مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)

 

وقال ربكم ادعوني أستجب لكم... هذا قول أزليّ يخاطب اللّه به كلّ الخلائق من البشر وغيرهم، ولا يختص بهذه الاُمّة كما زعم بعضهم وجعلوه ممّا خصّ اللّه به هذه الاُمّة من مزايا. والتعبير بـ (ربكم) يدلّ على أنّ الدعاء من المخلوق والاستجابة من الله تعالى دخيل في تربيته وبلوغه الى الكمال المنشود. والاستجابة والاجابة بمعنى واحد.

ويخطر بالبال لكل من يلاحظ الآية إشكال وهو أنّ كثيرا من الادعية بل أكثرها لا تستجاب. وقد حاول المفسرون قديما وحديثا الاجابة عن ذلك، فروي عن ابن عباس وتبعه بعض المفسرين أنّ المراد بالدعاء العبادة، وبالاستجابة الثواب.

وهذا تأويل بعيد وغريب، ويبعد صدوره عن مثل ابن عباس، فالدعاء وان كان نوعا من العبادة ولكن ليس بمعناها. وأبعد منه تأويل الاستجابة بالاثابة.

والمعنى الظاهر هو الصحيح. والجواب عن الاشكال أنّ الاستجابة ليست دائما بالعمل وفق ما يطلبه الداعي، بل الدعاء ايضا ليس دائما لطلب الحاجة كما يتوهم، فالدعاء هو النداء سواء كان لطلب حاجة ام لامر آخر، والاستجابة بمعنى تلبية الطلب وعدم الرفض، ولا يلازم ذلك قضاء الحاجة.

ونظير ذلك قوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة: 186. وهنا قرينة يتضح منها المراد بالاجابة، فإنّ الظاهر أنّ قوله تعالى (اجيب دعوة الداع...) تفسير وتوضيح لقربه تعالى فهو قريب بحيث يسمع أيّ دعاء ويجيبها مهما كان الصوت خافتا، بل حتى لو كان بلا صوت، بل من دون أيّ إظهار وإبراز، فالغرض دفع توهم الانسان الساذج أنّ اللّه تعالى بعيد عنه لعظمته فلا يسمع نداءه.

وهذا التوهم هو منشأ الشرك والتوسل بالاصنام والملائكة والانبياء والاولياء وغيرهم ليقرّبوهم الى اللّه زلفى. وهو خطأ فادح، فمن كان يتوسل بغير اللّه تعالى بهذا الوهم فهو مخطئ. وهذا لا ينافي الاستشفاع بالرسل والاولياء مع الاعتقاد بأنّ اللّه هو السميع البصير وهو الذي يقبل الشفاعة او يردّها. ويظهر منه أنّ الاجابة بمعنى سماع الدعوة والتلبية لأنّه هو المناسب للقرب لا بمعنى قضاء الحاجة.

هذا مع أنّ كثيرا مما يطلبه الانسان ليس قابلا للقضاء، فهناك أدعية متناقضة من البشر لا يمكن قضاء كلها، فبعضهم لا يصلح حاله الا بالمطر مثلا وبعضهم يضرّه، وبعضهم يريد الحرّ وآخرون يريدون البرد. ولو كان المفروض أن تقضى حاجة كل احد بل كل مؤمن لفسد العالم. كما قال تعالى (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ..) المؤمنون: 71. وهناك ما يطلبه الانسان وليس صالحا له وهو لا يعلم، وربما يعلمه بعد حين.

وكثيرا ما نجد ذلك من أنفسنا حيث ندعو فلا تقضى حاجتنا ثم نعلم بعد حين أنّ عدمها هو الأصلح بحالنا، وربّما تكون الحاجة أصلح لدنيا الانسان ولكنّه غير صالح له في الحياة الاخرى، وسيعلم آنذاك أنّ رحمة اللّه تعالى شملته حيث لم يقض حاجته، وأنّ ما يحصل عليه هناك أفضل بكثير ممّا طلبه هنا، ولكنّ الانسان في هذه الحياة لا يهمّه الا زينة الدنيا وبهرجتها كما قال تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ..) الانفال: 67، فمثل الانسان كالطفل يطلب من أبيه ما يضرّه ولا ينفعه، وربّما يبغض أباه اذا منعه من أكل الحلوى التي تضرّه.

