مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) 

 

قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين... أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم أن يوجّه الى المشركين هذا الخطاب الذي يستنكر فيه كفرهم. وفيه إشارة الى أنّهم لا يستحقّون خطاب الله تعالى، مع صدور هذا الامر المستنكر منهم.

ثم صدّر الجملة بالاستفهام، وبالتأكيد بحرف (إنّ) وبلام القسم من جهة استبعاد الأمر، مثلما تقول لمن يدّعي أمرا غريبا: حقّا تعتقد ذلك؟!

ثم إنّ الكفر بمعنى الانكار، مع أنّهم لم ينكروا وجود الله سبحانه، من جهة أنّ شركهم واعتقادهم بأنّ لله تعالى أندادا وهي الاصنام، وأنّها تتصرف في الامور كما يتصرف الله سبحانه ليس الا إنكارا لرب العالمين، فإن الله تعالى انّما يعرف بصفاته، فمن يعتقد بأنّ الله تعالى جسم جالس على كرسي ليس معتقدا بالله، بل هو منكر له، فإنّه ينكر الإله المحيط بكل الكون، المدبّر لها، والقيّوم على كل شيء، لأنّه يعتقد بإله محدود مجسّم، والله تعالى لا يعرف بذاته المتعالية، وإنّما يعرف بالصفات الحسنى التي ذكرها لنفسه.

ووصفه تعالى هنا بالخلق والتدبير لإثبات أنّ الخالق هو الرّبّ، لأنّه خلق الكون بهذا النظم البديع الذي يوصله الى الغرض الذي تقتضيه الحكمة.

فأوّل أمر نبّه عليه خلق الأرض، لأنّه أقرب الى الانسان فقال: (خلق الارض في يومين) ولا شكّ في أنّ المراد باليوم ليس هذا المعنى المعروف، لأنّه ينتج عن دوران الارض حول نفسها، فلا معنى لفرضه قبل خلق الارض.

ومن المضحك ما ورد في بعض الروايات الإسرائيليات تبعا للتوراة من تسمية أيّام خلق السماوات والارض بأسماء أيّام الاسبوع، وأنّه بدأ الخلق في يوم الاحد، وانتهى منه في يوم الجمعة، واستراح يوم السبت. ولذلك جعل اليهود يوم السبت يوم عطلة!!!

وربما يقال: إنّ المراد باليوم قطعة من الزمان لا نعلم مقياسها، فاليوم يختلف في كل كوكب من الكواكب، وحيث لا نعلم المقياس الذي به حُدّد اليوم قبل خلق الارض، فيمكن أن ينطبق على ملايين السنين التي يقال إنّها مرّت على الارض، حتى أصبحت بالوضع الحالي حيث تمكن الحياة عليها.

ولكنّ هذا ايضا غير صحيح، لأنّه لا يبقى وجه لتثنية اليوم. فما هو أساس التعدّد؟!

والظاهر أنّ المراد باليوم مرحلة من مراحل التكوين، كما يقال يوم القيامة، ولا يراد به قطعة من الزمان بل مرحلة من مراحل الكون، فالمراد باليومين هنا أنّ الارض مرّت بمرحلتين من التكوّن حتى أصبحت بهذا الوضع، ولا يشير الى قطعة من الزمان أيّا كان مقياسه. وسيأتي الاشكال في هذا التعداد الذي لا ينحلّ الا بما ذكر. ولعلّ المراد بالمرحلتين مرحلة كونها غازا او تبدّل الغاز الى سائل ثم تصلّبها وتجمّدها كما يقال او غير ذلك.

ويبدو هنا سؤال، وهو أنّه ما هو الهدف من ذكر اليومين او الاربعة او الستّة، مع عدم وضوح المراد منها؟

ولعل السرّ هو الإشارة الى اُمور لا يصل اليها علم البشر في ذلك العصر، حتى اذا بلغها علمه تبيّن له أنّ هذه الآيات انما نزلت من لدن حكيم خبير. والقرآن ليس كتابا علميّا يبحث عن حقائق الكون والطبيعة، حتى يبيّن هذه الامور بوضوح، ولو كان يبيّنها كذلك ما كان المخاطبون يفهمونها ولا يذعنون لها، بل ربّما كان ذلك مثارا للسخرية والاستهزاء لديهم.

