بسم اللّه الرحمن الرحيم
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّه الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
السورة من السور المكية. وكذلك سائر الحواميم كما سميت بذلك، وسميت ايضا بآل حم وبذوات حم لأنّها تبدأ بـ (حم). وهي سبع سور أوّلها في ترتيب المصحف هذه السورة، وهي تتعرض كسائر السور المكية لاصول العقيدة.
وتسمّى هذه بسورة (غافر) لذكر هذه الصفة في أوّلها، وبسورة المؤمن ايضا لأنّها تمتاز بذكر قصة مؤمن آل فرعون فيها، ونقل مقتطفات من كلامه، وشرح موضعه القويّ في الايمان والعقيدة بالرغم من احتفاظه بأواصر العلاقة بقومه.
ولعلّ الغرض من ذكر قصته وكلامه ترغيب أكابر المؤمنين ممن لهم صلة بالكفار ويمكنهم حماية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بذلك نظير ابي طالب عليه السلام في ذلك الظرف العصيب في مكة على الاقتداء به، ولذلك ورد في روايات اهل البيت عليهم السلام انّ مثل ابي طالب كمثل مؤمن آل فرعون.
حم * تنزيل الكتاب من اللّه العزيز العليم... (حم) من الحروف المقطعة. وقد مر الكلام فيها، كما مر في تفسير سورة يس، كما مرّ في تفسير سورة الزمر بيان اعراب قوله تعالى (تنزيل الكتاب...) والسرّ في توصيفه تعالى بالعزيز.
ويمكن ان يكون العليم هنا بمنزلة الحكيم هناك وانما استبدل به تفننا كما قيل، وقلنا هناك انّ اختيار صفة الحكيم يناسب الردّ على الاسئلة التي تحاك حول الكتاب من السبب في انتخاب الرسول والزمان والمكان واللغة وغير ذلك، فانّ الجواب عن كلّ ذلك واحد وهو أنّ ذلك مقتضى حكمته تعالى ولا يعرف وجه الحكمة فيه الا هو. ولعلّ اختيار العليم هنا باعتبار انه يعلم ما يحتاج اليه الانسان للوصول الى الغاية التي خلق من اجلها فينزّل الكتاب على هذا الاساس.
وفي الميزان أنّ السورة لما كانت تتكلم حول جحد الجاحدين ومجادلتهم في آيات الله بالباطل ففي الوصفين إشارة إلى أن هذا الكتاب النازل عليهم تنزيل ممن هو عزيز على الإطلاق لا يغلبه غالب حتى يخاف على ما نزله من استعلائهم واستكبارهم بحسب أوهامهم، عليم على الإطلاق لا يدخل علمه جهل وضلال فلا يقاوم جدالهم بالباطل ما نزله من الحق وبينه بحججه الباهرة.
والصحيح أنّ الوجه لا يتحدّد في هذا او ذاك. وما يقال انما هو وجه من وجوه الحكمة في انتخاب هذا الوصف، وكذلك ما يقال في غيره من موارد وجه الحكمة في هذا الكتاب العظيم، فلا أحد يمكنه أن يحيط بكل أسراره والحكم الكامنة فيه .
غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول... اربع صفات من صفات اللّه الحسنى، لعل الوجه في ذكرها تناسبها لما تشتمل عليه السورة كما قيل، ويمكن ان يكون الوجه هو ذكر مقدمة مناسبة للتنديد بما يعمله المشركون من عبادتهم لغير اللّه تعالى، فيكون ذكر هذه الصفات كالمقدمة للتعقيب بقوله تعالى لا اله الا هو، وهي الجملة الفاصلة بين الرسالة التي جاء بها الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ومعتقدات المشركين.
وذكر هذه الصفات يجعل الانسان بين الخوف والرجاء من ربّه، ويحقق الداعي في نفسه لعبادته وحده، ومن جهة اخرى يفيد معرفة المعبود نوعا مّا ليكون العابد والمتوسّل الى ربّه على بصيرة من امره، فيعلم أنّ معبوده يغفر الذنب فلا يتمادى في البعد عنه اذا أذنب والانسان لا يخلو من ذنب، ويعلم ايضا أنّه يقبل التوبة فيعود اليه كلما بعد عنه لانجذابه الى تيّارات اخرى، ويعلم ايضا أنّه شديد العقاب فلا يستهين بأوامره ونواهيه، وأنّه ذو الطول ونعمه مستمرة عليه عصى ام اطاع فلا يتصور أنّ استمرار النعمة دليل على رضا ربه بعمله كما ظنّ المشركون.
