مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

 

هو الذي يريكم آياته... يعود السياق يذكّر الانسان بآيات ربّه ليخاف مصيره يوم القيامة. والظاهر انّ المراد بالآيات الآيات الكونيّة التي تدلّ على حكمة اللّه سبحانه وقدرته وربوبيته، والكون مليء بآياته الباهرة ولكنّ الناس يمرّون عليها غافلين، واذا توجّهوا وتعمّقوا فلا يتجاوزون ظاهر ما يجدون فيها من دقّة وحكمة، ولا يتعمّقون فيها ليجدوا فيها الدلالة على الخالق القدير الحكيم.

وينزل لكم من السماء رزقا... يمكن ان يراد به خصوص المطر بقرينة قوله تعالى (وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا..) اجاثية: 5،  يقول بعض المفسرين: انّ تسمية المطر بالرزق من جهة انه سبب للرزق. وليس كذلك، فإنّ المطر بنفسه من أعظم الرزق، ولولاه لم يبق إنسان او حيوان حيّا على وجه الارض.

ويمكن أن يراد به كل ما يرزق اللّه به الانسان، ويراد بالسماء عالم الغيب، او عالم الامر. وكل ما في الارض من نعمة فهي نازلة من السماء بهذا المعنى، كما قال تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ.. ) الزمر: 6.

وما يتذكّر إلّا من ينيب... الانابة: الرجوع. والمراد بهذه الجملة أنّ الآيات الكونية بما فيها الرزق من السماء تعيد الانسان الى فطرته وتذكّره بربه، ولكن هناك من البشر من لا يحب العود والرجوع الى ربّه، فقد اتّخذ الهه هواه، وهو معجب بشأنه مع أهوائه وشهواته، فلا يتأثر بهذه الآيات، ولا يتذكّر ما تمليه عليه الفطرة. ونحن نجد كثيرا من البشر يتعمّقون في الكون، ويرون من آيات الحكمة والقدرة ما لا يراه غيرهم، ولكنّهم يزيدون بهذا التعمّق بعدا عن الله تعالى. وليس ذلك إلّا لإخلادهم الى الارض، وعدم انابتهم، ورجوعهم الى الفطرة المستقيمة التي تدعو الى الله تعالى.

وهذا هو المراد بالآية الكريمة، فالتذكّر خاصّ بالمنيبين الذين يرجعون الى فطرتهم، كلّما توغّلوا في شؤون الدنيا، ولا يستمرّون في الطريق الذي ترسمه لهم أهواؤهم، وحبّهم لملذّات الحياة الزائلة.    

فادعوا اللّه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون... الآيات للجميع، كما أنّ الرزق للجميع ايضا، ولكنّ المتذكر المنيب هو المخاطب بهذا الامر، فاذا رأيتم آيات اللّه وما رزقكم من السماء فادعوا اللّه مخلصين له الدين.

والدين كما أسلفنا في تفسير سورة الزمر هو العبادة، واصلها التذلل، فالمعنى لا تتذللوا لغيره، ولا تعبدوا غيره، فالانسان أكرم على اللّه من أن يعبد غير اللّه تعالى. ولا شكّ أنّ هذا التوحيد والاخلاص لا يعجب الكافرين باللّه المنكرين لنعمه، ولكن لا تهتمّوا بهم ولا تداهنوهم في هذا الامر، فالمداهنة والمجاملة لا مجال لهما في العقيدة والتوحيد.  

رفيع الدرجات ذو العرش... اي هو رفيع الدرجات. والضمير يعود الى الله تعالى، اي درجاته رفيعة. وهو كقوله تعالى (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ) المعارج: 3.

والظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن علوّ مقامه، وعظمة شأنه، وبُعده عن أن تناله الأوهام، وهو مع ذلك قريب من كل شيء، ومحيط بكل شيء، فالبعد هنا من جانب واحد، فإنّ الانسان لا يمكنه أن يرتقي هذه الدرجات، ويصل اليه تعالى وصول معرفة وعلم الا بالتقوى،واتّباع شريعة السماء. كما أنّه تعالى محتجب عن خلقه، والحجاب ايضا من جانب واحد، ولا يخرق هذه الحجب في الحياة الدنيا الا التقوى. فلعلّ معنى رفيع الدرجات ــ والله العالم ــ أنّ سلّم الارتقاء اليه تعالى درجاته رفيعة أرفع من أن يرتقي بها الانسان بطبعه وهو مع ذلك ممكن للمخلصين من عباده كما هو حاصل للملائكة المقربين.

واللّه تعالى للطفه بالانسان يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده، فيكون هو الوسيط بينه وبين خلقه، وبه يرتفع بعض الحجب فيصل الانسان الى معدن العظمة. كما أنّه ينذرهم يوم التلاق، وهو اليوم الذي ترتفع فيه الحجب، ويلاقي الانسان ربّه.

هذا وقد مرّ الكلام حول العرش، وأنّ المراد به ــ على الظاهر ــ جهة الحاكميّة في الكون. ولكن يمكن أن يكون هنا بمعنى العظمة وعلوّ المقام، ورفعته من أن تناله الأوهام.   

يلقي الروح من أمره... المراد به الوحي كما قال تعالى (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) النحل: 2، وقال ايضا (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا...) الشورى: 52 ، والتعبير عنه بالروح لعله من جهة أنّ به الحياة المعنوية للانسان كما قال تعالى (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..) الانعام: 122 وقال ايضا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ...) الانفال: 24.

ومن في قوله (من أمره) بيانية فالنتيجة أنّ ما به الحياة هو نفس الاوامر الالهية والشرائع التي توحى الى الرسل عليهم السلام.

على من يشاء من عباده... فهو بمشيئته يختار الرسل، ولكن مشيئته تتبع حكمته فهو لا ينتخبهم جزافا، بل يختارهم من بين أكرم الاصول وأفضل البشر خلقا وخلقا، ويرعاهم بعينه ويؤدبهم بتأديبه وعنايته الخاصّة. قال تعالى خطابا لموسى عليه السلام: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) وقال: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) طه: 39 ــ 41.

لينذر يوم التلاق... اي لينذر الرسول او لينذر اللّه بواسطته. والتلاق مخفف التلاقي. ويوم التلاقي هو يوم القيامة حيث ترتفع الحجب ويتلاقى البشر كلهم مع بعض لا يمنع ذلك كثرتهم، وتتلاقى كل الاجيال، ويتلاقى الظالم والمظلوم، ويتلاقى الرسل واممهم، والائمة والمامومين. واما لقاء اللّه تعالى فلا ينبغي ان يكون مقصودا به لان التلاقي انما يكون بين اثنين كل منهما يلاقي الاخر ولا يصدق على لقائه تعالى، وكذلك لقاء الانسان اعماله.     

يوم هم بارزون لا يخفى على اللّه منهم شيء... اي يوم تبرز فيه كل الحقائق، وتظهر كل ما يخفيه الانسان، وكل ما يستخفي منه، وكل ما ينطوي عليه ضميره الحاضر والغائب.

واللّه تعالى لا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء سواء في تلك النشأة او قبلها، ولكن البشر يرون انفسهم مستخفين من اللّه، قال تعالى في سورة فصلت/ 22 ــ 23: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ). وفي ذلك اليوم يجدون انفسهم عراة بتمام معنى الكلمة، لا يحجبهم شيء حتى عن سائر البشر فكيف بالله تعالى والحاصل أن الذي يظهر للانسان ذلك اليوم هو أنه لا يمكنه التخفي من الله تعالى.

لمن الملك اليوم لله الواحد القهار... هنالك ينادى: لمن الملك اليوم؟ والجواب: (للّه الواحد القهار) من ينادي ومن يجيب؟ هل هو نداء الملك الواحد القهار سؤالا وجوابا؟ ام هناك ملائكة يسألون كما قيل، فيجيبهم اهل المحشر جميعا؟ ام ليس هناك سائل ومجيب وانما هذا سؤال يطرح نفسه في ذلك الجو الرهيب، وقد انقشعت الاغشية وبدا كل شيء على حقيقته. و الجواب ايضا يعرفه الكل، و يعترف به الكل، لا ملك اليوم لاحد الا للّه.