وتجعلون له أندادا... الندّ هو المثل. والجملة عطف تفسير يفسّر المراد بكفرهم كما أشرنا اليه. ولا يختص الندّ بالأصنام، بل يشمل كلّ ما يجعل ندّا لله تعالى. وكثيرا مّا يشتبه الأمر على بعض المؤمنين بالله، فيتصوّر أنّ المخلوق يمكنه أن يستقلّ بالتأثير في الكون، فهذا يجعله ندّا لله تعالى جهلا بحقيقة الامر.  

ذلك ربّ العالمين... أشار اليه تعالى بأداة الاشارة للبعيد (ذلك) للتنويه على بعده عن هذا التصور الخاطئ، او بعده تعالى عن متناول الافهام، او للاشارة الى عظمته تعالى فإنّ العرب يشيرون الى العظماء بإشارة البعيد.

وبهذه الجملة يردّ عليهم بأنّ الله الذي خلق الارض، وجعل فيها كل مقوّمات الحياة للعالمين هو ربّهم، وليس له ندّ ولا شريك. وهذا هو التدبير الذي لا ينفكّ عن الخلق، فالخالق هو المدبّر، وهو الربّ لا ربّ غيره.

والعالمين ليس جمعا للعالم، اذ لا يمكن للعالم ــ وهو ما سوى الله تعالى ــ أن يتكرر، فكل ما تفرضه عالما آخر او من عالم آخر ينطبق عليه أنه ممّا سوى الله تعالى فيكون جزءا من هذا العالم. ولذلك يقال: إنّ (العالمين) ملحق بالجمع.

ويمكن أن يكون جمعا باعتبار أنّ العالم يراد به مجموعة من المخلوقات، كما يقال عالم الانسان وعالم الحيوان ونحو ذلك.

وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها... (من فوقها) اي على سطحها. وهذه الآية تشير الى ثلاث مراحل من التحوّلات التي حدثت على الارض بعد تكوّنها لتصبح قابلة لمعيشة الانسان والحيوان:

الاولى: مرحلة تكوّن الجبال، وسمّاها الرواسي بمعنى الثوابت. وللجبال دور عظيم في حفظ خزائن الارض، وأهمّها المياه العذبة التي تنزل من السماء، فإنّ الجبال هي التي تحتفظ بها بصورة مياه جوفيّة اوثلوج، ثم تنتشر على الارض من خلال الانهار والعيون والقنوات والآبار تدريجا. ولولا الجبال لامتصّت الارض كل مياه الامطار، ولم ينبت عشب، ولم يبق على وجه الارض حياة. الى غير ذلك من الفوائد العظيمة للجبال، ومنها ما اُشير اليه في آيات اخرى من انّها سبب لتوازن الارض، ومنعها من المَيَدان والانحراف.

والثانية: مرحلة البركة، وهي الخير الكثير الثابت، من برك البعير اذا استقرّ على الارض. ولعلها إشارة الى ما أوجده الله تعالى في الارض من عناصر مختلفة يحتاج اليها الانسان والحيوان للاستمرار في الحياة. وقد جعل الله تعالى لها نظاما يقضي ببقائها أمدا طويلا، حيث جعل في الارض قابلية التغيير والتحويل.

والثالثة: تقدير الأقوات، وهذا ايضا من غرائب التدبير، فقد جعل الله لكل موجود حيّ ما يقتات به، ويتناسب مع جهازه الهضمي، وجعل حوله البيئة التي تساعد على تكوّن القوت، وهيّأ له من الاسباب ما يمكّنه من قوته فتجد بعض الحيوان يأكل بعضا آخر، فجعل للمفترس ما يحتاج اليه من أنياب ومخالب وغيرها، وتجد بعضه يأكل الاعشاب فجعل لها من الاسنان والجهاز الهضمي ما يساعد على ذلك وهكذا..

ويلاحظ مثلا الابل حيث يعيش في الصحراء، خلق الله تعالى له شوكا لا يحتاج في بقائه الى ماء كثير، فينبت في فصل المطر، ويبقى طوال الصيف، وهو له غذاء وماء، بل ودواء ايضا حيث إنّه يحتوي على مادة تنظّف المجاري البولية من الرسوبات التي تنشأ من قلة السوائل في الجسم، وقد اكتشفها الانسان منذ امد بعيد، واخذ يستخرجها من هذا الشوك ويتداوى بها.

