مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

 

ألم تر الى الذين يجادلون في آيات الله أنّى يصرفون... خطاب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم او لكل مخاطب. والخطاب كناية عن الاستغراب. نعم وإنّه لغريب أمر المجادلة في آيات اللّه تعالى بعد كل ما يجده الانسان منها في الكون وفي كتب السماء ومعجزات الرسل. وقد مرّ أنّ المجادلة في الواقع هو المنازعة على أمر. ومأخوذ من الجدل وهو في الأصل الاستحكام والشدّة، فكأنّ كلا من المتجادلين يشدّ من جهته. والمراد به هنا لازمه وهو الرفض والانكار والتعصب له كما هو شأن المتجادلين.

وقوله تعالى (أنّى يصرفون) اي كيف يجانبون الحق ويتحوّلون عنه الى الباطل؟! وإنّما أتى بلفظ المبني للمجهول (يصرفون) للاشارة الى انّ انصرافهم وتحوّلهم ليس لانبعاث ذاتي بل هو امر يخالف فطرتهم، وهناك ما يصرفهم قسرا الى الباطل وهو متابعة الهوى.

وقد تكرر في هذه السورة الحديث عن المجادلة في آيات اللّه، وهذا هو الموضع الرابع الذي ذكر فيه المجادلون في آياته تعالى. ويظهر من بدو السورة أنّ هذا الأمر هو موضع الاهتمام فيها حيث ورد في الآية الرابعة من السورة المباركة (ما يجادل في آيات اللّه الا الذين كفروا...) وفي هذا الموضع ينبّـه على ما يؤول اليه امرهم يوم القيامة وما يجازون به.

الذين كذّبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا... توصيف للمجادلين في عهد الرسالة بأنّهم لا يكذّبونك فقط بل هم يكذّبون بكل الكتب السماوية وبكل رسالات السماء، فإنّ تكذيب هذه الرسالة ليس على أساس عدم القناعة بمعجزاتها وبكتابها، بل هو على أساس إنكار اصل الرسالة. ولذلك لم يقل (وبرسلنا) بل قال بما أرسلنا به رسلنا، فهم يكذّبون بالرسالة أيّا كان الرسول وفي أيّ عهد.

والغرض من ذلك بيان أنّ القوم انّما يعادون الله تعالى وينكرون آياته، وليس لهم ضغينة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم لولا الرسالة، كما قال تعالى (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) الانعام: 33. والدليل على ذلك أنّهم ما كانوا يكذّبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا يناجزونه في أي شيء قبل ذلك وانما انقلبوا أعداءا حينما أرسله الله تعالى اليهم.

فسوف يعلمون... هذا تهديد منه تعالى بمجازاتهم وعذابهم بما لا يعلمونه الآن، بل لا يتصوّرونه فهو عذاب لم يعرفه الانسان ولا يشبه ما يجده في الدنيا. ولكن متى يحدث ذلك؟ الآيتان التاليتان تبيّنانه.

اذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون... ظرف لقوله (يعلمون). ويقال: إنّ (اذ) يؤتى به لظرف الفعل الماضي، ويقال في المستقبل (اذا) وانما أتى بالظرف الخاص بالماضي للدلالة على أنّـه محقّق الوقوع فكأنّه قد وقع.

والتعبير يصوّر إذلالهم حيث يوضع الاغلال والسلاسل في أعناقهم. والأغلال جمع غُلّ ــ بالضم ــ وهو الطوق يوضع فيه عنق الاسير والمحبوس للإذلال والإيذاء. والسلاسل جمع سلسلة وهي مجموع حلقات طولية يربط بها الاسير والمحبوس. والسلاسل هنا معطوف على الاغلال اي توضع الاغلال والسلاسل في أعناقهم. و(يسحبون) حال من الضمير في (أعناقهم) اي يسحبون بهذه الحالة.  

في الحميم ثم في النار يسجرون... الحميم: الماء شديد الحرارة. وقد يطلق على نفس الحرارة الشديدة كما يظهر من موارد الاستعمال المنقولة في لسان العرب.

