مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)

 

اليه يردّ علم الساعة... حيث كان الكلام في الآية السابقة عن العدل الالهي يوم القيامة جاءت هذه الجملة ردّا على سؤال متوقّع عن توقيت هذا اليوم. والساعة هي الجزء من الوقت، وهنا كناية عن الوقت الخاص، اي يوم يقوم الناس لربّ العالمين، سُمّي بذلك لأنّه يتمّ بسرعة، كما عبّر عنه بنفخ الصور ونحوه.

والمراد بردّ علمه اليه تعالى أنّ كل من يُسأل عن الساعة ووقتها يرجع علمه اليه تعالى بأن يقول (الله العالم) لأنّه لا يعلمه، ولا يعلمه الا الله تعالى. فهذا علم استأثر به الله ولم يعلمها رسله ولا ملائكته.

ولعل السرّ فيه أن يستمرّ المكلّفون في العمل بوظائفهم، وإمرار معاشهم، ولو علموا بموعدهم لاختلّ نظام المعاش.

وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من انثى ولا تضع الا بعلمه... الأكمام جمع كِمّ ــ بكسر الكاف ــ وهو غلاف الثمرة. و(ما) نافية وليس مبتدأ كما في الميزان لتعقيبه بـ(الا). و(من) في قوله (من ثمرات) و(من انثى) زائدة لتأكيد الشمول.

وذكر هذه الامور (خروج الثمرة والحمل والوضع) من باب المثال، فلا يمكن أن يحدث شيء في الكون الا بعلمه تعالى، ولعلّ الغرض من هذه الجملة بيان شمول العلم الالهي لجميع الحوادث، وهو ممّا يتوقّف عليه تحقيق العدالة المشار اليها في الآية السابقة.

وقيل: إنّ الغرض ذكر اُمور مشهودة للانسان، وهو لا يعلم بها وبحقيقتها، ليكون جوابا عن السؤال عن موعد الساعة الذي يقصد به الانكار. فهذه الآية تبيّن للانسان أنّه لا يعلم بهذه الامور، فهل يجوز له انكارها؟!

ولكنّ الآية لم تنف علم الانسان، ولم تحصر العلم بهذه الامور في الله تعالى، وإنما ورد في الآية أنّ هذه الامور لا تتحقق الا بعلمه تعالى.

ويوم يناديهم أين شركائي... اي واذكر يوم يناديهم.. والضمير يعود الى المشركين. والتعبير بـ(شركائي) تهكّم واستهزاء بهم، حيث كانوا يجعلون لله تعالى شركاء، ومثله قوله تعالى (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)[1] والمراد بهم الاصنام او مطلق ما كانوا يعبدون من دون الله كبعض البشر.

وقوله (أين شركائي) بتقدير القول كما ورد في سورة القصص.

وهؤلاء وان كانوا موجودين في الساحة وهم يرونهم، بل يتخاطبون كما في آيات اخرى، ولكن السؤال وقع عن وجودهم بصفة الشراكة، فالاصنام هناك في النار، وكذلك الفراعنة وسائر من ادّعوا الالوهية او مارسوها من طواغيت البشر. فالسؤال في الواقع عن مصير هذه الشراكة المزعومة.

والتعبير بالنداء وتوجيهه الى الجمع يوحي بأنّ الخطاب يكون علنا وموجّها الى جميع القوم. والحساب هناك كما يكون فرديا قد يكون اجتماعيا، فالمجتمع بصفته الخاصة عليه مسؤولياته الخاصة به. وكما يحاسب الانسان بأعماله الشخصية يحاسب بأعمال المجتمع وبما يصدر منه من موافقة او مخالفة او سكوت.

قال تعالى (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).[2]

يلاحظ في هذه القصّة أنّ الله تعالى عذّب جميع القوم بما فيهم التاركون للنهي عن المنكر وان لم يرتكبوه، بل اعتبرهم من الذين ظلموا مع أنّهم لم يوافقوهم ايضا ولكنّهم لم يعلنوا مخالفتهم.

ويلاحظ ايضا أنه تعالى اعتبر النهي عن المنكر معذرة الى الله تعالى، ومعناه أنّهم بذلك يعتذرون اليه تعالى من بقائهم في هذا المجتمع الفاسد، مما يدلّ على أنّ الانسان مسؤول عن أعمال المجتمع، اي الأعمال التي تنتشر في المجتمع وتبتني عليها ثقافتهم، وليس المراد كل عمل فرديّ يقوم به بعض أفراد المجتمع.   

