وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه... كون الرجل من آل فرعون يبيّن ما كان له مكانة اجتماعية مرموقة، فهو لم يكن مجرّد رجل من الحاشية والمقرّبين الى فرعون بل كان من أهله وخاصّته. والظاهر أنّه الوحيد الذي آمن من هذا القوم، وكان يكتم إيمانه إمّا خوفا منهم، او ليتمكن من الدفاع عن موسى عليه السلام كما يتبيّن من كلامه المحكي هنا، فهو لا يظهر لهم ولاءه للرسول، ولا يظهر استخفافا بهم، ويحاول إقناعهم بعدم التصدّي لقتله.
وهكذا يلطف اللّه سبحانه لما يشاء، فيبعث من قصر فرعون من يدافع عن موسى. ولا غرابة فقد بعث قبل ذلك امرأته للابقاء عليه وهو طفل رضيع.
أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله... بدأ المؤمن كلامه باستنكار القتل لرجل يقول ربّي اللّه. والاستفهام انكاري. و(ان يقول) مجرور بلام التعليل اي أتقتلونه بسبب هذا القول؟! والظاهر من السياق أنه يخاطب بذلك فرعون نفسه حيث حكاه الله تعالى بعد تهديد فرعون بقتل موسى عليه السلام، ولعلّه خاطبه بذلك في نفس المجلس، كما أنّ استعاذته عليه السلام ايضا يحتمل ذلك كما مرّ.
والظاهر أنه بهذا الاستنكار يبدأ بإظهار ايمانه تدريجا فهو يعترض أولا على محاولة قتله عليه السلام بأن هذه الدعوى اي ربوبية الله تعالى لا تبرّر القتل حتى لو كانت خاطئة بنظركم وثانيا أنها دعوى مدعومة بالبينات والادلة القاطعة فيجب أن تؤمنوا به.
وربما يكون مبنى الاستنكار أنّهم كانوا يعتقدون باللّه تعالى، وإن كانوا كسائر الوثنيّين يعبدون الاصنام ونحوها، فلعلهم لم يكونوا يعتقدون أنّ اللّه هو ربّ العالمين، ولكنّهم يرون أنّه خالق السماوات والارض وربّ الارباب.
وهو لا يركّز على الجانب السلبي من دعوة موسى عليه السلام وهو نفي سائر الأرباب لئلّا يثير حفيظتهم، وإنّما يركّز على الجانب الإيجابي وهو أنّ الربّ هو اللّه تعالى، وهو ربّ عند الوثنية ــ كما هو المفروض ــ الا أنّهم يعتقدون أنّ الربّ المؤثر في كل جانب من جوانب الكون ربّ آخر، فلا مانع من أن يعتقد أحد أنّ ربّه بالخصوص هو اللّه تعالى. ولذلك اتى بضمير المتكلم المفرد (ربّي الله).
وهذا لا ينافي أنهم ما كانوا يعتقدون الوهية الله تعالى كما قال فرعون (لعلي اطّلع الى اله موسى واني لاظنه من الكاذبين) بل يرون الالوهية لاصنامهم كما قالوا لفرعون (ويذرك وآلهتك) فان الالوهية بمعنى استحقاق العبادة تختص بمن يؤثر في الكون والارباب المتفرقون هم المؤثرون في الكون حسب معتقد الوثنية.
وقد جاءكم بالبيّنات من ربّكم... جملة حالية تبيّن مدى فظاعة محاولة القتل، لأنّ الرجل قد جاءكم بالبينات، والادلة الواضحة، والحجج الدامغة، فإن كان مبطلا فردّوا أدلته، ولكنّهم لا يستطيعون لأنّها بيّنات اي واضحات او موضحات للحقائق.
وأكّد أنّها بينات من قبل ربّكم. وهذا من لطيف المحاولة في التأثير التدريجي فاعتبر اللّه تعالى ربّ موسى أوّلا، ثم لمّا مهّد السبيل عبّر عنه بانّه ربّكم، وأنّ ما جاء به من البيّنات إنّما هو من قبل ربّكم، فهو مؤثّر في تربيتكم وبلوغكم الكمال المنشود، وبذلك اعترف برسالته تلويحا.
وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم... استدلال جدلي للمنع من التعرض لقتله عليه السلام، وهو أنّ الرجل يدّعي أنّه مرسل من ربّه، وأنّ اللّه يرسل عليكم أشدّ العذاب إن لم تستجيبوا لطلبه، وأقلّه الإفراج عن بني اسرائيل ليتمكّنوا من مواصلة مسيرة الرسالة الالهيّة على الارض، وبثّ معارف السماء، وإتمام الحجة على الخلق، فالخطر ــ على أقلّ تقدير ــ محتمل، وهو خطر عظيم، وكيف يمكن للبشر ان يقاوم العذاب الالهي؟!
فان كان الرجل كاذبا فاستجابة دعوته لا تضرّكم شيئا بل هو الذي يتضرّر بكذبه، فانّ الكذب ــ مهما كان ــ ينجلي عنه الغموض ويفتضح امر الكاذب في النهاية، او أنّه يتضرر من جهة أنّ اللّه تعالى لا يهديه الى سبل النجاح، كما سيأتي بيانه.
وأما الاحتمال الآخر فهو ينذر بخطر كبير لا يمكن الاستهانة به، وأقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ان لم يصبكم كله، وبعضه ايضا لا يمكن تحمّله.
إنّ الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب... ختم جملته بكلام ينبئ عن إيمانه العميق باللّه تعالى، وأنّه هو الهادي وهو المضلّ، وأنّه لا يهدي الى الطريق الصحيح من هو مسرف كذّاب.
ولعلّ المراد به من يسرف ويتجاوز الحدّ في الكذب فيكذب على اللّه تعالى، فالمسرف الكذّاب مجموعا صفة واحدة اي من يسرف في كذبه، فانّ الكذب على اللّه تعالى أعظم الكذب. وهو على هذا الاحتمال تعليل لقوله (وان يك كاذبا فعليه كذبه) والمراد أنّه اذا كذب في دعوى الرسالة فقد كذب على اللّه تعالى، وهو يستتبع غضبه فيمنعه اللّه الهداية. ولعل المراد بها الهداية المطلقة في جميع سبل الحياة، فيحرم من الوصول الى اهدافه الدنيوية ايضا.
ويمكن أن يكون تعليلا للجملة الثانية، اي إنّ عذاب الله تعالى يصيبكم على تقدير صدقه لأنّه تعالى لا يهدي من هو مسرف كذّاب. وعليه فلعلّ المراد بالمسرف من تجاوز الحدّ في الانكار فأنكر الحق مع وجود البيّنة بل البيّنات، وبالكذّاب من يكذب على اللّه تعالى في جعل شركاء له في الربوبية.
يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض فمن ينصرنا من بأس الله ان جاءنا... في مرحلة اخرى من كلامه قام المؤمن بانذارهم وتحذيرهم من مغبّة موقفهم الخاطئ من الرسول، وهو يعبّر بما يظهر منه شعوره بالانتماء اليهم، وأنّه منهم وفيهم يضرّه ما يضرّهم ويزعجه ما يزعجهم.
وابتدأ بقوله (يا قوم) ــ اي ياقومي ــ إستعطافا لهم وتحبّبا اليهم. و(ظاهرين) اي غالبين. والظهور الغلبة. وهو بهذا نبّههم على تنعّمهم بالملك والغلبة لكي يشدّهم الى ذلك فيؤثّر تهديده بأنّ هذه النعمة ربما تسلب عنكم اذا قتلتم الرسول.
ويتبيّن من السياق أنّهم كانوا على علم بأنّ بأس اللّه لا يطاق، وأنّه يكفيهم التذكير. ولا غرو فإنّ أحاديث الامم السالفة كانت معروفة لديهم كما يتبيّن من الآيات التالية. ومن الملفت في عبارته المحكيّة أنّه لم يشرك نفسه معهم حينما بيّن من له الملك بل أتى بضمير الخطاب لأنّ الهدف منه بيان اختصاصهم بهذه النعمة، وأشرك نفسه معهم في التهديد بالخطر فقال: (فمن ينصرنا..) ليشعرهم بأنّه منهم يصيبه ما يصيبهم.
