويتركوه.
ونجد في عصرنا هذا أنواعا مستحدثة من هذه المكيدة الشيطانية، كلها تحاول صدّ المجتمع عن سبيل الله، فهناك الاعلانات والدعايات الفاسدة، وهناك الاغاني والموسيقى الصاخبة التي لا تبقي للشباب مجالا للتفكير. وهناك مجامع اللهو والطرب، وهناك ميادين الرياضة، والمسابقات الفاقدة لأيّ هدف معقول الا ملء كل اوقات الفراغ، حتى لا يجتمع الناس حول ما يفيد دنياهم وآخرتهم الى غير ذلك.
فلنذيقنّ الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينّهم أسوأ الذي كانوا يعملون... يبدو من تعليق الحكم على عنوان (الذين كفروا) أنّ العذاب الشديد جزاء كفرهم وعنادهم ومقارعتهم الحق بالباطل. والعذاب الشديد يمكن ان يكون في الدنيا او في الآخرة. ولعل المراد به ما أصابهم يوم بدر. وأمّا جزاء أسوأ أعمالهم بل كلّها فإنّما هو في الآخرة.
وأمّا التعبير بأنّه يجزيهم بأسوأ أعمالهم فلا يعني أنّهم لا يجزون بما دون ذلك، بل يمكن أن يكون ذلك إشارة الى عملهم المذكور في الآية السابقة، وهو الصدّ عن سبيل الله، فيكون الغرض التنبيه على أنّ ذلك أسوأ أعمالهم، لأنّهم يحملون بذلك أوزار من يضلّ بفعلهم الى يوم القيامة.
ويمكن أن يكون المراد أنّ مقياس موضعهم ودركتهم في النار هو أسوأ أعمالهم، نظير ما مرّ بيانه في قوله تعالى (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ).[6]
ذلك جزاء أعداء الله النار... مرّ الكلام حول التعبير بأعداء الله في قوله تعالى (ويوم يحشر أعداء الله الى النار...) الآية 19، وأنّ المراد بهم المعادون لشريعة السماء، وان اعترفوا بالله تعالى ولم يصرّحوا بعداء له. وقوله (النار) بدل عن الجزاء او عطف بيان.
لهم فيها دار الخلد... اي لكل منهم في النار دار يخلد فيه لا يخرج منه أبدا. والدار كل ما يدور حول الانسان فليس في التعبير مسامحة او تجوز.
جزاءا بما كانوا بآياتنا يجحدون... (جزاء) مصدر بمعنى المكافأة، وهو إمّا مفعول لأجله، اي يخلدون في النار ليجازون بجحودهم، او مفعول مطلق لفعل محذوف كما قالوا، اي يجزون جزاءا. والاول أولى.
و(ما) مصدرية اي جزاءا بجحودهم. وقوله تعالى (كانوا) يدل على استمرارهم في الجحود، فلم يكن ذلك منهم حالة عابرة، بل كان دأبهم وديدنهم كلما واجهوا آية من آيات الله تعالى، سواء الآيات الكونية والمعجزات والآيات النازلة من الكتاب العزيز.
والجحود هو الانكار على علم، فهم كانوا يعلمون أنّ ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم هو الحقّ الصراح لا ريب فيه، ولكنهم يكابرون ويعاندون بغيا منهم وحسدا واستكبارا، ولم يكتفوا بالجحود بل صدّوا عن السبيل، ومنعوا الناس من الوصول الى الحق، فحقّت عليهم كلمة العذاب.
وقال الذين كفروا ربنا أرنا الَّذَين أضلّانا من الجن والانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين... اي (ويقول الذين كفروا..) وإنّما أتى بصيغة الماضي، لأنّه أمر قطعي فكأنّه وقع. والمراد بالذين كفروا هنا الأتباع الذين غَرّر بهم القرناء من الصنفين. والتثنية بلحاظ الصنف.
والمستفاد من آيات كثيرة أنّ أهل النار يتعارفون فيما بينهم، والأتباع يعرفون من أضلّهم، ويخاصمونهم، ويتبرّأون منهم. وقد ورد في القرآن الكريم ذكر مواقف عديدة من تخاصمهم، فلعلّ طلب الاراءة هنا ليس على حقيقته، وليس دعاءا ولا اُمنية، وإنما هو إعلان للبراءة عنهم، والمعاداة لهم وتحقيرهم بأنّ أتباعهم الذين نفّذوا أوامرهم ــ ومنها ما ورد في الآية السابقة من اللغو عند قراءة القرآن ــ يجعلونهم اليوم تحت أقدامهم، و يريدون لهم أن يكونوا من الاسفلين بعد أن جعلوهم من الأعلين.
و هكذا تدور الدائرة عليهم. ومن يستعلي على الناس هنا ويتجبّر ويتكبّر يصبح في تلك النشأة محتقرا حتى لدى الأتباع والأشياع.