مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللّه إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)

 

ما يجادل في آيات اللّه الّا الذين كفروا... الجدال: المناظرة والمخاصمة، وأصله من جدل الحبل اي فتله واحكمه، فكأنّ الوجه فيه أنّ كلا من المتجادلين يحاول تحكيم ما ارتآه، او أنّ الكلام بينهما كالحبل بين شخصين يفتلانه ويشدّان فتله. ومهما كان فالمجادلة في الغالب يشتمل على الاعتراض وعدم القبول.

وهنا يقصد به ذلك فالمراد انه لا يشكّك في آيات اللّه الا الذين كفروا فدلالة الآيات على القدرة والحكمة واضحة لكل عاقل، ولا يشكّك فيها الا الذين يعجبهم الكفر وإنكار الربّ الذي اليه مصيرهم لأنّ الايمان به يمنعهم من متابعة أهوائهم بحريّة. ولا شكّ أنّ الاعتراف بالربّ وبأنّ المصير اليه يستتبع امورا لا يعجب الذين يتّبعون الشهوات، فلا غرو إن أنكره بعض الناس، بل العجب من قبول بعض آخر وعَودهم اليه كلما عادوا الى فطرتهم فليس ذلك الا لقوّة ما تدعو اليه الفطرة.

ويبدو من السياق هنا وكذا في الآيات التالية أنّه يقصد الاستهانة بالكافرين من حيث العدد، لأنّ هذا يؤثر في قلوب الناس غالبا فاذا رأوا قلة الأتباع ضعفوا وخارت قواهم وعزائمهم، وعلى العكس كلما زاد عدد الاتباع نشطوا وقويت عزائمهم. وهذه طبيعة الناس، وان كان الصحيح ان لا يهتمّ الانسان بقلة العدد ولا بكثرته، كما قال تعالى (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ... ) المائدة/100 وقال امير المؤمنين عليه السلام (لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة اهله) ولكن الناس غالبا يهتمّون بذلك، فالآية المباركة توحي أنّ المجادلة في آيات اللّه ليس إلا من شأن الذين يصرّون على الكفر وهم قلّة، وسائر الناس حسب فطرتهم لا يجادلون في ذلك. وهو كذلك.

فلا يغررك تقلّبهم في البلاد... الغرور: الخداع. والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او لكل من يتلو الآية او تتلى عليه. اي اذا رأيتهم يتقلّبون في البلاد، وينتقلون من بلد الى بلد في التجارة وغيرها، لا يمنعهم مانع، ولا يزجرهم عقاب من اللّه، فلا يغرّنّك ذلك، ولا تنخدع فتتوهم أنّ اللّه تعالى تاركهم، فإنّ شدة عقابه لا يختص بزمان او مكان، وإنّما الحكمة تدعو الى الإمهال، واللّه يمهل ولا يهمل.

و هذا من الامور التي أكّد عليها القرآن في موارد عديدة منها قوله تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِيـنَ كَـفَرُوا أَنَّمَـا نُمْـلِي لَهُمْ خَيْـرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّـمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَـزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَـذَابٌ مُهِينٌ) آل عمران: 178.    

كذّبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم... اي لا تهتمّ بتكذيبهم للرسالة فهذا دأب من كان قبلهم من الامم. وبدأ بقوم نوح مع أنهم ايضا من الأحزاب ــ كما سيأتي ــ لأنهم أول مجتمع بشري أرسل اللّه اليهم رسولا فكأنّ ساير الامم استلهموا منهم التعامل مع الرسل.

والاحزاب هم المذكورون في قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ) ص: 12ــ 13، فالجملة الاخيرة تعرّفهم، ويعلم منه أنّ المراد بالاحزاب في القرآن هذه الاقوام، وهم الذين يذكر اللّه قصصهم مكررا. واصحاب الأيكة هم قوم شعيب عليه السلام. والحزب الجماعة من الناس.

وهمّت كلّ امة برسولهم ليأخذوه... اي لم يكتفوا بتكذيب الرسل بل همّوا بقتلهم. والأخذ الامساك وهو هنا كناية عن القتل. ولم تكن مؤامرة القتل فرديّة، بل همّت كل امة برسولهم ليقتلوه فكانت هذه جريمة المجتمع بأسره، ومن الطبيعي أنّ الذي يباشر القتل او محاولة القتل بعض منهم، ولكن ينسب العمل الى المجتمع بأسره لرضاهم به، وعدم المنع او الاعتراض على المجرمين.

وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحقّاي حاولوا الصدّ عن سبيل اللّه، ومنع الناس من الايمان بالرسول عن طريق الدعايات الكاذبة، فأتوا بكلّ ما يمكنهم من الكلام الباطل ليدحضوا اي يزيلوا به الحق.

والباطل لا يمكن ان يغلب الحقّ الّا انّه يموّه على الناس، وهم لبساطتهم، او لمتابعتهم الاهواء وعدم اهتمامهم بشؤون الدين لعدم ملاءمتها مع الشهوات يتأثّرون بالباطل، او يصفّقون له تقليدا. وهكذا كانت الامم السالفة واللاحقة، فالبشر كلهم على وتيرة واحدة.

فأخذتهم فكيف كان عقابِأخذهم اللّه تعالى بكفرهم وعدوانهم فأهلكهم واستأصلهم، فانظر كيف كان عقابه تعالى لتجد أنّه شديد العـقاب. والكسرة في باء (عقاب) بدل عن الياء اي عقابي، وفي اضافته الى الياء تأكيد على كونه عقابا خاصا.

وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار... اي ومثلما حقّت عليهم كلمة العقاب في الدنيا، حقّت عليهم ايضا كلمة العذاب في الآخرة. وقوله تعالى (أنّهم اصحاب النار) تفسير للكلمة، أي ثبت عليهم هذا الحكم وهو أنّم أصحاب النار.

ولم يقل (عليهم) بل ابدله بالاسم الظاهر (الذين كفروا) تنبيها على السبب وهو كفرهم ليشمل المشركين في عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.