والملك دائما وأبدا ليس الّا له وحده لا يشاركه أحد، الّا أنّه أعار الانسان ملكا في هذه النشأة ليختبره، وهناك لا يملك أحد شيئا الا اللّه الواحد القهّار. والتوصيف بالواحد ليس بمعنى وحدة العدد بل بمعنى أنّه تعالى واحد في جميع شؤونه لا يشاركه أحد ولا يماثله شيء، وهو القهّار لكل شيء فكل شيء مقهور ذليل لأمره، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، تعالى قدره، وعظم شأنه.    

اليوم تجزى كل نفس بما كسبت... تقديم كلمة (اليوم) يفيد أنّ هذه ميزة هذا اليوم فحسب، فلا يلقى أيّ انسان جزاء عمله الحسن والسيّء وفاقا وكما هو حقّه في ايّ مرحلة من مراحل الكون غير هذه المرحلة، كما لا يلقاه في ايّ مجتمع بشري وان اتّسم بالعدل، بل قلّ ما يعتبر الحسن في المجتمع حسنا والسيء سيئا، فما أكثر ما يعتبره الناس حسنا ويفتخرون به ويعتزّون ملء افواههم وهو من أقبح القبائح؟!

ألا ترى كيف تفتخر الشعوب والامم بما بقي من آثار الملوك وأبنيتها، ويدعون الناس لمشاهدة عظمة ملوكها القدماء عن طريق زيارة بقايا قصورهم، مع أنّ ذلك انما يحكي عن ظلمهم وعدوانهم على الشعوب؟! فهذا مثل واضح والامثال كثيرة.

ولكن الواقع ينجلي بوضوح في ذلك اليوم، وتجزى كل نفس بما كسبت. والجزاء هناك ليس وضعيا حتى يشعر احد بالظلم، بل هو نفس عمل الانسان وكسبه.

ولا يستبعد الخلود في العذاب، فإنّ ما كسبه الانسان يبقى ويدوم حتى في هذه الحياة، فالذي يقتل نفسا وان ارتكب ذلك في لحظة واحدة الا أنّ الجريمة تستمرّ، والجرح لا يندمل، حتى لو قوبل بعقوبة او تعويض، لا عند المظلوم فحسب، بل حتى عند الظالم، فإنّ المجرم اذا رجع الى وجدانه و ضميره الحيّ، وجد الجريمة حيّة مستمرّة، ولذلك تجده يتهرّب من تصوّرها، لانّ الصورة تؤذيه وتعذّبه، حتى انّه ربما بلغ به الامر الى الانتحار، فكيف به اذا وجد الجريمة بنفسها حيّة متجدّدة، وليست صورة او فلما او تصورا في النفس، بل هي بعينها ما كسبت يداه الآثمتان؟!

فيصدق ذلك اليوم، وذلك اليوم فقط:

لا ظلم اليوم... فالظلم لا مجال له في هذا الجوّ المضيء، فانّ الظلم من الظلام، وذلك اليوم تشرق الارض بنور ربها، فلا يبقى شيء الا وهو مشرق بنور ربه، وواضح للجميع .

انّ اللّه سريع الحساب... لعل الوجه في هذا التعليل أنّ بطء الحساب يستوجب نوعا من الظلم، وهو بقاء الانسان حائرا لا يدري ما هو مصيره. وهذا ظلم مستمرّ في المحاكم العرفية في مجتمعاتنا، وهو ظلم على المدعي والمنكر معا، وظلم على المجرم والبريء، وظلم على الفرد والمجتمع. و لكن في ذلك اليوم ما ان يحضر الانسان محكمة العدل الالهية حتى يجد عمله حاضرا، وهو بنفسه جزاؤه فياله من سرعة في الحساب، وياله من سرعة في الجزاء، فالتعليل بذلك لعله للاشارة الى ان الظلم لا يتحقق حتى بالتأخير في المحاسبة.