ومن غباء الانسان أن يتوهّم أنّ كلّ هذا التدبير الدقيق لا يدلّ على حكمة الخالق المدبر، وأنّها تكوّنت صدفة واتّفاقا.

وقوله تعالى (وقدّر فيها أقواتها) أي أوجد الاقوات لكل حيّ بما يتناسب مع جسمه وحاجاته. والقوت ما يمسك الرمق من الرزق. ولعلّ المراد خصوص الاقوات النباتية باعتبار أنّ الحيوان البدائي ما كان يقتات الا عليه، وأكل الحيوان للحيوان حدث بعد التطورات الحاصلة فيه، والكلام مسوق لبيان أصل خلقة الارض، وإعدادها لمعيشة الانسان والحيوان. ويمكن إرادة ما يقتات به من الحيوان ايضا باعتبار أنّه من الأقوات ولو بعد التطوّر.

في أربعة أيام سواء للسائلين... مرّ الكلام في معنى الايام، وأنها أربعة مراحل، وسيأتي الكلام حولها. وقوله تعالى (في اربعة ايام) يمكن أن يكون قيدا لكل ما سبق ذكره، بمعنى أنّ هذه التحوّلات الثلاثة حدثت في أربعة مراحل. ويمكن أن يكون قيدا لخصوص تقدير الاقوات، ولا نعلم شيئا حتى الآن من هذه المراحل الاربعة في شيء ممّا ذكر.  

وقوله تعالى (سواء للسائلين) حال من الاقوات. والظاهر أنّه يشير بذلك الى تقدير الاقوات المختلفة حسب اختلاف الحيوان كما مر. و(سواء) بمعنى متساوية ومتعادلة لكل سائل ومحتاج حسبما يحتاج اليه. فالسؤال ليس بمعنى الطلب اللفظي ونحوه، بل بالمعنى الذي يشمل الطلب الطبيعي، وان لم يلتفت اليه السائل. وارتبك بعض المفسرين في تأويل الآية حيث اعتبر السؤال استفهاما.

وبناءا على ما ذكرنا من كونه حالا للأقوات فيمكن أن يكون ذلك قرينة على أنّ قوله (في اربعة ايام) ايضا قيد للاقوات لا لجميع ما مرّ لئلا يلزم الفصل بين الحال وذي الحال بأجنبي. وهذا وان كان موجبا لترجيح هذا الاحتمال ولكنه لا يمنع من كون المراحل الاربعة عامة لكل ما ذكر فيكون تأخير قوله (سواء للسائلين) للمحافظة على أواخر الآيات.

وذهب بعضهم الى أنه حال للأيام فالمعنى أنها أيام متساوية. وذلك على توهّم أنّ المراد بالايام أيام الاسبوع. وأنّ يوما منها للراحة!! تبعا لما في التوراة. وقالوا إنّ المراد بالسائلين الطالبون للمعرفة، فلا يتعلق بقوله (سواء).    

ومهما كان فهنا يبدو إشكال: وهو أنّ الله تعالى ذكر في سبعة موارد من القرآن الكريم أنّه خلق السماوات والارض في ستة ايام، وهنا ذكر أنّ الارض خلقت في يومين، وقدّر أقواتها في اربعة، وخلق السماوات ايضا في يومين، فالمجموع ثمانية لا ستة.

ومن أغرب ما رأيت في هذا الباب أنّ بعض مواقع المُعادين للاسلام كان ينشر بيانا يستهزئ فيه بالقرآن، ويقول: إنّ مؤلفه كان يجهل أبسط القواعد الرياضية وهو الجمع، فكان يجهل أنّ 2 + 2 + 4 = 8 !!!

وهذا الكلام من السخف بحيث لا يستحق النقد، اذ كيف يمكن أن يقال في حق من أتى بهذا الكتاب العظيم ــ مع كل ما فيه من حقائق يخضع لها العلماء طيلة القرون ــ أن يجهل هذا الامر البسيط؟!

ودفعا لهذا الاشكال ذهب اكثر المفسرين الى أنّ المراد بقوله تعالى (في اربعة ايام) أنّه أكمل كل ذلك في اربعة ايام، فيكون خلق الارض في يومين، وتقدير الاقوات في يومين. وذكروا في توجيه ذلك أدبيّا وجوها لا تخلو كلها من غرابة وتكلف. ولو لم يكن هذا الاشكال لكان من الواضح أنّ المراد من العبارة إيجاد هذه الامور في أربعة أيّام.

