مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)

 

إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا... يتعرّض السياق لذكر المؤمنين الصادقين بعد ذكر الكافرين الجاحدين، ليكون حثّا وتشويقا لسلوك طريق الحق بعد التخويف من متابعة الكفر والباطل، وهذا من سنن الله تعالى في كتابه الكريم.

والمراد بقول (ربّنا الله) ليس هو اللفظ فقط كما هو واضح، بل الايمان الكامل باللسان والقلب والعمل، فإنّ مجرّد القول يصدر من المنافق ايضا فضلا عن ضعاف الايمان.

والاستقامة: الاعتدال. وهي كناية عن الثبات وعدم الانحراف عن الطريق المستقيم، وعن مقتضى الايمان بالله تعالى في مواجهة الظروف العصيبة التي قلّما يبقى الانسان فيها محافظا على دينه وإيمانه.

ويختلف الناس في المواضع التي توجب زلّة القدم من المال والجاه والجنس والخوف وغير ذلك. والمطلوب هو الثبات في جميع المواطن التي يبتلي الله فيها عباده. وكم نجد في التاريخ وفي الحياة المعاصرة من له صحيفة بيضاء طيلة عمره ثم تزلّ قدمه في آخر أيّـامه فيضيع إيمانه ويبطل كل أعماله.

وفي مجمع البيان روي عن أنس قال قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية ثم قال قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم، فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها.

فمفاد هذا الحديث الاستمرار في الايمان بالله وبدينه طيلة الحياة.

وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام: (قال الله تعالى: "إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألّا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون" وقد قلتم ربّنا الله فاستقيموا على كتابه، وعلى منهاج أمره، وعلى الطريقة الصالحة من عبادته. ثم لا تمرقوا منها ولا تبتدعوا فيها ولا تخالفوا عنها). [1]

والآية تدلّ على أنّ الجزاء المذكور فيها يترتّب على الاعتقاد بانحصار الربوبية في الله تعالى، وذلك لتقديم الخبر على المبتدأ. ونتيجة ذلك أن يكون الانسان واثقا من أنّ كل ما يأتيه من ربّه في التكوين والتشريع هو مقتضى ربوبيته، فهو مؤثّر في تربيته بما يصلح شأنه، فيسلّم أمره الى الله تعالى.

وهذا هو أساس السعادة في الدنيا والآخرة، وهو الذي يصعب الثبات عليه، فإنّ الغالب على الانسان أنّه اذا واجه في حياته ما لا يلائم طبعه ولا يوافق هواه سخط على الكون وقوانينه، واذا رأى من احكام الله تعالى ما يضرّ بشؤونه المادية رفضه وتشبّث في ردّه بشتّى الاعذار. والاستقامة والثبات في الاعتقاد بربوبية الله جل شأنه في جميع مراحل الحياة توجب تسليم الانسان لربّه ورضاه بقضائه في التكوين والتشريع.

وفي بصائر الدرجات عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) قال هم الأئمة من آل محمد عليهم السلام. [2]

ولعلّ هذا الحصر لبيان أكمل الافراد في الاستقامة والثبات على الايمان. ولذلك ورد في بعض الاحاديث أن الآية تصدق على الشيعة.

ففي الكافي عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: "الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.." فقال أبو عبدالله عليه السلام: (استقاموا على الأئمة واحد بعد واحد تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون). [3]

وفي مجمع البيان في ذيل هذه الآية (روى محمد بن الفضيل قال سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الاستقامة فقال هي والله ما أنتم عليه).

والخطاب فيه للشيعة والغرض بيان احد مصاديق الاستقامة، فان الايمان بالله لا يكمل الا بالايمان برسله وكتبه، والايمان بالرسول لا يكمل الا بالايمان بكل ما أتى به، كما قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).[4]

وممّا أتى به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولاية اهل البيت عليهم السلام والاقتداء بالأئمة من بعده، فمن لم يتبع مذهب اهل البيت لم يكن مستقيما على ايمانه بالله ورسوله.

وهذا نظير ما ورد في الحديث في قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)[5] أنّه صلى الله عليه وآله وسلّم قال مخاطبا امير المؤمنين عليه السلام: (يعني الى ولايتك) [6] .