وأكثر المفسرين ذكروا أنّ قوله (في الحميم) متعلق بـ (يسحبون) وهو بعيد اذا اريد بالحميم الماء شديد الحرارة، نعم يقرب هذا المعنى اذا اريد به نفس الحرارة الشديدة ولكنهم لم يفسروه بها. وبناءا عليه فيختص الاسجار بالنار. والاسجار له معان متعددة منها الايقاد حيث ان السَّجور بمعنى الحطب ــ على ما في العين ــ فلعل المعنى حينئذ أنهم يجعلون وقودا للنار كما قال تعالى (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ..) البقرة: 24، وذكر هذا الاحتمال الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان.   

ويحتمل أن يتعلق (في الحميم) بـ (يسجرون) فهم يسجرون اولا في الحميم ثم في النار، كما قال تعالى (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) الرحمن: 44، اي بين جهنم والحميم. ويقرب هذا المعنى اذا اريد بالاسجار الملء وبالحميم الماء شديد الحرارة، فيكون المعنى أنّهم يملأون من الحميم ثم من النار ومعنى ملئهم من النار أنّها تدخل في أعماق نفوسهم وأرواحهم وتحرقها كما قال تعالى (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) الهمزة: 6-7. 

ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله... الظاهر أنّ (ثمّ) للترتيب كما هو الاصل فيه. ولا ضرورة لدعوى أنّها للتراخي الرّتبي بقرينة خطابهم بعد ذلك (اُدخلوا أبواب جهنم) اذ لا دليل من اللفظ على كون هذا الخطاب متأخّرا. وأما الاتيان بالفعل الماضي (قيل) فللدلالة على كونه محقّق الوقوع كما مرّ نظيره.

وهذا إذلال بالقول وتبكيت لهم فيسأل عنهم: اين الاصنام التي عبدتموها من دون اللّه وظننتم أنّها شفعاء لكم عند اللّه او أنّها ستنفعكم يوم الحاجة؟ والتعبير بأنّهم أشركوا بها من دون اللّه من باب تضمين الشرك معنى العبادة، والا فالمشركون يشركون الاصنام في التدبير والتأثير مع اللّه تعالى لا من دونه، ولكنّهم يعبدونها من دون اللّه تعالى حيث لا يعبدون اللّه تعالى وانّما يعبدونها فحسب.

قالوا ضلّوا عنا... اي ضاعوا فلم نجدهم اصلا. ولعلّ المراد أنّهم لم يجدوا منهم نفعا فكأنّهم لم يجدوهم والّا فالأصنام تحشر يوم القيامة مع المشركين كما في آيات اخرى، بل يدخلون معهم في جهنّم ويشاركونهم في كونهم وقودا لها، بناءا على أنّ الحجارة في قوله تعالى (وقودها الناس والحجارة..) يراد بها الأصنام.

بل لم نكن ندعو من قبل شيئا... وهذا اعتراف منهم بأنّهم ظنوا أنّها أشياء تؤثّر وتضرّ وتنفع فاذا هي ليست شيئا اي ليس لها أثر فكأنّها ليست موجودة.

ويمكن أن يكون هذا الانكار منهم كذبا كما قال تعالى في سورة الانعام: 23 ــ 24 (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) وعن المنافقين يقول سبحانه في سورة المجادلة: 18 (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) وقوله تعالى (كما يحلفون لكم) اشارة الى ما ورد قبل ذلك في الآية 14 (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

ولا غرابة في كذب المشرك والمنافق يوم القيامة فإنّهم دأبوا عليه في الدنيا. والوضع المتأزّم هناك لا يبقي لهم مجالا غيره. ولا ينافي ذلك قوله تعـالى (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) النساء: 42، اذ يمكن ان يكون المراد به انّهم لا يستطيعون الكتمان في النهاية حيث تشهد عليهم أيديهم و أرجلهم كما قال تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) يس: 65. والختم على الافواه ربّما يكون بعد الكذب.