ثم إنّ هناك كثيرا ممّا نطلبه يستحيل تحققه واقعا وإن لم يكن من المحال العقلي لكنّه يستلزم المحال، وحيث إنّا لا نعلم جميع الظروف المحيطة به نظنّ أنّه أمر ممكن، ولو علمنا استحالته لم نطلبه اذ ليس من المعقول طلب المستحيل.    

إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين... هذه الجملة بقرينة الجملة السابقة تدلّ على أنّ الدعاء من العبادة. وصرّح بذلك في الروايات. فالدعاء كيفما فسّر نوع من العبادة، والمعنى أنّ الذين يستنكفون عن الدعاء وهو عبادة اللّه تعالى، ويظنّون أنّهم ليسوا بحاجة اليه، فسيدخلون جهنّم داخرين، أي أذلّاء. فجزاء الاستكبار في الدنيا هو المذلّة والهوان في الآخرة. وأيّ استكبار هذا؟! إنّه متابعة لابليس الذي استكبر على ربّـه.

وغريب أنّ الانسان يبلغ به الغباء والحمق الى هذا الحدّ، فيستنكف عن عبادة اللّه العظيم، وهو يعبد البشر والبقر والحجارة والذهب والفضة.

اللّه الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا... بعد التنديد بالاستكبار على اللّه تعالى لزم التنبيه على نعمه المستمرة المتوالية، ليشعر الانسان بفداحة ذنبه، اذ يستكبر عن عبادة ربه مع كثرة نعمه عليه.

ومن جهة اخرى حيث أمره بان يدعو ربّه أراد في هذه الآيات تعريف الانسان بربّه ليكون على بصيرة في دعائه، فإنّ احد موجبات عدم استجابة الدعاء ــ كما في الاثر ــ هو أنّ الانسان يدعو من لا يعرفه، فهذه الآيات تعرّف الانسان بربّه اذ أنّه تعالى يُعرَف بآثاره ونعمه.

وفي هذا الصدد تشير الآية الكريمة الى نعمتين متواليتين مستمرتين، وهما ظلام الليل المناسب للسكون والراحة والاستقرار، وضياء النهار المناسب للحركة والتجوال وطلب الرزق. وهما من أهمّ النعم ولكن استمرارهما ودوامهما استوجب الاستخفاف بهما ونسيانهما. والتعبير بكون النهار مبصرا من باب المبالغة مع أنّه السبب في الإبصار فكأنّه هو المبصر. 

إنّ اللّه لذو فضل على الناس... الفضل بمعنى الزيادة. والفضل على أحد بمعنى إعطائه ما لا يستحقه عليه. وكلّ ما ينعم اللّه تعالى به على الناس فهو فضل إذ لا يستحق احد على اللّه شيئا. والتنكير هنا للتعظيم اي انه لذو فضل عظيم على الناس كما قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..) ابراهيم: 34.

ولكنّ اكثر الناس لا يشكرون... اي لا يشكرون بالمرّة، بل لا يعترفون بالنعمة، بل ولا بالمنعم. واما الشكر المناسب لحجم النعمة فلا يقوى عليه احد.

ذلكم اللّه ربكم خالق كل شيء لا اله الا هو... الاشارة الى البعيد للتعظيم، فانّه تعالى بعيد عن متناول الأبصار بل الأفهام، وهو ربّكم الذي يربيكم في إطار القوانين الطبيعية وهي السنن الالهية، وبما يرسله اليكم من هدايات ويبعث لكم من رسل وحجج، وهو خالق كل شيء. وهذا يشمل أصغر الاشياء وأحقرها كما يشمل أعظمها وأكبرها، فلا يتصور أنّ هناك خالق غيره. وكل ما يصنعه الانسان بل كل ما يعمله بل ينقدح في نفسه وضميره فهو شيء، وينطبق عليه أنّه مخلوق للّه تعالى، فليس في الوجود شيء يوجد من دون أن يريده اللّه سبحانه.

والنتيجة أنّه لا اله غيره، لأنّ الالوهية والعبادة لا تصلح الا لمن يُخاف ويُرجى، فان كان كل شيء مخلوقا للّه تعالى، فهو الذي يخاف ويرجى فحسب. وكل شيء بأمره وبيده، فلا معبود سواه لأنّ الانسان إنّما يعبد الآلهة طلبا لمحبوب او دفعا لمكروه. 