وهذا بخلاف من يعبد إلها لا علم له ولا حكمة، ولا يمكنه التعبير عن ما يرضيه وما يسخطه، فإن العابد والمتوسل الى مثل هذه الآلهة المزعومة يبقى حائرا في تصرفه تجاهها.
ولعل الوجه في العطف بين الوصفين (غافر الذنب وقابل التوب) دون غيرهما هو أنّهما معا يشكّلان جهة واحدة من أوصافه تعالى وهي تعامله مع المذنبين. وفي الجمع بينهما تنبيه على أنّه قد يغفر الذنوب حتى بدون توبة. والغفران يعمّ الدنيا والآخرة فربما يغفر اللّه الذنب في الدنيا فلا يتعقّبه ما يستحقه من العذاب، كما قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى: 30.
وقد اُضيف (غافر) الى الذنب بقول مطلق فهو يغفر كل ذنب، الا أنّه اهمل موجبات الغفران فلعل من الذنوب ما يغفرها لعمل يعمله الانسان حتى لو لم يكن متقربا به اليه، ومنها ما يغفره بشفاعة شافع، ومنها ما لا يغفر الا بالتوبة كالشرك.
والتوب يمكن أن يكون مصدرا، ويمكن أن يكون جمعا. وهذا ايضا عامّ. ويظهر من قوله تعالى (إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) الزمر: 53، أنّ التوبة تقبل في جميع الذنوب من دون استثناء. ولكنّ ذلك لا ينافي اشتراط القبول بامور فالذنب اذا تعلّق بأموال الناس او حقوقهم لا تصحّ التوبة منه الا بأدائها او استرضائهم مع الامكان، واذا تعلّق بما يترتب عليه قضاء او كفّارة او نحوهما فلا تتمّ التوبة الا به مع الامكان.
وللتّوبة مقوّمات مذكورة في الفقه، وحقيقتها الندم وهو أمر قلبيّ ولا يتمّ ذلك الا بترك الذّنب فلا تصحّ التوبة من دون إقلاع عنه. وفي الحديث أنّ من يتوب وهو مستمرّ على ذنبه فهو مستهزئ وليس تائبا. ويعتبر فيها او في ترتّب الاثر عليها العزم على ترك العود اليها، ويعتبر ــ على رأي ــ إصلاح ما أفسده مهما أمكن، واعتبر بعضهم فيه أن يتوب لفظا بالاستغفار ونحوه ولا يكتفي بالندم القلبي، ولم يعتبره المحقّقون. ولكن لا شكّ انه لا يكفي الاستغفار اللفظيّ وحده.
وهناك روايات اعتبر فيها اُمور اخرى في التوبة منها ما في نهج البلاغة: (قال عليه السلام لِقَائِلٍ قَالَ بِحَضْرَتِهِ أَسْتَغْفِرُ اللّه: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الِاسْتِغْفَارُ، الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى، وَالثَّانِي الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، وَالثَّالِثُ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللّه أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ حَتَّى تُلْصِقَ الْجِلْدَ بِالْعَظْمِ وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللّه).
ولكنّ الظاهر أنّ الأخيرين من شروط الكمال. ومعنى ذلك أنّ الانسان اذا اكتفى بأن يغفر له الذنب ولا يعاقب عليه فلا حاجة الى مثل هذه الامور وأمّا اذا أهمّه ما لحقه من الخسارة المعنوية بذنبه، وأراد أن يعود الى موضع يمكنه أن يرقى في مدارج الكمال، ويحصل على القرب المعنويّ من ربّه قدر المستطاع فلا يكفيه الندم او الاستغفار باللفظ، بل لا بدّ من مراعاة كل ما ورد من شروط الكمال.
ثم إنّ التوبة ليست دائما عن ذنب وإثم بالمعنى المعروف، فإنّ الانبياء والاولياء يتوبون اكثر من غيرهم، ولا يتوبون عن ذنب، بل توبتهم هو الرجوع الى اللّه تعالى بعد أيّ توجه الى غيره. وربّما يعدّ بعض الامور ذنبا للمقرّبين وهو لغيرهم ليس ذنبا، بل ربما يعدّ من الحسنات، نظير عباداتنا فإنّ هذه الصلاة بالنسبة لنا حسنة، ولو فرض أنّ المعصوم مع ما أنعم اللّه عليه يصلي بمثل هذه الصلاة لاعتبر ذلك ذنبا له.