قالوا آذنّاك ما منّا من شهيد... آذنّاك اي أعلمناك. وهذا إنشاء للاعلام وليس إخبارا عن إعلام سابق، اي نعلمك أنّه ليس منّا من يشهد على وجود شركاء لك. ونفي شهادتهم على الشراكة بمعنى عدولهم عن كل ما كانوا يزعمونه، او بمعنى أنّهم لا يشاهدون شيئا يعتبر شريكا لله تعالى.

وضلّ عنهم ما كانوا يدعون من قبل... (ضلّ) في الاصل بمعنى ضاع، فالمراد أنّها غابت عن أعينهم، فلم يجدوهم في موضع الحاجة، وقد عقدوا الآمال عليهم في الدنيا، او ضلّت عن أذهانهم حيث انكشف لهم الحق فعلموا بطلان اوهامهم، حينما كانوا يدعون الاصنام ويتوقعون منها الشفاعة.

وظنّوا ما لهم من محيص... المحيص اسم مكان او مصدر من (حاص) اي مال عن الشيء، فالمعنى ما لنا من طريق يميل بنا ويعدلنا عن العذاب الالهي. وهم هناك لا يظنون، بل يعلمون أنّهم لا محيص لهم من العذاب، فليس المراد بالظنّ الاعتقاد الراجح، بل المراد كل اعتقاد يستند الى أمارة كما في مفردات الراغب، ولعلهم يحتملون أن تشملهم الرحمة الالهية ولو بعد حين.

ووجه ارتباط هذه الجمل بأول الآية أنّه حيث ذكر شواهد ربوبيته تعالى وانه لا يعلم وقت الساعة الا هو ولا يحدث شيء الا بعلمه عقّبه بما يثير العجب من إشراك القوم غيره تعالى في الربوبية وأشار الى أنّهم سينتبهون الى خطئهم يوم لا يفيدهم ذلك.

ومثله قوله تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ).[3]

لا يسأم الانسان من دعاء الخير وان مسه الشرّ فيؤوس قنوط... هذه الآيات تكشف عن حال الانسان الكافر بدليل الآية التالية، وإنّما عبّر بالانسان إيذانا بأنّ هذا طبعه وصفته الاصلية لولم يؤمن بالله واليوم الآخر وشريعة السماء، فالذي يغيّره ويضفي عليه الكمال هو الايمان.

وربّما تشمل الآية بعض من هو ضعيف في إيمانه، فالمؤمنون يختلفون في درجات إيمانهم، وبعضهم أقرب الى الكفر من الايمان، وإن وصف بالمؤمن، كما قال تعالى عن المنافقين (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان)[4] وحسب هذا الاختلاف يختلف حالهم في ما يذكر من صفات الكافرين.

وتذكر هذه الآيات ثلاث خصال للانسان الكافر:

الاولى: ما في هذه الآية وهي أنّه لا يملّ من طلب الخير، والمراد به المال وما يستطيبه من الملذّات. والمراد بالدعاء الطلب، والعمل في سبيل الوصول اليها، فهو لا يشبع منها ولا يتعب، بل كلما بالغ في جمع الاموال زادت نهمته، كما أنّ الأكول كلما زاد في الأكل إتّسعت معدته وطلب المزيد.

وأمّا اذا مسه الشرّ فإنّه ييأس ويقنط. والشرّ كلّ أمر سيّئ لا يرغب فيه أحد. والمراد به هنا ما لا سبيل الى دفعه، واما المشاكل التي يمكن حلها سواء في جسمه او ماله او غير ذلك فهو داخل في العنوان الاول، وهو طلب الخير.

فاذا ابتلي الكافر بما لا حلّ له ولا بدّ له من التسليم فانه ييأس ويقنط، لأنّه لا أمل له في حياة اخرى، ولا في ثواب من الله تعالى، فلا يجد بديلا لما يفقده من ملذّات الدنيا التي هام بها وعشقها، وصرف في جمعها حياته، وبذل في سبيلها كل جهده، فحقّ له أن ييأس ويقنط. والظاهر أنّهما بمعنى واحد جيء بهما معا للتاكيد.

ومثله قوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ).[5]

وبما ذكرناه في توضيح معنى الآية الكريمة يندفع ما يقال من أنّ الكفّار ايضا لا ييأسون لمجرّد أن يمسّهم الشرّ. فإنّ الكفّار ييأسون حينما لا يبقى اي أمل للحلّ، وخصوصا اذا تعلق الامر بالحياة. وهناك من المؤمنين ايضا من ييأس بذلك، لضعف إيمانه كما ذكرنا.