وفي الكافي في حديث عن الامام الباقر عليه السلام أنه تلا هذه الآية، ثم أشار الى صدره وقال: (الى ولايتنا). [7]

وروى الصدوق رحمه الله بسنده عن داود بن كثير الرقي قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام، فقلت له: جعلت فداك قوله تعالى (واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) فما هذا الهدى بعد التوبة والايمان والعمل الصالح؟ فقال: معرفة الأئمة والله) [8]

الى غير ذلك من الاحاديث عن ائمة اهل البيت عليهم السلام.

والمراد على الظاهر أنّ ما في الآية الكريمة ــ وهو قانون إلهي عام ــ ينطبق في هذه الامة على ولاية اهل البيت عليهم السلام، فانها هي التي تبقى من دعائم الايمان بعد التوبة والايمان بالله ورسوله والعمل الصالح، كما أنّه في اُمّة موسى عليه السلام ينطبق على متابعة هارون عليه السلام. ولذلك وقعت الآية مقدمة لبيان قصة رجوع موسى الى قومه بعد تفرّقهم عن هارون عليهما السلام.

فمعنى الآية بناءا على ذلك أنّ الله تعالى يغفر لمن تاب عن الشرك، وآمن بالله ورسوله، وعمل عملا صالحا، ثم بعد وفاة الرسول او غيابه اهتدى الى متابعة خليفته. وهذا الخطاب لموسى عليه السلام يحدّد قبول الايمان من بني اسرائيل بمتابعة هارون عليه السلام. وفي ذلك إشارة الى عدم قبول إيمان من خالفوا أمره بمتابعة السامريّ. 

وبذلك يرتفع الاستغراب من تأخّر الهداية عن الامور المذكورة، ويندفع إشكال بعض المفسرين من العامّة على هذه الأحاديث من جهة أنّ مورد الآية بنو إسرائيل، وأنّها لا تنطبق على هذه الاُمّة.

تتنزّل عليهم الملائكة ألّا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون... التنزّل ــ على ما في لسان العرب ــ هو النزول على مهلة. وعليه فهو يقتضي تعدد دفعات النزول، لأن الفعل اسند الى الجمع، فان كان نزولهم جميعا على مهلة اقتضى التكرر.

قيل: إنّ هذا الخطاب يتلقّونه من الملائكة حين الموت، او حينه وفي القبر وحين البعث. وورد ذلك في بعض الروايات، وفي بعضها ما ينافيه. ولا يصح شيء من القسمين سندا.

ولا يمتنع لفظ الآية أن يكون الخطاب في الدنيا، بل هو أوفق بقولهم بعد ذلك: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة).

ويبعد أن يكون المراد ــ كما في بعض التفاسير ــ انا كنا اولياءكم في الدنيا، اذ لا يؤثر ذلك في رفع الحزن والخوف، وظاهرها أنّ هذا القول انما يقال لهم لبعث الاطمئنان في نفوسهم. والمؤمن الراسخ في دينه يشعر بهذه الطمأنينة التي تلقيها الملائكة في روعه وان لم يشعر أنّها من إلقائهم.

وإنّما ذكروا ذلك لاستبعاد نزول الملائكة على المؤمنين في الدنيا. وليس له وجه صحيح، وإنّما توقّف نزول الوحي الرسالي بوفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، مع أنّه لا دلالة في الآية على أنّ الملائكة يواجهون المؤمنين ويكلّمونهم، فلعلّهم يلقون مضمون الآية في قلوبهم، نظير ما كانوا يعملونه في بدر قال تعالى (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا).[9]

ويؤيّد ذلك التعبير الوارد في الآية فإنّ فعل المضارع يدل على استمرار النزول، ومقتضاه أنّ هذا الالقاء مستمر، بل صيغة التنزّل كما مرّ تقتضي ذلك ايضا، بل نفس النزول ايضا يقتضي الاختصاص بالدنيا، فعلى القول الآخر لا بدّ من تخصيصه بوقت الموت، لأنّ الملائكة في الآخرة محيطون بالبشر صالحهم وطالحهم ويرتفع الحجاب فلا يصدق النزول.

وقيل: إن ممّا يقتضي الاختصاص بيوم القيامة او حين الموت قولهم (كنتم توعدون) الظاهر في انقضاء وقت الوعد.

ولكن لا ظهور في ذلك فهذا التعبير يرد في استمرار الحالة ايضا كقوله تعالى (ان كنتم صادقين) و(ان كنتم مؤمنين) وأمثال ذلك في موارد عديدة.