وبعد توصيفه تعالى بالمغفرة والتوبة مما يبعث الامل والرجاء في نفوس العباد المذنبين اتبعه بكونه شديد العقاب، لئلا يغترّوا بذلك، وليعلموا أنّ الذنب له تبعاته. والعقاب ما يأتي في عقب الشيء اي بعده، فيشمل كل جزاء حتى الثواب ولكنه اختص في الاستعمال بالعذاب، ومثله العقوبة والمعاقبة.
وقد أكّد في القرآن الكريم على أنّ اللّه تعالى شديد العقاب، ولا يختصّ ذلك بعقاب الآخرة بل عقابه في الدنيا ايضا شديد كما قال تعالى: (كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ) آل عمران: 11. والشدّة تقابل الخفّة، وهما أمران نسبيّان. وفي معنى الشدّة احتمالان:
الاول: أن يكون المراد شدّته بالقياس الى العقوبات التي يخترعها البشر. والوجه في ذلك واضح، فإنّ اللّه تعالى يعلم طبيعة الانسان وخصائص كل فرد ويعلم أشدّ ما يؤذيه. وأمّا غيره فيعذّب بما يعتبره إيذاءا وربّما لا يكون بالنسبة اليه ايذاءا شديدا.
وعذاب اللّه في الدنيا اذا كان عذاب استئصال فشدته واضحة لأنّه لا يبقي أحدا، وربما لا يبقي الا آثارا للاعتبار. وكذا العقوبات الفرديّة التي تنزل على الافراد ليس كالعقاب البشري، فاللّه تعالى خسف بقارون وبداره الارض، وأغرق فرعون وجنوده في اليمّ، ونحن نجد في حياتنا شدة عذابه تعالى.
وأمّا في الآخرة فلا يعذب عذابه احد، ولا يوثق وثاقه احد. وقد ذكرنا مرارا أنّ النار ليس الا تعبيرا لتقريب ذلك العذاب العظيم، وإلّا فهي ليست كنار الدنيا فإنّها تحرق الارواح قبل الاجسام، قال تعالى: (نَارُ اللّه الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) الهمزة: 6 ــ 7، وعذاب الانسان ربما يقوّي الروح بدلا من تعذيبه.
والاحتمال الثاني: أن يكون المراد شدّة العقاب في نفسه، اي بالقياس الى تحمّل الانسان، فيكون الغرض من التنبيه أن لا يغترّ الانسان برحمة اللّه ورأفته، وأنّه لا حاجة له الى عقوبتنا، وأنّه ليس كالانسان يحمل حقدا فينتقم شفاءا لما في صدره من ضغينة كما نسمعه من الناس، فإنّ اللّه تعالى وان كان كذلك إلا انه مع ذلك شديد العقاب، اي إنّ عقابه لا يتحمله البشر، وانما جعل العقاب لحكمة مع أنّ عقابه ربّما يكون ردّ فعل طبيعي، او انعكاسا لنفس العمل فلا ينافي الرحمة والرأفة.
والوصف الرابع ذو الطول، والطول هو الفضل والعطاء والغنى والقدرة. والمناسب هنا من المعاني الفضل والعطاء. والظاهر انّه لا يطلق على كلّ نعمة بل على النعمة المستمرّة، فهي المناسبة للتعبير بالطول حيث إنّ هذه المادة تدلّ على كلّ ما فيه طول وامتداد، وعليه فالمراد أنّ نعمه مستمرة على الخلق.
لا اله الا هو... هذه كالنتيجة لما سبق كما مرّ فالمعبود هو الذي يخاف ويرجى.
اليه المصير... المصير: المنتهى. ونهاية الخلق هي الرجوع اليه فلا يغرّنّ الانسان هذه الحياة الدنيا وما يتمتع فيها عاجلا، ولا يغرّنّه تأخير العقوبة على آثامه وجرائمه، فهو لا ينافي كونه شديد العـقاب (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) ابراهيم: 42، وكذلك لا ييأس المؤمنون من إنزال اللّه العقوبة على الظالمين كما سيأتي في الآية التالية.