وهو في نفس الوقت يردّ بذلك على بعض توهّمات من يوسوس لهم شياطين الجن والانس بانّ اللّه تعالى كيف يحاسب هذه الاجيال البشرية المتلاحقة يوم يجمعهم؟!فالجواب: إنّ الله سريع الحساب، فعمل كل أحد حاضر (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا..) الكهف: 49، وشهود كل أحد معه (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) النور: 24، وجزاء كل أحد معه (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الطور: 16.

وأنذرهم يوم الآزفة... يوم الآزفة أي يوم القيامة. من أزف أزَفا واُزوفا اي قرب، قال تعالى  (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) الانبياء: 1.  

والمعروف بين المفسرين أنّ الآزفة في هذه الآية صفة لمحذوف اي يوم الساعة الآزفة اي القريبة. والقرب قد يكون بمعنى قطعية الوقوع، وقد يكون من جهة انه قريب بالمقاييس الالهية، او من جهة أنّ الزمان انما نلاحظه نحن حسب الاطار الذي نعيشه فاذا خرجنا من إطار الطبيعة فلا زمان ولا مكان.

ويمكن أن تكون مصدرا نظير العافية والعاقبة، فهو مثل قوله تعالى يوم الحسرة، ويوم التلاق، ويوم التناد، ويوم التغابن، ويوم الجمع، ويوم الفصل، ويوم الدين. فلعل المراد هنا أنّه يوم القرب، إمّا بمعنى تقارب الناس واجتماعهم، او قربهم الى كل شيء من حيث الادراك، او الى الجزاء، او الى النار.

ويمكن أن يكون بمعنى الضيق، فانه ايضا من معاني الازوف، وأصله واحد لأنّ الضيق ملازم للتقارب. وقيل انه توصيف ليوم الموت، وهو لا يناسب الجملة التالية.

اذ القلوب لدى الحناجر كاظمين... بيان لميزة من ميزات ذلك اليوم، وهو الخوف والاضطراب الشديد. وهو أنسب بتفسيره بيوم الموت لقوله تعالى (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) الواقعة: 83، ومهما كان فتوصيف الاضطراب ببلوغ القلوب الى الحناجر كأنها تريد الخروج ورد ايضا في قوله تعالى في سورة الاحزاب/10 (وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ..) في بيان خوف المسلمين يوم الاحزاب. وهو كناية عن شدة الخوف والهلع.

والكظم في الاصل هو الامساك والحبس، ومنه كظم الغيظ، والمراد هنا بيان حالهم في مواجهة مخاوف يوم القيامة او الموت، وهو أنّهم حابسون أنفاسهم خوفا، او أنهم يحبسون القلوب التي بلغت الحناجر لئلا تخرج. وقيل انهم يحبسون الهمّ والغمّ في نفوسهم.

ما للظالمين من حميم... الحميم هو القريب او الصديق المشفق، اُخذ من الحمم بمعنى الحرارة، وكثيرا ما يستعار بالحرارة لبيان شدّة العطف والحب. والمراد أنّ الظالمين يفقدون يوم القيامة كلّ العلاقات الاسرية والصداقات التي كانت بينهم في الحياة الدنيا قال تعالى: (فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) المؤمنون: 101، وقال (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الزخرف: 67، فلا احد يفكر في مصير ابنه او ابيه او امه او اخيه قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عبس: 34 ــ 37، بل لو استطاع أيّ واحد منهم ان يضحّي بكل أعزّائه الذين كان يضحّي بنفسه من أجلهم لهان عليه ذلك، قال تعالى: (وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ) المعارج: 10 ــ 14.

وهذا من أغرب التغيّرات في ذلك العالم، حيث يدلّ على أنّ الأهوال هناك أعظم بكثير من الموت، فالانسان في هذه الحياة يضحّي بنفسه وماله في سبيل أولاده وعرضه وقومه. وهناك يضحّي بكل هؤلاء بل كلّ ما في الارض في سبيل إنقاذ نفسه من تلك الاهوال، وليس هذا من أنانيّته هناك بل إنّ عذاب اللّه شديد.