ولئن أذقناه رحمة منّا من بعد ضرّاء مسّته ليقولنّ هذا لي... الصفة الثانية: أنّه اذا اُوتي الخير والرخاء والنعمة تكبّر وطغى، ونظر في عطفه، ونسب كل ذلك الى نفسه، ورأى نفسه فوق الآخرين.

والآية تردّ عليه من بدو بيان حاله قبل أن يعقّب عليه، فقوله تعالى (ولئن أذقناه رحمة منّا) يردّ على تصوّره الخاطئ بأنّ ما لقيته من نعمة إنّما هو رحمة من الله تعالى أذاقك فكان ينبغي لك أن تشكر ربّك، لا أن تطغى وتشمخ بأنفك.

والتعبير بالاذاقة لعله من جهة أنّ هذه النعم الدنيويّة مهما عظمت في عين الانسان فإنّها ليست في جنب رحمته الواسعة الا كطعم يذوقه.

والضرّاء كلّ ما يضرّ الانسان. وتقييد الرحمة بكونها بعد الضرّاء لأنّها هي التي تلفت انتباه الانسان واهتمامه، وأمّا النعم المستمرّة فيغفل عنها. ولم ينسب الضرّاء الى نفسه مع أنّه ايضا منه تعالى لأنّه إنّما مسّته بسوء عمله، قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).[6]

وقوله (ليقولنّ هذا لي) يحتمل أن يكون المراد أنّه كسبه بعلمه وقوّته وحصافة رأيه، وغرضه أن ينكر أنّه نعمة من الله تعالى عليه، فيتعلق به حقّ شرعيّ، ويطلب منه أن ينفق منه على الفقراء وفي سبيل الله. و مثله قول قارون (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي).[7]

ويحتمل أن يكون المراد أنّه باق له لا يؤخذ منه، ولا تزول نعمته. وهذا الاحتمال أقرب لما يأتي من مجاراة الآية لآية سورة الكهف وفيها قوله (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا).

وما أظنّ الساعة قائمة... ينكر الآخرة ليبقى حرّا في تصرّفه لا يخاف عقوبة وراءه. ومعنى هذه العبارة أنّ احتمال قيام الساعة ضعيف، لأنه لا ينفي الاحتمال وإنّما ينفي الظنّ. وهذا مما يؤخذ به على الانسان، فانه لا يمكنه الانكار بالمرة، لعدم دليل على امتناعها. وحيث إنّ المحتمل في غاية الأهمية فالمفروض عقلا أن يحتاط الانسان.

ولئن رجعت الى ربّي إنّ لي عنده للحسنى... اي لو فرض قيام القيامة والمحاسبة فإنّ لي أمام ربّي أحسن مقام وأرفع درجة. والحسنى أفعل تفضيل من الحسن، وهي وصف لموصوف مقدر كالدرجة الحسنى.

وهذا مجرد فرض، فهو لا يعتقد بالآخرة، ولكنّه لاغتراره بنفسه يظنّ أنّه لو كانت هناك قيامة وحساب فان الله تعالى ينعم عليه ايضا كما أنعم عليه في الدنيا، فإنّ هذه النعمة والرخاء إن كان من الله فانما أعطاه لاستحقاقه وكرامته فهو يستحقّها هناك ايضا.

ونظيره ما في سورة الكهف من حوار الصاحبين حيث يقول عن الغني الكافر المغترّ بنعمته (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).[8]

ومثله ايضا قوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ).[9]

والانسان يقع في هذا التصور الخاطئ نتيجة إعجابه بنفسه. وقد رأينا من الطغاة شواهد كثيرة له في التاريخ وفي حياتنا، و ناهيك في ذلك خطاب السيدة زينب سلام الله عليها ليزيد لعنه الله: (أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة؟! وأنّ ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك...). [10] 

فلننبّـئنّ الذين كفروا بما عملوا... الفاء للتفريع، فإنّ ما يلقاه هناك متفرع وناتج من هذا التصور الخاطئ. والجملة مؤكّدة بقسم محذوف يدل عليه لام القسم وبالنون المؤكّدة.

ومعنى إنبائه يوم القيامة بعمله أنّه يرفع عنه الحجاب فيكون بصره حديدا ونافذا يصل الى أعماق العمل، والى الاهداف التي تكمن وراءه. كما قال تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)[11] وحينئذ يظهر عمله بذلك الوجه الكالح القبيح المنفّر، ولو فرض أنّه أتى ببعض الاعمال الحسنة كمساعدة الفقراء، وبناء المصالح العامة، فإنّ سوء نيّته يبيّن حقيقة عمله.