وذهب العلّامة الطباطبائي رحمه الله الى أنّ المراد كونها ظرفا لتقدير الاقوات فقط، وأنّ المراد بها الفصول الاربعة المؤثّرة في تكوّن الاقوات، اي النباتات المختلفة، وليس ظرفا لخلقها، كما أنّه جعل السماوات سبعا في يومين، وليس ظرفا لاصل الخلقة. ولا ينافي ذلك كون مجموع الخلق في ستة ايام.

ولكنّ هذا الجواب لا يمكننا الاعتراف به لأمرين:

1ــ أنّ تأويل الايام الاربعة بالفصول بعيد جدا، اذ هذا التقسيم ليس امرا واقعيا تكوينيا، بل هو أمر اعتباري، ويمكنك التقسيم الى اكثر من ذلك او اقل، فالفارق الطبيعي هو تغيّر المناخ من الحر والبرد وتصاعدهما وتنازلهما، وهذا الامر يحصل بالتدريج، ولا يرتبط بالفصول. وهناك مناطق ليس فيها هذه الفصول، بل لا يختلف الجو طول السنة الا يسيرا.

2ــ أنّه لا دخل للفصول في تقدير الاقوات، وانما تختلف النباتات باختلافها. نعم لو كان ظرفا للقوت لا للتقدير صحّ، فيكون المعنى وقدر اقواتها للفصول الاربعة. ولكن ذلك لا يتمّ في التعبير الموجود حتى لو كانت الايام بمعنى الفصول، وانما يتم لو كان التعبير هكذا (في الايام الاربعة).

والذي أراه أنّ الاشكال غير وارد أساسا، لما أشرنا اليه من احتمال أن لا يكون المراد  قطعة من الزمان كما فرضوه، بل مرحلة من مراحل التكوين، فالايام الاربعة على هذا الاحتمال مراحل أربعة من التطوّرات الحاصلة في الارض، تسبّبت في تكوّن الجبال والعناصر الارضية المختلفة، وتكوّن النبات الذي هو قوت الحيوان على اختلاف الحيوانات في القوت.

وعلى هذا الاحتمال فلا مانع من أن يكون تكوّن مجموع السماوات والارض مرّ بستة مراحل وحالات، كما ورد في سبعة موارد في الكتاب العزيز، وتكوّنت الارض بخصوصياتها في مرحلتين، وليستا هما من ضمن تلك المراحل الستة، لأنّ المرحلة هنا حالة خاصة بالارض في تطوّرها وليس جزءا من الزمان، وتكوّن ما على الارض من وسائل المعيشة في أربعة مراحل، ثم تكوّنت السماوات السبع ايضا بخصوصياتها في مرحلتين، وهما أيضا ليستا من المراحل الستة كما هو واضح.

ثمّ استوى الى السماء وهي دخان... (ثمّ) للتراخي في البيان، وليس للتراخي الزماني، بحيث يكون خلق السماء بعد خلق الارض وخلق ما فيها من جبال وانزال البركة وخلق الأقوات، وذلك لمنافاته مع قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)[1] فإنّ قـوله (بعد ذلك) أظهر في التراخي الزماني من (ثم) وان احتمل ايضا التراخي في الذكر، كقوله تعالى (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[2] وعليه فالآيات ظاهرة بوضوح في كون إعداد الارض لسكنى البشر بعد خلق السماء.

 واذا قلنا بأنّ قوله تعالى: (فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها) يحكي خطاب تكوين السماء والارض كما سيأتي فهو يدلّ ايضا على أنّهما لم تخلقا بعد.

وأمّا قوله (استوى) فقد قيل: إنّه اذا عدي بـ (على) كان بمعنى استولى، واذا عدي بـ (الى) كان بمعنى قصد وتوجّه. وقد مرّ في بعض ما ذكرناه من التفسير أنّ هذه الكلمة وان ضُمّنت معنى الاستيلاء في ما اذا تعدّت بـ (على) الا أنّ انتخاب هذا التعبير لعله للتدليل على استواء نسبة الاشياء اليه تعالى والى قدرته، فلا شيء أقرب اليه من شيء، ولا أهون عليه من شيء. وكذلك نقول في ما اذا تعدّى بـ (الى) فيفيد معنى أنّه قصد السماء مع استواء نسبة كل جزء منه اليه، فان الله تعالى لا يشغله شيء عن شيء.