هذا مع إمكان أن يقال: إنّهم بعد وضوح الحقائق هناك ووضوح سخافة الاعتقاد بقدرة هذه الجمادات أمام تلك العظمة اللامتناهية لا يصدّقون على أنفسهم أنّهم كانوا يعتقدون باُلوهية هذه الجمادات وربوبيتها وتأثيرها في تدبير الكون فيكذبون على أنفسهم استبعادا لهذا الاعتقاد في الدنيا.

وربّما يستفاد ذلك من قوله تعالى في آية سورة الانعام الآنفة الذكر: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فإنّ الظاهر أنّه معطوف على قوله (كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) فيكون كالمفسّر له والمبين لوجهه وعلته. والمعنى أنّ ما كانوا يفترونه من اعتقاد بربوبية هذه الجمادات يضلّ عنهم فلا يبقى في ذهنهم ولا يكادون يصدّقون على أنفسهم ذلك.

كذلك يضلّ اللّه الكافرين... اي بمثل هذا الضلال يضلّ اللّه الكافرين، فيمكن أن يكون المراد بهذا الضلال ما مرّ في قوله تعالى في سورة الانعام (وضلّ عنهم ما كانوا يفترون) فيكون المراد أنّهم يتيهون ويتحيّرون ولا يصدّقون على أنفسهم ما اعتقدوه وبنوا عليه دينهم واساس حياتهم في الدنيا. وعلى هذا فالمراد إضلالهم يوم القيامة.

ويمكن أن يكون المراد به الإضلال في الدنيا، والتعبير عنهم بصفة الكفر للدلالة على السبب، اي إنّهم حيث كفروا وستروا الحق ــ والكفر هو الستر ــ حقّت عليهم كلمة الضلالة، فلم يهتدوا الى الطريق واعتقدوا هذا الاعتقاد السخيف، حتى انتهى بهم الأمر الى هذه الفضيحة والكذب على انفسهم يوم لا ينفعهم شيئا.

ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق... لعلّ هذه الآية تشير الى السبب في إصرارهم على الكفر الذي أدّى بهم الى استحقاق هذا الضلال. والسبب هو الفرح بغير الحق، فالفرح مبغوض في حدّ ذاته الا بالحق قال تعالى في سورة يونس: 58 (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر فمعناه انه لا ينبغي الفرح الا بفضل اللّه وبرحمته.

وهناك آيات كثيرة تندّد بالفرح. منها ما في سورة القصص: 76 في قصة قارون: (إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ). واللّه تعالى لم يعقّب على هذا الكلام منهم بشيء ينافيه، وحيث كان فرح قارون بماله الذي يظنّ انه حصل عليها بما اُوتي من العلم فقد وقع النهي في محله.

ومنها قوله تعالى (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) آل عمران: 188. وفي هذه الآية تصريح بأنّ الفرح يوجب العذاب الأليم الا أنّه خاص بمن يفرح بعمله. والظاهر أنّ المراد به الاعجاب بالنفس.

ومهما كان فالآيات صريحة في أنّ الفرح مذموم الا بالحقّ أي بفضل اللّه وبرحمته فاذا اُوتي الانسان نعمة من اللّه تعالى ففرح بها بما أنّها نعمة من اللّه فهو حسن، أمّا اذا فرح بها لذاتها فهو فرح بالحياة الدنيا وهو مذموم، قال تعالى في صفات من ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) الرعد: 26، فلا ينبغي للمؤمن ان يفرح بما يعتبر من زينة الحياة الدنيا الا باعتبار أنّه فضل من اللّه ورحمة. وبالطبع فان ذلك لا يشمل ما يحصل عليه عن طريق غير مشروع، ولا يشمل كل ما يوجب البعد عن اللّه سبحانه من زينة الدنيا وزخارفها.

و ينبغي ان يقال ان الفرح المنهي لا بد من أن يكون أمرا اختياريا وفعلا من الانسان وهو اظهار الفرح والاستبشار، وأمّا حالة الفرح التي تحصل للانسان من دون اختياره فلا يصح أن يكون موردا للنهي، وإن صح الذم عليه إن لم يكن لامر ينبغي ان يوجب الفرح، من جهة دلالته على خبث السريرة فإنّ فرح الانسان وحزنه وإن كان من غير اختياره يدلّان على انتماءاته وتوجّهاته وميوله. وكل انسان يميل قلبا وروحا الى من يناسبه وما يناسبه.