فأنّى تؤفكون... اي تصرفون. والتعبير بالمجهول يوحي بأنّ هناك ما يدفعكم ويصرفكم عن ربكم، والا فالأمر بطبيعته لا يدعو الى ذلك، والانسان بفطرته مشدود الى ربّه لا يعبد سواه، وانما يصرفه عنه متابعته للشهوات، وخلوده الى الارض، وانجذابه الى ما خلق اللّه تعالى على هذا الكوكب من زينة ليبتلي الانسان بها، كما قال تعالى في سورة الكهف: 7 (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).

كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات اللّه يجحدون... في هذه الآية الكريمة يحدّد من يصرف عن عبادة ربهم وعن الشكر لأنعمه. وهم الذين يجحدون آيات اللّه تعالى. والجحود هو الانكار عن علم، فالذين يرون آيات اللّه وهي كل ما في الكون، ويعلمون أنّها تدل على عظمة الخالق وحكمته، ومع ذلك ينكرون الربوبية، ويتناسون هذا الجانب من العلم، وان كانوا ربما يتعمّقون في سائر الجوانب هم الذين يصرفون عن عبادة اللّه واطاعته، فإنّ ذلك هو النتيجة الطبيعية للجحود اذ لا ينشأ ذلك الا من الاستكبار والطغيان ومتابعة الاهواء.

وقوله (كانوا) يدل على استمرار جحودهم وأنّ هذا دأبهم وديدنهم كلما لاحظوا آية من آياته تعالى كما ورد في سورة يوسف/ 105 (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).

اللّه الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناءا... استمرار في السياق السابق لتنبيه الانسان وإلفات نظره الى نعم اللّه تعالى على عباده المكتنفة بهم من كل صوب، فالارض من تحتهم موضع استقرار وسكون قد هيّأ اللّه تعالى عليها كل وسائل الحياة، والسماء فوقهم ــ ولعل المراد به الجوّ المحيط بالكرة الارضية ــ سقف مرفوع يحفظهم من الاشعة الضارّة، ويحفظ لهم الأبخرة المتصاعدة، ويحوّلها الى غيوم تمطرهم بالماء الطهور، فمنه يستقون، ومنه يزرعون، ويحفظ لهم ما يحتاجون اليه من الاوكسيجين للتنفس، وغير ذلك مما يترتب على هذا الغلاف الجوي.

وصوّركم فأحسن صوركم... يعود السياق الى انفسهم فالانسان خلقه اللّه تعالى على أحسن صورة وأجمل هيئة، وكم في هذا التصوير من أسرار وآيات؟؟؟ فلكل انسان هويّـته البارزة في ملامح وجهه لا يشاركه فيها أحد، ولكل أحد هويّـته الخاصة به ايضا في خطوط بنانه، ناهيك عن أسرار كل عضو داخلي وخارجي، ووظائفه الغريبة، فكل ذلك من عظمة التصوير، إذ المادة مشتركة بينه وبين غيره من الارضيات.

وكل ما في الانسان من خصائص انما هي من صورته الانسانية، بل خصائص كل انسان من صورته الخاصة به، فانّ الصورة هي التي تحكي عن الكيان الشخصي، والمادّة هي الامر المشترك.

ورزقكم من الطّـيّـبات... ينبّـه على كل ما حول الانسان من نعم طيّـبة يتلذّذ بها، ويقيم بها شؤون حياته من مطعم ومشرب ومسكن وملبس وغير ذلك، مما يستطيبه النفس ويستسيغه ويستلذّه. وكلّ ما خلقه اللّه تعالى للتنعّم بحسب طبيعتها طـيّـبـة، وربما يعتريه الخبث بفعل الانسان.

