إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
هذه الآيات تتبع ما سبقها فان السياق يؤكّد على نصرة اللّه لرسله وللمؤمنين. وقلنا إنّ النصرة الواضحة هي نصرتهم في اعلاء كلمتهم بالحجة والبرهان ولا ينحصر النصر في المواجهة المسلّحة، بل بملاحظة هدف الدين وهو الارشاد والهداية يتبيّن بوضوح أنّ النصر فيه ينحصر في قوّة الحجة والبرهان، والغلبة بذلك على الافكار المعادية ليتسنّى للانسان انتخاب طريق الدين والايمان باللّه وبالرسالات بحُريّة اذ لا اكراه في الدين، ولا يمكن فيه الاكراه، ولا ينفع.
وعلى ذلك وردت الآية الاولى من هذه الآيات ليطمئنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمؤمنون بأنّ المعادين للرسالة الذين يجادلون في آيات اللّه تعالى ويرفضون الانصياع لها ــ والمفروض أنّ الآيات هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة اللّه ومعرفة صفاته ورسالاته ــ لا يملكون في ذلك حجة وبرهانا، وليس رفضهم لعدم اقتناعهم بها، وانما يرفضون ويجادلون لما تمكّن في نفوسهم من الكبر والخيلاء. فإنّ هذا الانسان الصغير الحقير اذا نظر في عطفه وأعجبته نفسه تصاغر في عينه كل الكون على عظمته.
إن الذين يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان أتاهم... المجادلة والجدال هو المنازعة بالكلام بشدّة وقوّة سواء كان بحق او بباطل. وأصل الجدل الاستحكام. والمراد به هنا ما يلازم الجدال وهو الرفض وعدم الانصياع. والمراد بالسلطان الحجة والبرهان لانه هو الموجب لتسلّط من له الحجة على الموقف. وقوله: (أتاهم) وصف للسلطان اي لم يؤتهم اللّه تعالى سلطانا وحجّة فهو اشارة الى أنّهم يقابلون من له سلطان وهداية من اللّه تعالى، ولا شكّ في أنّ الذي يقابل من هداه اللّه تعالى لا يملك رصيدا يعزّز موقفه في الاحتجاج.
إن في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله انه هو السميع البصير... الكبر من الصفات النفسية وموضعه النفس. ولكن يعبّر عنها في العرف بالقلب لما يجدونه من تأثر القلب ــ اي العضو الخاص ــ بالامور النفسية المحزنة والمفرّحة وغيرهما. وحيث إنّ القلب موضعه الصدر يعبّر به عن النفس ايضا. فالمراد أنّهم يجدون في أنفسهم كبرا ما هم ببالغيه. والظاهر انه وصف للكبر اي أنّهم يشعرون بكبر لم يبلغوه ولن يبلغوه أبدا كما هو مفاد قوله (ما هم ببالغيه).
وهناك فرق كبير بين ان يستشعر الانسان لنفسه صفة من صفات الكبراء لم يبلغها ولكنه مؤهل لبلوغها، وبين أن يجد في نفسه كبرا لن يبلغه ابدا. وهذا هو صفة من يستكبر عن قبول الحق ويترفّع عن عبودية ربه واطاعته، فهو نظير ابليس في خيلائه واستكباره عن طاعة اللّه جلّ وعلا. ولذلك أمر اللّه نبيه ان يستعيذ بربه منه كما يستعيذ به من الشيطان الرجيم.
والتعليل بالوصفين الكريمين السميع والبصير لعله من جهة ان خطر المتكبّر على المجتمع ينشأ من افعاله وأقواله. واللّه السميع لأقواله والبصير بأفعاله له بالمرصاد في ما يفعله ويقوله. وضمير الفصل مع الالف واللام يقتضي الحصر فلا سميع ولا بصير بقول مطلق الا الله تعالى والاستعاذة لا تصح الا بمن يسمع كل صوت ويرى كل شيء.
لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون... في هذه الجملة احتمالان:
الاول: أن يكون المراد بها تنبيه الانسان على ما يوجب استصغاره لنفسه فإنّ الانسان اذا لاحظ عظمة الكون وكبره وهو المراد بالسماوات والارض يستصغر نفسه ويحتقرها ويخضع لعظمة خالق الكون ربّ السماوات والارض وما بينهما. ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، والمراد أنّهم لا ينتبهون لحقارتهم قبال عظمة الكون فيعجبهم شأنهم.
والثاني: أنّ المراد الاستدلال على بعض ما يجادل فيه المستكبرون وهو المعاد. وهو أهمّ شيء عقائدي كان الوثنيون في جزيرة العرب ينكرونه. وإنكاره يستوجب اكثر المفاسد، حيث لا يجد الانسان من نفسه وازعا عن ارتكاب المآثم.
وأساس الاستدلال ردّ استغرابهم وإنكارهم لإعادة الحياة بعد الموت بأنّ خلق السماوات والارض ــ اي الكون بأجمعه ــ وإبداعه من أوّل الأمر أهمّ وأصعب من خلق الناس ثانية وإعادة حياتهم وتكوينهم. كما قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ...) الروم: 27.
والسرّ في كون خلق السماوات والارض أهمّ وأصعب من المعاد أنّه بدء للخليقة من العدم، ولا شك ان ايجاد شيء من العدم ــ اي من دون سبق انموذج او مادة ــ أعظم وأهمّ وأصعب بالقياس الى أذهاننا من إعادة شيء الى حالته السابقة. ولا يراد بذلك الصعوبة والهوان عند الله تعالى فانه لا تختلف لديه الامور وقدرته تعالى لا تتحدّد بشيء.
وهذا الاحتمال أقرب من الاحتمال الاول. وعدم معرفة الناس وجهلهم بذلك أوضح
وما يستوي الاعمى والبصير... لا يبعد ان يكون هذا تشبيها للمتكبر المعجب بنفسه بالأعمى والمؤمن العارف لقَدْره بالبصير، فانّ المتكبّـر أعمى القلب لا يرى صغر نفسه وحقارتها، ولا عظمة ما سواه من الكون كالاعمى الذي لا يمكنه تحديد موضعه ولا يرى جسمه، بخلاف المؤمن فانّه بصير بنفسه وبغيره. وهما لا يستويان اذ لا شكّ ان نتيجة العمى والجهل هو الكبر والخيلاء، ونتيجة البصيرة أن يعرف الانسان قدره فيتواضع.
والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء... اي لا يستوي المؤمن والمسيء. وإنّما اعاد كلمة النفي لطول الصفة الاولى. والظاهر أن ذكر الفريقين لتطبيق عنوان الاعمى والبصير عليهما. وذكر العمل الصالح يفيد أنّ مجرد الايمان لا يوجب البصيرة الكافية، وإنّما يوجبها اذا بلغ حدّا يبعث الانسان على العمل الصالح ويبعّده عن التوغّل في المعاصي. والمسيء في مقابل المحسن اي من يأتي بالأعمال السيّـئـة.
قليلا ما تتذكّرون... فالمذكّرات والمنبّهات ليست قليلة، ولكن الانسان المتذكّر لما تمليه عليه الفطرة السليمة قليل. و(ما) زائدة تفيد التاكيد في القلّة اي تتذكّرون قليلا. والخطاب لنوع الانسان. والتذكّر في مقابل النسيان فلعلّ المراد أنّ الغالب في البشر نسيان أصله وما خلق منه، ونسيان جهله وضعفه وفقره قبل أن يعلّمه الله ويقوّيه ويغنيه، ونسيان نعم الله تعالى عليه، ونسيان العهد الذي أخذه الله تعالى في الأزل وأودعه فطرته فقال: ألست بربّكم قالوا بلى. وانما يتذكر المؤمن البصير الذي يعمل الصالحات.