وبما كنتم تمرحون... المرح: شدة الفرح. وفي معجم مقاييس اللغة (يدلّ على مسرّة لا يكاد يستقرّ معها طربا). ويبدو أنّ الاصل فيه هو شدة التحرك وعدم الاستقرار. والمرح مذموم مطلقا، ولذلك لم يقيّده بما قيّد به الفرح.

وقال تعالى في سورة الاسراء: 37 (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) وفي سورة لقمان: 18 (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).

والحاصل أنّ السبب في كفرهم وسترهم للحقائق هو فرحهم بالحياة الدنيا، بل مرحهم وإخلادهم الى الارض وما فيها، فإنّ شدة التعلق بالدنيا والإعجاب بزخارفها يبعّد الانسان عن اللّه تعالى وهداياته. ولذلك ورد في الحديث الشريف (رأس كل خطيئة حبّ الدنيا) [1].

اُدخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين... وهكذا ينزل عليهم الخطاب الاخير ليقرر مصيرهم النهائي الذي لا خلاص لهم منه. والأمر بدخول الأبواب بمعنى أنّ كل مجموعة تدخل من باب يناسبها، فجهنّم دركات كما أن الجنة درجات. فهم مختلفون في مراتب كفرهم وعنادهم، ولا يدخلون من باب واحد، ولكن يجمعهم أنّهم جميعا متكبّرون حيث ترفّعوا واستعلوا عن قبول الحق. والمثوى اسم مكان من الثواء اي الاقامة.

فاصبر إنّ وعد اللّه حق... وردت هذه الجملة في الآية 55 من هذه السورة بعد وعده تعالى بنصرة الرسل (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ). ويختلف الامر هنا عمّا هناك فهناك أمره بالصبر لينزل عليه النصر الموعود في الحياة الدنيا، وهنا أمره بالصبر بعد ذكر عاقبة المجادلين والمعاندين والمتكبرين يوم القيامة ليرتّب عليه أنّهم إمّا ينتقم اللّه منهم في حياتك فيشفي صدرك، او يتوفّاك قبل ذلك، فلا تهتمّ بالأمر فإنّ مرجعهم اليه، ولا يفوته عقابهم، واعلم أنّ وعد اللّه حق.

فإمّا نُرينّك بعض الذي نعدهم او نتوفينّك فإلينا يرجعون... الفاء للتفريع. و(إمّا نرينّك) جملة شرطية حذف جوابها. و(إمّا) اصله (إن) الشرطية و(ما) الزائدة وتفيد تأكيد معنى الشرط. اي إن أريناك بعض الذي نعدهم من عذاب الدنيا فقد شفي صدرك، وإن توفّيناك فإنّهم لا يفوتوننا بل يرجعون الينا فنعذّبهم. فقوله (فالينا يرجعون) جواب الشرطية الثانية.

ثم إنّ جعل الرجوع جزاءا لتوفّيه صلى اللّه عليه وآله وسلّم يشتمل على تهديد بالعذاب، كأنّه يقول فسنعذّبهم يوم القيامة، وهو جزاء الشرط في التقدير.

واللّه تعالى لا يتردّد بين أمرين، بل هو علّام الغيوب وإنّما يردّد في مثل هذه الموارد ليبهم الأمر على المخاطبين وغيرهم. والمقصود هنا إبهام الامر على المشركين والمؤمنين.

أما على المشركين فليكونوا على حذر وخوف من نزول عذاب الاستئصال عليهم، فإنّ أكثر الناس لا يهمّهم التحذير من عذاب الآخرة ولكنهم يخافون سطوة اللّه في الدنيا. ولذلك تجد اكثرهم حتى من آمن بالله واليوم الآخر يعصون اللّه بأكبر المعاصي ولا يخافونه، فاذا ابتلي أحدهم بالظلم على من يظنّ حسب معتقده أنّه يضرّه في الدنيا كبعض الأولياء فإنّه يحجم عن ذلك اتّقاء غضبه تعالى في الدنيا.