ذلكم اللّه ربكم... فكل ما أنعم به عليكم يدخل في شؤون التربية، واللّه تعالى يربّيكم بهذه النعم، يربّـي اجسامكم تربية طبيعية، ويربّي ارواحكم ونفوسكم حيث يبتليكم بها لينظر ما أنتم صانعون، وفي أيّ مجال تستخدمونها، وهل تشكرون ربّكم وتطيعونه في ما أمركم به تجاه هذه النعم، أم تكفرون ويجذبكم ظاهر النعم وتبعّدكم عن عبادة ربكم وشكره كما قال تعالى في سورة الانبياء: 35 (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

فتبارك اللّه رب العالمين... البركة اصلها من البروك بمعنى الثبوت والاستقرار، يقال برك البعير اذا استقرّ على الارض، ومنه البِركة لمجمع الماء، واستعير للخير الكثير الثابت والمستقر. وصيغة (تفاعل) كتعاظم وتعالى، وكذلك (تفعل) كتكبّر وتقمّص وتلبّس بمعنى اتّخاذ الصفة ونحوها، فالتقمّص والتلبّـس ونظائرهما بمعنى اتّخاذ لباس خاص، والتكبّر بمعنى اتخاذ الكبر صفة له، وهو مذموم من غير اللّه تعالى لانّ معناه انّه يتّخذ لنفسه كبرا ليس له، ويعتقد لنفسه موضعا ومقاما فوق حده.

واما اللّه تعالى فهو أكبر من أن تناله الاوهام، فهو الكبير المطلق، وانما يصحّ التعبير عنه بالمتكبّر، كما هو أحد الأسماء الحسنى، لأنّ كبره تعالى ليس عطاءا من أحد، بل هو منه فكل ما يفرض كبيرا ولو نسبيّا إنّما كبر بما منحه اللّه تعالى، وأما اللّه سبحانه فهو كبير بنفسه. ومثل ذلك التعالي والتعاظم والتقدس ونحوها.

وعلى هذا الاساس فنسبة التبارُك اليه تعالى بمعنى أنّه اتّخذ لنفسه البركة وهي الخير الكثير الثابت والمستقر، فهو منشأ كل خير وموجده. ولذلك لا يصحّ هذا التعبير لغيره، ولم يرد في غيره تعالى في لغة العرب ولا في تعابير الشرع والمتشرّعة فلا يصح ان تقول تبارك الرسول او تبارك القرآن لأنّ البركة لكل شيء من اللّه تعالى، وأما منشأية الخير فيه تعالى فهو منه ولا يمكن ان يكون منحة من أحد. ولذلك لا يصح ايضا التعبير عنه تعالى بالمبارَك (بفتح الراء). وأخطأ من عبّر عنه بذلك من الكتّاب الذين لا يجيدون العربية.

وتوصيفه تعالى في الآية بربّ العالمين تأكيد على أنّ ما ذكر من النعم المحيطة بالانسان يأتي في سياق ربوبيّـته العامّة لجميع العالمين، فإنّ مقتضاه إعطاء كل مخلوق ما يستحقّه وما يحتاج اليه لبلوغه غاية كماله.

هو الحيّ لا اله الا هو... الحيّ من الصفات الالهية الحسنى، ومما يعبّر عنها بصفات الذات، وتقابلها صفات الفعل التي تنتزع من افعاله تعالى. واصول صفات الذات ــ على ما قالوا ــ ثلاثة: العلم والقدرة والحياة، فكل ما يذكر من الصفات الثبوتية له تعالى يعود الى هذه الاصول. واللّه أعلم.

ولعل ذكره هنا لدفع توهم من يظنّ أنّ اللّه تعالى ليس فاعلا مختارا، وأنّ ما يصدر منه إنّما هو مقتضى ذاته، كما هو ظاهر بعض عبارات المتفلسفين، فالذي يظنّ ذلك لا يختلف عن من ينفي وجوده تعالى، ويظنّ أنّ الخلق انما وجد بفعل الطبيعة.

ثم إنّ التعبير يدلّ على أنّ الوصف خاصّ به تعالى ومنحصر فيه كما هو مقتضى الالف واللام في الوصف، وذلك لأنّ الحياة الحقيقية ليست الا له، فالحياة التي تثبت لغيره تعالى يشوبها الموت والفناء، ومن جهة اُخرى كل حي غيره انّما يتصف بالحياة لما اُضفي عليه من الحياة من قبله تعالى، فالحياة بالذات ليست الا له تعالى شأنه.

ولذلك عقّبه بقوله تعالى (لا اله الا هو) اي حيث لا حي الا هو فلا اله الا هو، فالالوهية والمعبودية لا تليق الا بمن هو حيّ أبدا ودائما وبالذات. ولا ينبغي لاحد ان يعبد موجودا يعتريه الفناء والزوال، كما قال تعالى في حكاية كلام ابـراهيم عليه السلام (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) الانعام: 76، وكذلك لا ينبغي أن يعبد ما يستمدّ حياته من غيره، بل انما يجب ان يعبد الحي بالذات وهو اللّه جلّ وعلا.