قال فرعون ما اُريكم الا ما أرى وما أهديكم الا سبيل الرشاد... يتّضح من السياق أنّ فرعون لم يتمكّن من ردّ الحجج القوية التي أقامها المؤمن المتكتّم، بل تأثّر بها وخاف مصيره ومصير ملكه وسلطانه فلم يحر جوابا الا هذا الجواب المبهم المجمل الذي ينمّ عن عجز واستئصال، وأنّ ما قاله غاية ما وصل اليه، وأنّه لا يعلم أكثر من ذلك (ما اُريكم الا ما أرى..) وهو في نفس الوقت يحاول استمالة قومه واستعطافهم مما يدلّ على خوفه من خذلانهم له وارتيابهم فيه.
ويمكن ايضا ان يقصد بهذه الجملة انه لا يخونهم ولا يظهر لهم ما يبطن خلافه. ثم تبجّح بما يتبجّح به كل الطغاة والمردة من أنّه يهدي المجتمع الى سبيل الرشاد وأنه لا يريد بهم الا الخير. هكذا من دون أن يأتي على ذلك بدليل او شاهد.
وقال الذي آمن يا قوم اني اخاف عليكم مثل يوم الاحزاب... لمّا أصرّ فرعون على اقتراحه بقتل موسى وزعم أنّه سبيل الرشاد عاد الرجل المؤمن الى تأنيبهم وتخويفهم من مغبّة ذلك مستخدما طريقة اخرى، وهي تذكيرهم بتاريخ الاقوام السابقة وما جرى عليهم جرّاء كفرهم وتكذيبهم للانبياء عليهم السلام. ويتبيّن من ذلك انهم كانوا على علم باخبار الماضين فحذّرهم من أن ينالهم عذاب مثل ما نزل بهم.
وقوله (يوم الاحزاب) يريد به جنس اليوم اذ لم يكن لهم يوم واحد فهو نظير ما تقول يوم المجاعة او يوم الحرب وتقصد كل يوم يحدث فيه ذلك. وقد عُدّ قوم فرعون من الاحزاب في سورة ص فالمراد بهم هنا من قبلهم من الاحزاب. وانما سماهم بالاحزاب لتحزّبهم وتجمّعهم على محاربة الحق والصدّ عن سبيل اللّه وتعصّبهم وتشدّدهم في ذلك. والتحزّب في الأصل بمعنى التشدّد. والكفار لم يكونوا كلهم متشدّدين في مخالفة الانبياء فكان منهم من لا يؤمن ولكن لا يحارب النبيّ ولا يمنعه من نشر دعوته ولا يمنع الناس من التجمّع حوله.
مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والّذين من بعدهم... الدأب والدؤوب هو الملازمة والاستمرار في الشيء، ولذلك يقال للعادة دأب. والمراد به هنا ما دأب عليه القوم واستمروا من التكذيب والكفر حتى استتبع العذاب الالهي. فيمكن ان يكون التحذير من نفس الاستمرار على العناد لانه يستتبع العذاب كما يتبين بملاحظة حال الاقوام السالفة، ويمكن ان يكون بتقدير مضاف اي مثل جزاء دأبهم.
وما اللّه يريد ظلما للعباد... اي إنّ العذاب لم ينزل على الاقوام السابقة الا بسوء اختيارهم. واللّه لا يظلم أحدا بل لا يريد ظلما لعباده. وتنكيرالظلم لنفي اي ظلم من اللّه تعالى وتقدس فلو لم يعاندوا الحق ولم يدأبوا على الكفر ولم يتشدّدوا ويتحزّبوا لم ينزل عليهم العذاب حتى لو لم يؤمنوا بالرسالات.
والغرض التنبيه على انكم ان لم تؤمنوا بموسى عليه السلام فلا تسرفوا ولا تتجاوزوا الحد في الكفر بقتل الرسول ومنع المؤمنين من متابعة مسيرتهم. اتركوهم يسيروا في ارض اللّه بحرية وينشروا ما يريدون نشره من معارف فالثقافة لا تقابل الا بثقافة وليس من المنطق ان تقابل الدعوة بالسيف.