ولذلك ايضا تجد أكثر الناس لا يدفعون خمس أموالهم ولا زكاتها، ولكنهم يتصدّقون لانها ــ كما في الحديث ــ تدفع بلاء الدنيا. ويدفعون زكاة الفطرة لما سمعوه من أنّها تؤثّر في بقائهم الى السنة التالية. والحاصل أنّ الترديد يبهم على المشركين ليخوّفهم من احتمال العذاب في الدنيا لاستحقاقهم ذلك.

وأمّا الإبهام على المؤمنين ليبقي فيهم الامل والرجاء في الانتقام، فإنّ العامة من الناس لا يشفي صدورهم من الثأر الا الانتقام في الدنيا، ولا يشفيها عقاب الآخرة، مع أنّه أشدّ وأدوم. وهذا بالطبع يعود الى استعجالهم وجهلهم بحقائق الامور.

ومن هذا الباب ايضا قوله تعالى في سورة الصف: 13 خطابا للمؤمنين بعد البشارة بما أعدّ اللّه لهم من الجزاء في الآخرة (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك... الغرض من هذه الآية الردّ على المشركين حيث طالبوا بنزول آية واضحة على الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم. وقد تكرّرت حكاية هذا الاقتراح من الكفار في القرآن الكريم:

فمن ذلك ما ورد في سورة الاسراء من حكاية قول المشركين (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) الاسراء: 90 ــ 93.

وكذلك وردت الحكاية فيه عن الامم السابقة بالنسبة لرسلهم كقول فرعون (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) الزخرف: 53.

وقد ردّ اللّه تعالى على هذا الاقتراح بوجوه:

منها: أنّهم لا يؤمنون مهما ننزّل عليهم من الآيات كما قال تعالى في سورة الانعام: 111 (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ..) وقال تعالى في سورة الحجر: 14 ــ 15 (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) وورد هذا المضمون في آيات اخرى ايضا.

ومنها : أنّ نزول الآية لا يكون الا باذن اللّه تعالى و ليس من اختصاص الرسول. وهذا ايضا ورد في عدة من الآيات كالآية التي نحن فيها وكقوله تعالى في سورة الرعد: 38 (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ).

و منها: أنّ ما نزل من الآيات تكفي للحجّة كقوله تعالى في سورة طه: 133 (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى) والمراد بالبيّنة القرآن الكريم.

ومنها: أنّ اللّه تعالى لا ينزّل الآيات المقترحة رحمة بهم لأنّها اذا نزلت لا يمهلون كقوله تعالى في سورة الانعام : 158 (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ).

ولذلك لمّا طلب ثمود من نبيهم صالح عليه السلام أن يخرج لهم من الجبل ناقة ليؤمنوا به فأخرج اللّه لهم ذلك فكذّبوه وقتلوا الناقة لم يمهلهم اللّه تعالى الا ثلاثا فأبادهم جميعا. ولذلك ايضا لمّا طلب الحواريّون من عيسى عليه السلام أن ينزّل عليهم مائدة من السماء جاءهم الخطاب (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) المائدة: 115.

ومنها: أنّ تكذيب البشر للآيات من موجبات انقطاع نزولها كما قال تعالى في سورة الاسراء: 59 (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ..).

ولعل الباحث يجد وجوها اخرى ايضا.   

ومهما كان ففي هذه الآية المباركة يردّ على الاقتراح المذكور من دون ذكره بأنّ اللّه تعالى قد أرسل قبلك جمعا كبيرا من الرسل، منهم من قصّ حديثهم عليك في القرآن، ومنهم من لم يذكر قصّته فيه ولا أوحى اليك بقصّتهم ولو لم يكن من القرآن، ولم يبعث مع هؤلاء الرسل ما طالبت به اُممهم من الآيات إلّا نادرا.

وما كان لرسول أن يأتي بآية الا بإذن اللّه... هذا استشهاد بسيرته تعالى مع الرسل السابقين ليتبيّن للمشركين أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس بدعاً من الرسل. والتعبير بقوله تعالى (ما كان..) يفيد أنّ ذلك غير ممكن للرسل. وهذا هو الوجه الثاني مما مرّ من الوجوه كما أشرنا اليه.