ولا شفيع يطاع... ليس معناه أنّ لهم شفيعا لا يطاع، اذ لا يؤذن لشفعائهم واوليائهم بالشفاعة فلا شفعاء لهم اصلا، فالمراد نفي الصفة والموصوف. وفائدة الوصف نفي كل توهّم وامنيّة، لانّ الظالمين ربما يمنّون انفسهم بشفعائهم، فيقال جدلا انه لو فرض وجود شفعاء فانّهم لا يطاعون، اي لا يسمع قولهم ولا تقبل شفاعتهم. وقد ورد نفي قبول الشفاعة في عدّة موارد مع أنّ اصل الشفاعة منتفية بذاتها. والآية نظير قوله تعالى (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) الشعراء: 100 ــ 101.

يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور... الخائنة صفة لموصوف مقدر اي يعلم النظرات الخائنة من الاعين، او هي مصدر كالعافية اي يعلم خيانة الاعين. والمراد النظرات المسترقة مما يخفيه الناظر عن الناس سواء كان الى المحرمات او غيرها، او ما يشار بالأعين والحواجب بحيث لا يراه الآخرون.

وفي الدر المنثور في ذيل الآية (أخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد رضي الله عنه قال لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس الا أربعة نفر وامرأتين وقال اقتلوهم وان وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبدالله بن سعد بن أبى سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به فقال يا رسول الله بايع عبدالله فرفع رأسه فنظر اليه ثلاثا كل ذلك يأبى يبايعه ثم بايعه ثم أقبل على أصحابه فقال اما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله فقالوا ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومات إلينا بعينك؟ قال انه لا ينبغي لنبي ان يكون له خائنة الأعين).

والآية تعود الى ذكر صفات اللّه تعالى في قوله (رفيع الدرجات..) وما توسط بينهما جملات معترضة بمناسبة ذكر يوم التلاق، فالمعنى: ادعوا اللّه مخلصين له الدين فهو رفيع الدرجات... وهو يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور، فاحذروه ولا تحذروا غيره في جميع الاحوال، واحذروه في كل حركة، وكل لمحة عين، وكل ما تخفيه صدوركم من دوافع وأمانيّ، وما تشركون به في اعمالكم واعتقادكم، فانه لا يقبل الا من المخلصين.

واللّه يقضي بالحقّ والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إنّ اللّه هو السميع البصير... القضاء هو الحكم. فيمكن أن يكون المراد به الحكم التكويني، أي إنّه بقضائه تعالى قامت السماوات والارض، وقضاؤه الحق. والحقّ: الامر الثابت فالكون مبنيّ على السنن الالهيّة الثابتة التي لا تتغيّر ولا يطرأ عليها البطلان.

وأمّا الّذين تدعون من دونه فلا حول لهم ولا قوة الا ما آتاهم اللّه تعالى، فلا تدعوا أحدا غيره، فيكون تعليلا للزوم الاخلاص في الدعاء. والجملة الاخيرة ايضا تعليل له لأنّه يسمع كل دعوة، ويبصر كل ما يحتاج اليه الداعي.

ويمكن ان يراد به القضاء يوم القيامة، فيكون تعليلا للزوم الاخلاص ايضا، حيث إنّ الحكم ليس الّا له، وهو يقضي بالحق. والذين تدعون من دونه حتى لو كانوا عقلاء كالملائكة والبشر فانهم لا يقضون بشيء، وذلك لان القضاء بالحق لا يمكن الا للسميع البصير، ولا احد يسمع كل صوت ويرى كل شيء الا اللّه تعالى.

والظاهر انّ هناك امورا تصدر من الانسان تخفى حتى على الملائكة الموكّلين به، كما ورد في دعاء كميل من قول امير المؤمنين عليه السلام (وكنتَ انت الرقيب عليّ من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم) ولذلك أتى بما يفيد الحصر (هو السميع البصير).