يا قوم اني اخاف عليكم يوم التناد... التناد هو التنادي حذف ياؤه اختصارا، ولرعاية أواخر الآيات وهو تفاعل من النداء. وهو اسم ليوم القيامة، قيل في وجه التسمية: إن المراد نداء اصحاب النار لاصحاب الجنة وبالعكس، وقيل: نداء الملائكة للظالمين وبالعكس وقيل: ما يدور بين المستضعفين والمستكبرين من اقوال.
وظاهر المادّة يقتضي أن يكون من ينادى ينادي ايضا من يناديه، وهو تعبير يصوّر يوم هرج ومرج، واشتغال كل نفس بما يعنيه ويهمّه، وعدم الاهتمام بمن حوله، وعدم محاولة انقاذ المستغيثين. وهذا لا يحصل الا في اليوم الذي يفرّ فيه المرء من اخيه وامّه وابيه، فاحتمال إرادة يوم نزول العذاب في الدنيا كما قيل بعيد جدا، كما أنّ تسمية يوم القيامة بيوم التناد لمجرد وقوع بعض النداءات فيه كما يبدو من بعض التفاسير بعيد، والّا لكان كل أيّام الدنيا يوم تنـاد. واللّه العالم.
يوم تولّون مدبرين ما لكم من اللّه من عاصم... ولّى اي أتبع الشيئ بالشيء فقد يذكر او يقدّر أنّه أتبعه وجهه فيكون بمعنى الاقبال كقوله تعالى (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..) البقرة: 144، وقد يذكر او يقدّر أنه أتبعه دبره اي خلفه فيكون بمعنى الاعراض او الفرار. وهنا يصوّر مؤمن آل فرعون فزعهم واضطرابهم ومحاولتهم الفرار يوم لا مفرّ من العذاب (يقول الانسان يومئذ اين المفرّ) القيامة: 10، ما لهم في ذلك اليوم عاصم يحفظهم من عذاب اللّه. ومن يعصمهم من اللّه وكل شيء بامره فلا ملجأ منه الا اليه؟!
ومن يضلل اللّه فما له من هاد... الظاهر أنّ المراد به أنّ من اضلّه اللّه في الدنيا فلا هادي له هناك تأكيدا على انّه لا عاصم من أمر اللّه، وذلك لانّ النظام الكوني يتغيّر في ذلك اليوم ويرتفع الاختيار، فلا يمكن التشبّث بالوسائل، ولا حريّة لاحد في اختيار الطريق، وانما كان على الانسان ان يسلك طريقا في الحياة الدنيا يوصله الى النجاة هناك، فالصراط مستقيم لا التواء فيه ولا تعاريج ولا فروع.
ولا يمكن لاحد ان يسلك طريق النجاة هناك الا اذا اتّخذه طريقا له في الحياة الدنيا، ومن ضلّ الطريق في الدنيا فما له من هاد هناك. ومن يضلل اللّه فما له من هاد.
ويحتمل بعيدا وان كان هو ظاهر التفاسير أن يكون بيانا لحالهم في الدنيا، فهو بعد تخويفهم وتحذيرهم من مغبّة الكفر ذكر هذه الجملة تسلية لنفسه اذا لم يتقبلوا منه انذاره، وذلك لأنّهم اذا أراد اللّه أن يضلّهم فلا أثر لكلامه، واللّه لا يضلّ من يبتغي الهداية فإنّه لا يريد ظلما للعباد كما مر في الآية السابقة، وإنّما يضل من عاند الحق بعد تمام الحجة عليه، ومثل هذا يستحيل ان يهتدي، فلا هادي له.
ولقد جاءكم يوسف بالبينات فما زلتم في شكّ مما جاءكم به... انتقل المؤمن الى سياق آخر في تحذيره للقوم، وهو تذكيرهم بتاريخ آبائهم في مواجهة رسالة السماء، وحيث إنّ القوم باقون على دين آبائهم ويمجّدون أفعالهم، نسب الفعل اليهم مع بعد زمانهم.