والخوف هو القلق من مكروه متوقع حالا او مستقبلا، والحزن هو التأسّف على أمر لا يمكن تداركه. ومن الطبيعي أن يخاف الانسان مما يلاقيه في النشأة الاخرى، فإنّه مجهول تماما، كما أنّه من الطبيعي أن يحزن على ما فاته من الفرص. والملائكة يبشّرون المؤمنين الثابتين على إيمانهم أن لا داعي للخوف من ترتّب عقاب، ولا موجب للحزن على ما فات، بل استبشروا بالجنة التي وعدكم الله على لسان انبيائه ورسله.

والإبشار بمعنى السرور والفرح.

نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة... اي لا تهتمّوا بكثرة الاعداء وقلّة الاصحاب، فإنّا أولياؤكم في الدنيا والآخرة. والولاية ــ في الاصل ــ تتابع شيئين، ويطلق الولي على التابع والمتبوع، والناصر والمنصور، ونحو ذلك.

والمراد هنا بالاولياء الذين يلون اُمورهم بأمر من الله تعالى، حيث إنّهم وسائط الرحمة، والله تعالى هو الذي يتولّى الصالحين، وهو وليّ الذين آمنوا. وولايتهم الخاصّة بالمؤمنين في الدنيا تتمثّل في التسديد والتثبيت على الحقّ ونحو ذلك، كما مرّ في سورة الانفال، وفي الآخرة تتمثّل في إنالتهم الثواب والسلام والتكريم ونحوها، كما قال تعالى (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ..)[10] وقال (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ).[11]

ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون... تتمّة البشرى. والضمير يعود الى الجنّة المذكورة في الآية السابقة. واشتهاء النفس نزوعها الى الشيء وحبها له. والادّعاء افتعال من الدعوة اي الطلب، ويفيد تأكيده، ولعله لذلك فسّر بالتمني، فانه طلب ما لا يرجى فيتأكد فيه الطلب، اي يطلب باصرار.

وعليه فالفرق بين ما تشتهيه الانفس وما يدّعون أنّ الاول طلب ما يأملونه ويعرفونه من الملذّات، والثاني طلب ما لم يألفوه وانما يتمنّونه. وما أكثر أماني الانسان، بل يحصل على ما لا يعرفه ولم يخطر بباله. وهذا غاية سعادة الانسان فلا يتصور سعادة فوقه.

ولكن كيف يصل الانسان الى كل مشتهياته، مع أنّ الاستزادة جزء من طبيعته؟!

ونحن نجد أنّ الانسان في هذه الدنيا لا يقتنع بما يصل اليه، حتى لو اُعطي كل ما على وجه الارض، فما الذي يحصل هناك؟

وما هو الشيء الذي يملأ النفس المستزيدة البشرية فلا يبتغي أمرا وراءه؟

كما أنّا نجد الانسان في هذه النشأة يملّ كيفية خاصّة ونمطا خاصّا من الحياة، ويطلب دوما التجديد والتغيير، فما الذي يجده في الجنّة حيث تهدأ نفسه ويرضى به ولا يطلب غيره، كما قال تعالى (لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)؟[12]

الذي يملأ كل فراغ في قلب الانسان، ولا يدع له اُمنية وراءه هو رضا الله تعالى، فاذا بلغه الانسان استراح واطمأنّ، فهذا هو غاية مطلوبه التي كان يبحث عنه فلا يجده، وهو ضالّته المنشودة التي كان يطلبها في الملذّات المادية وغيرها.

نزلا من غفور رحيم... يضاف الى كل ما يعطون في الجنة إكرامهم بأنّ كل ذلك استضافة من الله تعالى لهم. وهذا غاية الاكرام من ربّ العالمين لعبيده الاتقياء. والنزل: ما يقدّمه المضيف لضيفه.

ولعل وصفه تعالى بالغفور الرحيم للتنبيه على أنّ هذا الاكرام لم يكن ليتمّ لولا غفرانه ورحمته، اذ لا يخلو الانسان من تقصير في أداء الحق تجاه ما أنعم الله عليه، فلا يستحقّ أحد هذا الاكرام لولا غفران الله ورحمته.



[1]  الخطبة: 176

[2] بصائر الدرجات ص 113

[3] الكافي ج1 ص220

[4] النساء: 65

[5] طه: 82

[6] أمالي الصدوق ص584

[7] الكافي ج1 ص393

[8] فضائل الشيعة ص26

[9] الانفال: 12

[10] الرعد: 23- 24

[11] الزمر: 73

[12] الكهف: 108