وهذا يصلح ردّا على تصوّراته الخاطئة المتتالية، فإنّ سلسلة أخطائه تبتني على جهله بسوء عمله، كما قال تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[12] فاذا تبيّن له حقيقة عمله انهار كل ما بنى عليه من التصورات الخاطئة.

ولنذيقنّهم من عذاب غليظ... وهذا يصلح ردّا على تصوّره أنّ له عند الله أرفع مقام ودرجة، بل يذيقه الله من العذاب الغليظ، اي الشديد جزاءا لسيّء أعماله.

واذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه واذا مسّه الشّرّ فذو دعاء عريض... وهذه هي الصفة الثالثة التي تخصّ الكافر ومن بحكمه من المؤمنين في الظاهر، فهو في حال النعمة والرخاء ينسى ربّه، ولا يعترف به، بل يعرض عنه. وإنّما يذكره حينما تنسدّ أبواب الامل في وجهه، ويجد نفسه مضطرّا للّجوء اليه فانه آخر أمل له.  

والنأي: البعد، فإمّا أن يكون المراد أنّه ينأى بنفسه فإنّ الجانب يكنى به عن الشخص، او المراد التكبّر والاعراض، فالجانب بمعنى الجنب. وهذه حالة من لا يعير اهتماما بالشيء نظير الاعراض بالوجه. والمراد بالدعاء العريض الاكثار منه او شدة التضرع.

وقد تكرّر في القرآن الكريم الاشارة الى هذه الحالة في الانسان. فمنها قوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[13]  

وقوله تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)[14] وغير ذلك.

وهكذا الانسان يتضرّع الى ربه في العسر وينساه في الرخاء، الا المؤمنين فإنّهم لا ينسون ربّهم أبدا، ولكنّ الحال يختلف باختلاف درجات الايمان، فالصادقون منهم لا يختلف حالهم في هذا المجال في الشدّة والرخاء، بل ربما ينتهزون فرصة الرخاء لبذل جهد أكبر في العبادة والدعوة الى الله تعالى، ويوكلون أمرهم في الشدّة اليه ايضا، وينعمون براحة البال. وسائر المؤمنين يختلف حالهم في الشدّة والرخاء، ويزيد تضرّعهم وتوجّههم الى الله تعالى في حال الشدّة، وهم مختلفون في هذا الاختلاف حسب درجات إيمانهم.

وربما يتوهم التنافي بين هذه الآية وقوله تعالى قبل آيتين (واذا مسّه الشرّ فيؤوس قنوط) فإنّ كونه يؤوسا ينافي الدعاء المتوقّف على الرجاء. وأصرح في التنافي قوله تعالى (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا).[15] لوحدة الجملة الاولى فيهما الامر الذي يقتضي وحدة الموضوع في الآيتين.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله دفع الاشكال في تفسير الآية الاولى من هذه الآيات بأنّ المراد من يأسه وقنوطه يأسه من الاسباب والوسائل، ولا ينافي ذلك تعلق رجائه بالله تعالى.

وهذا جواب غريب فإنّ ما ذكره انماهو من صفات المؤمنين الصادقين حيث لا يعلّقون الآمال الا بالله تعالى، ولا علاقة له بهذه الحالة التي تندّد بها الآيات المذكورة.

هذا مضافا الى أنّ هذا الجواب لا يصحّ في قوله تعالى (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ)[16] فقد جمع هنا بين اليأس والكفر.

ولكن الاشكال غير وارد على ما ذكرنا من أنّ المراد بالشر في الآية الاولى ونظائرها ما لا سبيل الى دفعه كالمرض الذي لا علاج له قطعا، فيحصل له اليأس والقنوط والكفران، لأنّه لا ينتظر ثوابا من الله تعالى، ولا يسند الامور اليه، بخلاف المؤمن.

واما الموارد التي يتوسل فيها بالدعاء ويتوجه الى ربه فهي التي لم يقطع أمله من وجود طريق للحل فيها، ولكنه بعيد المنال عادة كمسألة الغرق في البحر، وبعض حالات المرض. فهذه قرينة اخرى على ما ذكرناه من اختصاص الشر في الآية الاولى بما لا سبيل الى دفعه.

 

[1] القصص: 62

[2] الاعراف: 163- 165

[3] فاطر: 13- 14

[4] آل عمران: 167

[5] هود: 9

[6] الشورى: 30

[7] القصص: 78

[8] الكهف: 35- 36

[9] هود: 10

[10] بحار الانوار ج45 ص133.

[11] ق: 22

[12] الكهف: 103- 104

[13] يونس: 12

[14] العنكبوت: 65

[15] الاسراء: 83

[16] هود: 9