ولا يصحّ القول بأنّ فرعون موسى عليه السلام هو نفسه الملك الذي واجهه يوسف عليه السلام، كما يبعد جدّا أن يكون المراد بيوسف نبيّا آخر غير يوسف بن يعقوب عليهما السلام، اذ لم يرد ذكره في القرآن فاطلاق كلمة يوسف في الكتاب العزيز ينصرف اليه، حتى لو فرض وجود نبي بهذا الاسم غيره. والذي ألجأ بعضهم الى هذه التكلّفات هو ظاهر الخطاب. والصحيح ما ذكرناه.
ويتبيّن من الآية أنّ يوسف عليه السلام كان رسولا الى قوم مصر، وهذا لم يصرّح به في سائر الآيات، وأمّا أصل النبوة فقد صرّح به في سورة الانعام/84 عند ذكر الانبياء من ذرية ابراهيم عليه السلام، ثمّ صرّح بنبوّتهم في قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ..) الانعام: 88، فلا وجه لما قيل من أنّه لم يصرح بنبوّته الا هنا.
ومهما كان فالمؤمن ذكّرهم بأنّ يوسف عليه السلام جاءكم قبل موسى برسالة السماء مشفوعا بآيات بينات من اللّه تعالى تدلّ على رسالته، ومع ذلك بقيتم في شكّ منها ومن المعارف الالهية التي جاءكم بها.
والانسان ليس معذورا اذا بقي في شكّ مع وجود الآيات البينات، ولا يصحّ له ان يعتذر أمام ربّه بأنّه لم يحصل له العلم فإنّ السبب في ذلك مع وجود الادلة الواضحة والموضحة ليس الا متابعة الاهواء، والتوغّل في الشهوات، والتشكيك والوسوسة في المعارف الغيبية التي لا يشعر بها الانسان عن حسّ. والمطلوب منه لدى اللّه تعالى أن يؤمن بالغيب اي بما لا يشعر به عن حسّ. اذن فنفس الشكّ في الرسالة بعد مواجهة الادلة الواضحة جريمة عند اللّه تعالى بل جريمة عظيمة كما سياتي. والشك بذاته وان كان خارجا عن إرادة الانسان الا أن مقدماته التي أشرنا اليها اختيارية.
حتى اذا هلك قلتم لن يبعث اللّه من بعده رسولا... يتبيّن من هذا الكلام أنّهم مع عدم ايمانهم بيوسف عليه السلام الا أنّهم كانوا في حرج وضيق من بقائه بين أظهرهم، ويتخوّفون من عدم ايمانهم به، ولعلهم كانوا يحذرون نزول العذاب.
ويظهر منه أيضا انهم لم يتعصّبوا ضدّه، ولم يتشدّدوا في مواجهته، ولذلك لم يعبّر عن عدم ايمانهم بالجحود والاستنكار، بل بقوا على شكّهم، كما أنّهم لم يتعرضوا له بقتل او إبعاد، وإنّما كانوا في ضيق من وجوده بينهم الى ان توفاه اللّه ففرحوا بذلك، و ظنّوا أنّ رسالة السماء اليهم انتهت بموته، وأنّهم لا يراد منهم بعد ذلك أن يؤمنوا بالغيب، وأن يلتزموا باوامر ونواهي من اللّه تعالى مما يكدر صفو عيشهم، ويحرمهم من كثير من اهوائهم وشهواتهم. وهكذا أبدوا فرحهم بذلك، وقالوا لن يبعث اللّه من بعده رسولا.
وهذا كله ضلال في ضلال كما هو واضح، فرسالة السماء مستمرة لا تنتهي بموت الرسول، والغيب حقيقة لا بدّ من الايمان به، سواء جاء الرسل ام لم يأتوا الينا برسالة، وإنّما الرسل نعم من اللّه تعالى أنعم بهم على البشرية.
كذلك يضل اللّه من هو مسرف مرتاب... (ذلك) اشارة الى ضلالهم وعدم ايمانهم بما جاء به يوسف عليه السلام وكذا بما أتاهم بعده، اي بمثل هذا الاضلال يضل كل مسرف مرتاب في اشارة الى سبب الاضلال وأنه ليس إضلالا ابتداءا بل هو جزاء عملهم.