ولكنّ الزمخشري في الكشاف فسّر الاستواء اذا عدي بـ (الى) بانه يفيد معنى التوجّه الى المكان توجّها لا يلوي على شيء، وهو من الاستواء ضد الاعوجاج ،ومنه قوله تعالى (فاستقيموا اليه). والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة الى خلق السماء بعد خلق الارض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك.

وما ذكرناه هو الصحيح فإنّ ما ذكره يفيد العكس، وهو أنّ خلق السماء أشغله عن غيره. وهذا ممّا لا يجوز إسناده الى الله تعالى.

ولعل المراد بالسماء هنا المادة التي تشكّلت منها الكواكب والانجم، وان كان السماء يقصد بها في القرآن تارة جهة العلو كموضع السحب، وتارة اخرى العالم العلوي الذي هو خارج عن الطبيعة وليس من الاجسام.

وقوله (وهي دخان) جملة حالية. ولعل المراد أنّه حينما أراد الله تعالى خلق النجوم والكواكب كانت دخانا، ولعله إشارة الى مرحلة كونها غازا، كما يقال في بعض الفرضيات الحديثة.

وربما يظهر من قوله تعالى (ثم استوى الى السماء فقال لها وللارض..) أنّهما كانتا كتلة واحدة آنذاك، كما ورد في قوله تعالى في سورة الانبياء: 30 (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا..) فقوله للكتلة الواحدة (ائتيا) اي لتنفتق هذه الكتلة وتتحقق السماء والارض. ويوافق ذلك ايضا بعض الفرضيات الحديثة.

ويحتمل أن يكون المراد بالسماء عالم الملائكة وبالأرض عالم الطبيعة. وعلى هذا الاحتمال لا سبيل لنا الى تفسير الدخان.

ولكنّ نفس الاحتمال بعيد عن سياق الآيات باعتبار أنه تعالى اعتبر احدى هذه السماوات على الاقل سماء الكواكب والأنجم، وايضا باعتبار أنّ الظاهر من تقدير الأقوات اختصاص الارض بهذا الكوكب.

فقال لها وللارض ائتيا طوعا او كرها قالتا أتينا طائعين... الظاهر أنّ هذا الخطاب ليس على حقيقته وانما هو تعبير عن إرادته تعالى المتعلقة بايجاد الأشياء وتكوينها، فهو نظير خطاب (كن) في قوله تعالى للشيء اذا اراد أن يكون، اذ لا يمكن توجيه الخطاب للشيء قبل وجوده، فالمراد بهذا التعبير الإشارة الى أنّ إيجاد الشيء لا يتوقف على امر اكثر من ارادته تعالى، وأنّ الكون طوع إرادته لا يتأبّى عليه شيء.

والخطاب هنا وإن كان موجّها في الظاهر الى السماء والارض الا أنّهما غير موجودين على حقيقتهما الا كمادّة أوّليّـة عبّر عنها بالدخان. ولعل المراد الحالة الغازيّة.

وقوله تعالى (طوعا او كرها) لعله لإفادة أنّ ارادته تعالى تقهر كلّ شيء، ولا يقاوم إرادته أمر مهما كان.

وقوله تعالى (قالتا أتينا طائعين) يفيد أنّ الاشياء طوع إرادته، لا تحاول أيّ مقاومة. فالمقاومة وان كانت لا تجدي أمام إرادته القاهرة، ولكنّ الاشياء لا تقاوم إرادته بل تطيعه تعالى. ولعل هذا هو المراد بسجود الأشياء في بعض الآيات.

والتعبير بالصيغة الخاصة بذوي العقول (طائعين) قد يكون بلحاظ التناسب مع إسناد القول اليهما وإن كان مجازا، وقد يكون بلحاظ أنّ الاشياء تعقل في إطاعتها لله تعالى. وهذا الامر مما يستفاد من عدة مواضع في القرآن الكريم، وان كانت عقولنا لا تدركه.

منها قوله تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..)[3] وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..)[4] وغير ذلك.

ولعل إتيان الخبر بصيغة الجمع المذكر (طائعين) مع أنّ الخطاب موجّه الى السماء والارض، من جهة أنّ الجواب يصدر من كل جزء من أجزاء الكون. والخطاب ايضا موجّه الى الكون بأسره، والسماء والارض تعبير عن كل الكون.