إنّ الساعة لآتية لا ريب فيها... المراد بالساعة مرحلة فناء هذا النظام الكوني او مرحلة قيام النظام الجديد. والساعة قطعة من الزمان. والظاهر أنّها تطلق على الزمان القصير الذي يمرّ مسرعا فاطلق بهذا الاعتبار على يوم الفناء او القيام لسرعة حدوثه كما قال تعالى (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) القمر: 50. وقد أكّد في الآية المباركة ظهور الساعة بحرف إنّ ثم بلام القسم ثم بقوله تعالى (لاريب فيها).
والريب: الشك. اي لا ينبغي الريب فيها لوضوح أدلّتها وقيام البراهين عليها في القرآن الكريم فلا ينافي ذلك وجود الشك في قلوب الناس. ويمكن أن يكون المراد أنها حين تقع واضحة بيّنة لا يشكّ فيها أحد، بل لا يبقى مجال للشك آنذاك في سائر الحقائق.
ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون... استدراك عن نفي الشك في قيام الساعة بناءا على المعنى الاول في قوله (لاريب فيها). ومعنى ذلك أنّ الامر مع وضوحه، ومع أنه لا ينبغي الريب فيه ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون به لانه لا يلائم أهواءهم. وأما بناءا على المعنى الثاني فهو استدراك عن الجملة السابقة اي قوله (إنّ الساعة لآتية). ومهما كان فالجملة تنديد بعدم ايمان الناس بالمعاد، ولو آمنوا به لكفاهم وازعا عن ارتكاب المآثم ودافعا الى التقوى. وانما لا يؤمن اكثرهم لأنّ الايمان به يستتبع ترك كثير من الشهوات والملذّات، فيحاول الانسان تجاهله وعدم الاهتمام به والتركيز عليه فلا يطمئن به قلبه، والايمان أمر اختياري.
والظاهر أنّ أكثر الناس لا يختصّ بالكافرين فالمؤمنون باللّه ايضا ليسوا كلهم مؤمنين بالآخرة ايمانا كاملا، بل اكثرهم انما يظنّون ظنّا، ويكفي ذلك لاتّـقاء المآثم الكبيرة، ولكن لا يكفي للتورّع في كثير من الموارد والابتلاءات الصعبة.
ويمكن لكل مؤمن أن يمتحن مدى ايمانه بالآخرة، فان كان اهتمامنا بتلك الحياة ضعيفا جدّا بالنسبة لاهتمامنا بشؤون هذه الحياة فهذا يكشف عن ضعف إيماننا بالآخرة. ولوكنّا مؤمنين بها إيمانا كاملا لتغيّـر وجه الحياة لدينا، ولكان هاجسنا دائما ما نخسره او نربحه في تلك الحياة، بينما نجد في أنفسنا زهدا بليغا في ما وعده اللّه سبحانه من النعيم هناك، مع أنّا نعلم أنّ وعده حق، ولكن لا نشعر بشوق ولهفة الى ذلك النعيم الخالد الذي لا يشوبه تعب ولا مرض ولا حرج، كما نشعر بالشوق واللّهفة الى اللذة الزائلة المؤقّتة الممزوجة بشتّى أنحاء المنغّصات في هذه الحياة، ونهلك أنفسنا ونخاطر بها في مختلف المخاطر لبلوغ هذه اللّذات التافهة، ولا نعير اهتماما بذلك النعيم، بل نكتفي ــ على أحسن تقدير ــ بأقلّ ما يمكن الحصول عليه من الثواب.
ولذلك تجدنا غالبا ما نكتفي بالفرائض والواجبات بل نكتفي فيها ايضا بأقلّ الميسور. وكل ذلك يختص بالطبع بما لا يزاحم ملذّاتنا الدنيوية، ولا يوقعنا في خسارة مادية فادحة فضلا عن التضحية بالروح. فهل هذا الشعور يناسب الايمان بالآخرة؟!