ولعل الوصفين هنا ايضا صفة واحدة نظير ما مرّ في الآية 28 في تفسير قوله تعالى (مسرف كذاب) اي يضلّ من يسرف في ارتيابه، فان الانسان ربما يرتاب ويشكّ ويشكّك ايضا في ما لا سبيل الى العلم به من الحقائق، وأمّا بعد مواجهة الادلة القاطعة والبينة فالارتياب ليس الا اسرافا وتجاوزا عن الحد، لأنّه ارتياب في مقابل ما يستلزم العلم فهو كالشبهة في مقابل البديهة. وأهل التشكيك يمكنهم إتيان الشبهات حتى في الامور المحسوسة القطعية والبديهيات العقلية.
وهذا الإصرار على مواجهة الحق بالباطل يستوجب استحالة الهداية والطبع على القلب، وهو المراد باضلال اللّه تعالى، وهو جزاء لاسرافهم، بل هو نتيجة طبيعية. وكل ما هو طبيعي فهو من صنعه تعالى.
الذين يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان أتاهم... السلطان مصدر كالسلطة، والمراد به الحجة والدليل. والجملة صفة للمسرف في ارتيابه المذكور في الآية السابقة، وانما اتى به بصيغة الجمع باعتبار المصاديق، فالمسرفون في ارتيابهم يجادلون، ويشكّـكون في آيات اللّه الكونية، وفي دلالتها على قدرته وعلمه وحكمته، ويشكّـكون في الآيات والمعجزات التي يرسلها تأييدا لرسله ويسمّونها سحرا، ويشكّـكون في الآيات المنزلة على الرسل ليتلونها على الناس، ويقولون إنّهم لو شاؤوا لقالوا مثل هذا.
وهم لا يشكّـكون على أساس علمي ومنطقي، فليس لهم سلطة علميّة، وإنّما يشكّـكون جدلا، وكان الانسان اكثر شيء جدلا. وهذا الجدال المستمر بين المؤمنين والمرتابين لا يتمخّض عنه الّا إصرار الكفرة على كفرهم والمؤمنين على ايمانهم، ويزيدهم بعدا عنهم وبغضا لهم.
كبر مقتا عند اللّه وعند الذين آمنوا... المقت هو البغض الشديد. و(مقتا) منصوب على التمييز. وفاعل (كبر) ضمير عائد الى الجدال المعلوم من قوله (يجادلون) اي كبر هذا الجدال مقتا وبغضا عند اللّه وعند المؤمنين، فاللّه تعالى لا يرضى لعباده الكفر فكيف بالتشكيك الموجب لاضلال الناس، وهو بغيض عند المؤمنين ايضا لانه محاولة لزعزعة إيمانهم، وهم يعلمون أنّ الايمان أعظم نعمة حصلوا عليه على الاطلاق، فكل من يحاول سلبه منهم فهو من أبغض خلق اللّه اليهم.
كذلك يطبع اللّه على كل قلب متكبّر جبّار... (ذلك) اشارة الى طبع قلوبهم حيث لم يؤمنوا وبمثل ذلك يطبع الله على كل قلب متكبّر جبّار. وفيه إشارة الى سبب الطبع على القلب وهو التكبر والجبروت. فليس هذا من الجبر على الكفر والضلال، بل هو نتيجة طبيعية لعمله وخلقه الفاسد. والطبع على القلب امر طبيعي يحصل من معاندة الحق بعد معرفته. ومعناه أنه لا يتقبل الحق بعد ذلك كأنّ قلبه ختم عليه فلا ينفتح لقبول ما يلقى عليه. والطبع: الختم. قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ.) الانعام: 110.
والتكبّر أي التلبّس بالكبرياء. وإنّما وصف به المعاند لأنّ السبب الاساس في رفضه للايمان بآيات اللّه ليس هو عدم اقتناعه بالادلة والآيات، وإنّما هو الكبر والاعجاب بالنفس فهو يرى نفسه أولى من الرسول بالمتابعة، ويعتقد أنّ اللّه تعالى لو كان باعثا رسولا لابتعثه. بل ربّما يظنّ بنفسه أنه أولى بأن يشرّع القوانين، وأنّه ليس لاحد عليه سلطة وولاية كما يظنّه الانسان المتحضّر في عصرنا عصر الجاهلية الحديثة، ولذلك يرفض تشريع السماء مطلقا.