فقضاهنّ سبع سماوات في يومين... القضاء بمعنى فصل الامر. ويقصد به هنا الايجاد والتكوين اي أوجدهنّ سبعا. ومرجع الضمير في قوله (فقضاهنّ) السماء باعتبار المعنى وان كان اللفظ مفردا. ومثل هذه الآية قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).[5]

وهنا سؤالان: ما هي السماوات السبع؟ وهل هي سبع واقعا أم أنّه تعبير عن الكثرة؟        

أمّا عن السؤال الاول فيحتمل أن يكون المراد بها بأجمعها الأجرام الفلكية، ويحتمل أن يكون المراد بها ما يشمل عالم الملائكة، وهي عوالم غيبية لا نعلم عنها شيئا الا أنّها ليست أجساما فوق هذه الافلاك.

وهذه العوالم مساكن الملائكة الكرام، كما في تعبير أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة. وقد قال تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ الله لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)[6] ولكن لا نعلم كيفية تعلقهم بها.

وأما احتمال اختصاصها بالعوالم الغيبية ليكون المراد بالارض كل عالم الطبيعة كما احتملناه في بعض الموارد من الكتاب العزيز فهو بعيد عن سياق الآيات كما مرّ آنفا.

ولا بدّ من ملاحظة ما يمكن به ترجيح أحد الاحتمالين وهو أمران:

الأول: أنّ السماوات السبع ــ كما يبدو من الآية الكريمة ــ كلها أجسام مخلوقة من المادة الغازيّة التي عبّر عنها بالدخان، فإنّ قوله (فقضاهنّ سبع سماوات) تكميل لقوله (ثم استوى الى السماء وهي دخان). فلا يراد بها ما يشمل العوالم الغيبية، وبذلك يتأيّد الاحتمال الأوّل.

الا أنّ معنى الدخان غير واضح لنا، فلا يمكن الاعتماد على هذه القرينة بصورة قطعية ومع ذلك فهو الاحتمال الأقوى.

الثاني: قوله تعالى بعد ذلك (وزيّــنّا السماء الدنيا بمصابيح) وكذلك قوله تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ)[7] وقوله (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ..)[8] حيث يظهر من هذه الآيات أنّ كل ما نجده من أجرام فلكية نيّرة او مستنيرة واقعة في السماء الدنيا، اي أقرب سماء الينا، فيكون المراد بالستّ الاخرى العوالم الغيبية. وبذلك يتأيّد الاحتمال الثاني.

ولكنّ الصحيح أنّ هذه الآيات اعتبرت ما في السماء الدنيا زينة لها ولنا، فهي لا تنفي وجود أجرام فلكية وراء ما نشاهده من نجوم وكواكب ولا يصل الينا نورها، فلا تعتبر زينة لنا، بل لا شكّ في أنّ بعض ما اكتشفه البشر ايضا بل أكثره لا يعدّ زينة حيث لا نراها بالعين المجرّدة. فقوله تعالى (وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح) لا يدلّ على أنّ كلّ الأجرام الفلكية من السماء الدنيا، بل الواقع أنّ وراء كل ما نراها من أجرام نيّرة سماوات ومجرّات وأجرام اخرى كثيرة جدّا جدا لا يحصيها الا الله تعالى.

والحاصل أن حصر السماوات السبع في الأجرام الفلكية مما نرى وما لا نرى أمر محتمل كما أنّه يحتمل أن يكون المراد بالسماوات ما يشمل العوالم الغيبية التي ليست من الاجسام وهي مسكن الملائكة، ولكنّ الاحتمال الأوّل أظهر.

وأما عن السؤال الثاني فالظاهر من التحديد بالسبع في مثل هذا المقام هو التحديد الواقعي، فلا يكون كناية عن الكثرة، وان احتمل ذلك في غير هذا المقام. والدليل عليه أنه اعتبر ذلك قضاءا وفصلا، مضافا الى التأكيد على أنها سبعة في مواضع متعدّدة من القرآن ممّا يدلّ على العناية بهذا العدد.

ولكن يبقى السؤال في وجه التحديد بالسبع، فان قلنا بأنّ المراد بها مجموع العوالم الكونية من الطبيعية وغيرها غير كوكب الارض، فيمكن أن يكون المراد بواحدة منها كل ما في هذا الكون الهائل من المجرات، والمراد بالستّ الاخرى العوالم الغيبية.