وكما لا تنبغي العبادة الا له لا ينبغي ان يحبّ الانسان غيره فإنّ العبادة الحقيقية مرحلة متقدمة من الحبّ والاعجاب، وأمّا العبادة لبلوغ المآرب سواء في الدنيا ام في الآخرة فليس الا عمل أجير يطلب عليه الأجر. والحبّ والتعلّق بالذوات الزائلة والجمال الزائل من أخطاء الانسان واشتباه الامور عليه، فهو انّما يطلب الجمال والكمال المطلق، ولكنه لا يدركه ولا يصل اليه لتفانيه في هذه الظواهر والمظاهر وبريقها الكاذب، وغفلته عن الجمال والكمال المطلق الدائم الذي لا يزول. ولو تجلّى له الجمال المطلق لم يحبّ غيره.

فادعوه مخلصين له الدين... الفاء تفيد التفريع، اي حيث انّه هو الحيّ المطلق ولا حيّ على الاطلاق غيره تعالى فادعوه. والدعاء ــ كما مرّ ــ نوع من العبادة. والمراد بالدين العبادة والطاعة. والاصل فيه التذلّل. ومنه الدين ــ بالفتح ــ لانه يوجب المذلّة. فمعنى الآية اُدعوه عابدين ومخلصين له في العبادة. ومعنى الاخلاص أن لا تشرك معه أحدا في العبادة.

والاخلاص التامّ من أهمّ الامور وأصعبها. والذي نحاول الوصول اليه غالبا انما هو خلوص النية من الرياء والعجب لا الاخلاص الكامل. و هذا الاخلاص النسبيّ ايضا صعب علينا، بل ربّما لا يبلغه الا الأوحديّ من الناس، فاذا حاول أحدنا ان يعتزل المجتمع و يعبد في السرّ ليتمكن من الابتعاد عن الرياء يصيبه الاعجاب بنفسه، فيهلك من حيث حاول النجاة.

والطريق الصحيح هو محاولة تخليص النية من الشوائب مع ترك الاعتزال فانّ الحضور في الجماعة يوحي للانسان انّه من المجموعة وأنّه احد العابدين وليس فردا ممتازا بينهم. وبذلك اُمرت مريم عليها السلام في قوله تعالى (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) آل عمران: 43.

وامّا الاخلاص التامّ فهو أن لا تعبده تعالى لبلوغ هدف او مقام حتى لو كان اخرويا بل حتى لو كان معنويا كما حكي عن امير المؤمنين عليه السلام قوله: (ما عبدتك خوفا من نارك، ولا طمعا في جنتك، لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك) وهذا لا يحصل الا لمن بلغ المرتبة الكاملة من المعرفة، فانّ السجود لذاته تعالى ولدرك عظمته لا لأمر آخر لا يمكن الا مع ادراك تلك العظمة، ورؤية ذلك الجمال المطلق بعين البصيرة.

والحاصل أنّ الآية المباركة تدعو الى محاولة الاخلاص التام، فكلّ ما تهيّأ للانسان أن يبلغه من مراتب الاخلاص فقد فاز بحظّه من الجنة الحقيقية والرضوان الاكبر.

الحمد للّه رب العالمين... يبدو أنّ هذه الجملة إنشاء لحمده تعالى والثناء عليه اختتم بها العرض السابق لنعمه تعالى وبعض صفاته الحسنى، والاستنتاج منها بلزوم الاخلاص له في العبادة. ومفادها كما مرّ مرارا أنّ الحمد كلّه للّه فمهما حمد شيء بحسن في خَلقه او خُلقه بل حتى في افعاله واعماله وصنائعه فهذا الحمد يعود الى اللّه تعالى، لأنّه خالقه وخالق صفاته وخصائصه، وخالق كل شيء بما في ذلك اعمال الانسان وصفاته.

والتوصيف بربّ العالمين يناسب الامر بالدعاء مع الاخلاص لأنّ مقتضى ربوبيته تعالى أن يعطي كل شيء ما يناسبه ويؤثّر في تربيته وتكامله.