والجبّار مبالغة في الجبر اي قهر الآخرين وإجبارهم على ما يريد، في إشارة الى أنّ هذا المسرف لايكتفي بعدم ايمانه بل يحاول ارغام الآخرين على الكفر. وهذا الارغام ربّما يكون عن طريق سلطة عدوانية على الخلائق كما هو الحال في أكثر البلاد او كلها في العهود القديمة، وكثير منها في العصر الحاضر، وفي ذلك تعريض بفرعون، وربما يكون عن طريق الدسّ والاحتيال والسيطرة على مراكز التربية والاعلام حيث يؤثّر بعمق في نفوس الناشئة والشباب، ويسيطر على افكارهم، وينتزع منهم القدرة على التفكير.
وقد وصل غسل الأدمغة الى حدّ خارق للعادة في عصرنا الذي يدعى عصر النور والمعرفة، فيسيطر الجبّار على عقل الشابّ المتحمّس لينتحر ويقتل في آن واحد أطفالا أبرياء ويتقرّب بذلك الى اللّه تعالى. وهذا غاية الجبروت البشري في مهاوي التضليل والاغواء.
وربّما يقال: إنّ الجبّار مأخوذ من الجبر، بمعنى الاصلاح لا القهر والاكراه، وأنّه يوصف به المتكبّر لأنّه يحاول جبر شعوره بالنقص بالترفع والتعالي على الآخرين. وهو بعيد، والاول أنسب كما لا يخفى.
وقد وقع الكلام في قوله تعالى (كل قلب متكبر جبار) حيث إن كلمة (كل) تدل على التعميم في مدخولها وهو القلب مع أن المقصود التعميم على أفراد المتكبر الجبار لا أفراد القلب ومن هنا ورد في القراءات عن ابن مسعود أنه قرأ الآية هكذا (قلب كل متكبر جبار) ولعله أراد بذلك بيان أنهما بمعنى واحد كما قاله بعض المفسرين القدماء منهم الطبري.
ولهذا ايضا قرأ بعضهم (كل قلبٍ متكبر جبار) بتنوين القلب ليكون المتكبر الجبار وصفا له ووجّهه بعضهم بأنه كقوله تعالى (فانه آثم قلبه) مع أن الاثم ليس من القلب بل من الانسان ككل وقال الزمخشري ان هنا تقديرا وهو (كل ذي قلب) والظاهر أنه لا حاجة الى شيء من ذلك فالمراد بالقلب النفس البشرية وهي التي تأثم وتتصف بالصفات الحسنة والقبيحة انما الكلام في أن هذه القراءة شاذة والمشهور قرأوا بالاضافة.
وقال بعضهم إن التقدير (كل قلب كل متكبر) فالتعميم من الجهتين وحذف (كل) الثانية لدلالة الاولى عليها. ولكن هذا غير صحيح لعدم دلالة الاولى عليها فكل منهما تقتضي تعميما في مدخولها.
وفي بعض التفاسير أن التعميم بلحاظ أجزاء القلب فالمراد أن المتكبر الجبار يطبع على قلبه من كل جهة طبعا كاملا بحيث لا تبقى فيه نافذة لقبول الهداية. ولكن (كل) المضافة الى النكرة لا تفيد هذا المعنى بل تفيد كل أفراد القلب المضاف الى اي متكبر جبار وحيث انه ليس هناك لكل انسان الا قلب واحد ونفس واحدة فالتعميم يكون بلحاظ أفراد المتكبر فقط. مضافا الى أن هذا التقرير يستلزم أن الحكم لا يشمل كل متكبر جبار بل فردا واحدا منهم.
فالصحيح هو ما ذكره بعض قدماء المفسرين من أنه لا يختلف التعبير من حيث المعنى بين أن يقال (قلب كل متكبر) او (كل قلب متكبر).