وان قلنا بأنّ المراد بها الأجرام الفلكية فحسب، فيمكن أن يكون بلحاظ تقسيم كل هذه المجرات الى سبعة. ولا نعلم حتى الآن وجه هذا التقسيم. ولعلّ الانسان يصل في المستقبل الى السرّ في ذلك، فيجد مثلا أنّ هذه المجرات وما تحتوي عليها من أجرام تنقسم الى سبع طبقات مختلفة.  

وأما اليومان فقد مرّ أنّ المراد بهما مرحلتان من الخلق والتكوين، وعليه فان كان المراد بالسماوات الاجرام الفلكية والمجرات فيمكن أن يكون المراد باليومين مرحلة تبدّل الغاز الى سائل ومرحلة التصلّب، كما مرّ في تكوّن الارض او غير ذلك. وإن كان المراد بالسماوات ما يشمل حقائق اُخرى غير مادية فلعل المراد بالمرحلتين مرحلة تكوّن سماء الدنيا ومرحلة تكوّن العوالم العلوية المجرّدة.

كلّ ذلك على سبيل الاحتمال والله تعالى هو العالم بحقائق الامور.

وأوحى في كل سماء أمرها... ذكر المفسرون أنّ المراد بالامر في الآية ما يختص بكلّ سماء من قوانين ونظم، وهذا يناسب التعبير بالوحي. وأمّا ما نقل عن بعضهم من خلق ما تقتضيه الحكمة في كل منها فهو لا يصحّ الا بتأويل الوحي بأن يكون المراد به الايجاد والخلق. وهو بعيد.

ولكن العلامة الطباطبائي رحمه الله تعالى فسّر الآية بأنّ المراد بالامر ما يرسله الله تعالى الى الارض من أوامر تكوينية، حيث إنّها تتنزل من بين السماء كما قال تعالى (الله الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ..)[9] وقال ايضا (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ..)[10] فالسماوات التي هي مساكن الملائكة طرق نزول الاوامر الالهية، وللامر نسبة الى كل سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها.

وما ذكره رحمه الله بعيد عن لفظ الآية، فإنّ الظاهر أنّ الامر الموحى في كل سماء أمر مختص بتلك السماء، وليس من الامر النازل الى الارض. فالظاهر أنّ القول الاول هو الصحيح.

وزيّنّا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا... يبدو من هذه الجملة ــ كما مرّ ــ أنّ كل ما نراه من الكواكب والانجم من مخلوقات السماء الدنيا، اي الاقرب الينا معاشر أهل الارض. ولكنّ ذلك لا ينافي وجود أجرام اخرى في السماء بعيدة عنا لا نراها ولا نستضيء بها ولا تكون لنا زينة.

وعبّر عن النجوم بالمصابيح لإضاءتها لأهل الارض، سواء ما كانت منها نيّرة بذاتها وما استنارت بغيرها. والتعبير يدلّ على أنّ تزيين الطبيعة أمر مقصود في أصل الخلق، وأنّ الله تعالى خلق الكواكب والأنجم لتزيين الطبيعة.

ويقال: إنّ رؤية الكواكب بهذه الصورة الجميلة التي نراها انما هي بسبب المجال الجويّ المحيط بالارض ممّا يدلّ على أنّ الله تعالى هيّأ الوسائل الكفيلة بتحقّق هذا التزيين وإضفاء هذه الصورة الجميلة للكون.

وقوله (وحفظا) يمكن ان يكون مفعولا مطلقا لفعل مقدّر اي وحفظناها حفظا، او بتضمين قوله (زيّنّـا) معنى جعلنا اي وجعلناها حفظا. وقد مرّ بعض الكلام حول كون النجوم حفظا للسماء من الشياطين في سورة الصافّات.

ذلك تقدير العزيز العليم... فهو الذي قدّر وقضى هذا الكون بما فيه. وهو عزيز لا يغلب على امره، وعليم بالاسباب والمسببات والمصالح والمفاسد وما ينبغي ان يكون وما لا ينبغي.

 

[1] النازعات: 27_ 32

[2] القلم: 13

[3] الاسراء: 44

[4] النور: 41

[5] البقرة: 29

[6] النجم: 26

[7] الصافات: 6

[8] الملك: 5

[9] الطلاق: 12

[10] السجدة: 5