فاذا جاء أمر اللّه قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون... المراد بأمره تعالى أمره بإنزال العذاب حيث إنّهم كانوا يطالبون به ايضا كآية من آيات اللّه كأنّهم يتحدّون غضبه تعالى كما قال سبحانه: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) الحج: 47، وكقولهم (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين) وقد تكرّر في القرآن حكاية ذلك عنهم، وقلنا إنّ المراد في بعض مواردها قيام الساعة، وفي بعضها نزول العذاب. ولكنّ أمر اللّه تعالى لا يأتي الا في وقته وأجله المحدّد. والمبطلون الذين يقولون الكذب ويدّعون الباطل.

ويمكن أن يكون المراد أمره تعالى بنزول الآية المقترحة فإذا نزلت الآية قضي بالحقّ. والحقّ في هذا الحال هو أنّ القوم اذا لم يؤمنوا بعد نزول الآية المطلوبة ينزل عليهم العذاب كما مرّ آنفا من حكمه تعالى على الحواريين في سورة المائدة: 115. وعليه فتكون هذه الجملة مكمّلة لما تهدف اليه الآية وهو تحذير القوم من مطالبة الآيات.   

ويمكن أن يكون المراد أمره تعالى بالقضاء بالحقّ بقرينة قوله (قضي بالحق) واذا جاء أمره بأن يقضى بالحقّ فلا يبقى مجال للباطل ولا يمهل المبطلون. والقضاء بمعنى الحكم. والحقّ هو الأمر الثابت ومآل ذلك الى أن يوضع كل شيء موضعه الصحيح، وينال كل إنسان جزاءه من خير او شرّ. وهذا لا يتحقّق في الدنيا الا في مواضع خاصّة كما قال تعالى في سورة الشورى: 30 (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ).

وانما يقضى بالحقّ ويوضع كل شيء موضعه يوم القيامة كما قال تعالى (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الزمر: 75.

 واذا قضي بين الناس بالحق في هذه الحياة فالذين كذّبوا بآيات اللّه تعالى لا يستحقّون الا عذاب الاستئصال. وهذا هو حقّهم الذي يطالبون به، والنتيجة هي خسارتهم التامّة حيث يخسرون انفسهم واهليهم وحضارتهم وكلما بنوا من عمارة الدنيا، والأهمّ من ذلك أنّهم يخسرون الفرصة والمهلة للتوبة والرجوع الى الله تعالى ولاصلاح أخطائهم السابقة، وبذلك يخسرون السعادة الأبدية في الآخرة.

وصريح الآية أنّ هناك رسلا لم يذكروا في القرآن قبلها، والظاهر أنّ هناك من لم يذكر اصلا لقوله تعالى في سورة النساء: 164 (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ..). وقد قيل انه لم يرد ذكر لرسول جديد الذكر بعد نزول سورة النساء، والله العالم.

ولا شكّ أنّ الرسل أكثر ممّا ورد ذكرهم في القرآن بكثير لقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) فاطر: 24، وقد ورد في الروايات أنّ عدد الأنبياء مائة واربعة وعشرين الفا، وفي بعضها مائة وعشرين الفا، وفي بعضها غير ذلك، وفي بعضها أنّ عدد الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا [2] وقد ورد في الأحاديث ذكر لرسل لم يرد ذكرهم في القرآن كما في رواية عن امير المؤمنين عليه السلام: (بعث اللّه نبيّا أسود لم يقصّ علينا قصّته). [3]

وربما يلاحظ بقايا طقوس دينية في أقوام من البشر بعيدين عن أجواء الرسل المعروفين، وتبدو أنّها من بقايا شرايع الرسل القديمة نالتها أيدي التحريف.



[1]  الكافي: ج2 ص 315 

[2] راجع الكافي ج1 ص 224 باب أن الأئمة ع ورثوا علم النبي وجميع الانبياء وكامل الزيارات ص234 وخصال الصدوق ص640 و641 وغيرهما من كتب الخاصة والعامة

[3] رواها في المجمع والظاهر انها عامية لم ترد عن طرقنا