أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشدّ قوّة وآثارا في الأرض... بهذا المقطع تنتهي السورة المباركة. وفيه يعود السياق الى ما ورد في أوائلها من الحثّ على السير في الارض للنظر والاعتبار في عاقبة الذين كفروا من قبل من الامم السابقة، حيث أرسل اللّه اليهم الرسل فكذّبوهم واستهزأوا بهم، فأنزل اللّه عليهم عذاب الاستئصال، ودمّر مبانيهم العظيمة، وأباد حضارتهم، ولم يبق منهم احدا ولا أثرا الا ما يكون عبرة لمعتبر، مع أنّهم كانوا اكثر من مشركي مكة عددا، وأشدّ منهم قوة في الجسم، وأكثر آثارا في الارض.
ولعل المراد بالآثار المباني العظيمة والغريبة التي حيّرت عقول الخبراء حتى بعد هذا التقدم المذهل في العلوم. ولكنهم مع هذه الآثار والقوة والكثرة أبادهم اللّه تعالى عن بكرة أبيهم بعد أن كذبوا الرسل. ولم تغن عنهم قوتهم وشوكتهم وكثرتهم شيئا. وهذا بنفسه امر واضح لا يحتاج الى تنبيه لأنّ الانسان مهما تمكّن من مقاومة الطبيعة وقوانينها وسخّر ما أمكنه منها لصالحه الا أنّ هناك كثيرا من القوانين لا يمكنه أن يواجهها الا بالتسليم. ولو فرضت له القدرة على كل متطلّبات الطبيعة، ولكن لا شكّ أنّه لا يمكن أن يقاوم إرادة اللّه تعالى الذي خلق الطبيعة وأسّس قوانينها.
وهذا مع أنّه واضح لا يحتاج الى بيان إلّا أنّ البشر الجاهل المسكين كثيرا ما تنتابه آفة العجب والخيلاء، فاذا وجد نفسه مقتدرا على بعض العباد العاجزين نظر في عطفه، وتخيّل أنّه قادر على كل شيء. وهكذا يزداد عجبا وخيالا الى أن يدعي الالوهية، او يدعي أنّ بامكانه مقارعة الخالق المتعال. وقد وجد كثير من الطغاة الجبابرة يتشدّقون بذلك. وكثير منهم يبدي تواضعا لله تعالى وخضوعا للتمويه على الناس، وهو في قرارة نفسه لا يختلف عن الفراعنة والذين ادّعوا الالوهية ونحوها.
فما اغنى عنهم ما كانوا يكسبون... الغنى: الكفاية. اي لم يكفهم في مواجهة غضب الله تعالى وعذابه كلّ ما بنوه من قصور ومباني، وكلّ ما تحصنوا خلفه من قلاع وحصون، وكلّ ما جمعوه من جنود وعتاد، وكلّ ما ملأوا به الخزائن من ذهب وفضة، وكلّ ما أظهروه من سطوة وقوّة، وأخافوا به العباد، وتسلّطوا به على البلاد، وكلّ ما حقّقوا من علاقات دبلوماسية وصداقات مع سائر الجبابرة، وغير ذلك ممّا يفرح به الانسان ويظنّ أنه يكفيه يوم الشدّة، ولكنّه يجهل او يغفل أنّ شيئا من ذلك لا ينفعه في مواجهة الارادة القاهرة الالهية.
فلما جاءتهم رسلهم بالبينات... أبى اللّه تعالى لرحمته بعباده التي غلبت غضبه ونقمته أن يعذّب قوما في الحياة الدنيا عذاب الاستئصال، إلّا بعد أن يبعث فيهم رسولا يدعوهم الى الخضوع أمام الربّ تعالى وعدم الطغيان على أوامره ونواهيه. وعذاب الدنيا وان لم يكن شيئا يذكر اذا قيس بعذاب الآخرة الا أنّ عذاب الاستئصال يفقد الانسان كل الفرص المتاحة للنجاة والتوبة والعود الى رشده، كما أنّه يقضي على كلّ القابليّات التي لم تصل الى مرحلة النضج كالاطفال والشباب.
ولذلك لا يعجّل اللّه عذاب الاقوام الكافرة والتي تشيع فيها المنكرات والظلم والفساد حتى يبعث فيهم الرسل، ويأتيهم الرسل بالآيات والأدلّة الواضحة، والمعجزات التي لا يمكنهم تفسيرها بما اُوتوا من العلم، وهي التي عبّر عنها في هذه الآية بالبيّنات.
فرحوا بما جاءهم من العلم... اي اغترّوا بما وصلوا اليه من العلم والثقافة والحضارة، ولم يعجبهم ما أخبر به الرسل من أخبار الغيب عن المعاد وما بعد الموت، وما طالبوا به من ترك العادات والتقاليد البالية، والتدين بما أمر به اللّه سبحانه، فتلقّوا كلامهم بالسخريّة اللاذعة، واعتبروه تخلّفاً، وبعداً عن العلم والحضارة، كما نجده ونسمعه اليوم من المدّعين للعلم الذين يظنّون أنّ العلم منحصر في ما اكتشفوه من حقائق الطبيعة، مع أنّهم لا يعلمون الا ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
وهكذا واجهوا رسالات السماء بالاغترار بما لديهم من علم الدنيا الذي به تمكّنوا من تشييد المباني وبناء المدن، واستهزأوا بالرسل وما كان يبدو على مظاهرهم من الفقر والضعف وبساطة العيش، واستهزأوا بما يحذّرونهم منه من العذاب الالهي، كما نسمعه اليوم ايضا. بل طالبوا بالعذاب واستعجلوا به كما هو الحال في عصرنا. وما أشبه الليلة بالبارحة.
والتعبير عن علمهم بأنه جاءهم لا يعني أنه إلهام او وحي من الله تعالى، وانّما هو علم اكتسبوه، وكل ما يكتسبه الانسان فهو من الله تعالى.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون... لمّا تمادوا في الغيّ وانتهت مدة الامهال التي لا يعلمها الا اللّه تعالى حاق بهم اي نزل بهم او أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به عند سماع التهديد به من الرسل. وقد مر الكلام في معنى (حاق) في تفسير الآية 45.
وللمفسرين أقوال غريبة في معنى قوله تعالى (فرحوا بما جاءهم من العلم) لا حاجة الى نقلها. وكأنّ بعضهم استبعد أن يعبّر عن ما كان لديهم بالعلم. مع أنّ العلم يصدق عليه بوضوح. وقد قال تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) الروم: 7، وقال تعالى نقلا عن قارون في مواجهة ما وعظه به المؤمنون من قومه: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) القصص: 78. ولعل بعضهم استغرب التعبير عن ذلك بـ (ما جاءهم) واستظهر منه أنّ المراد رسالات السماء مع أنّ كل ما لدينا فهو من اللّه تعالى، ولا حاجة الى تأويل.
فلمّا رأوا باسنا قالوا آمنّـا باللّه وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين... البأس: الشدّة. والمراد به هنا العذاب الالهي. والآية تنقل توبة الأقوام الكافرة والمعاندة للرسل بعد نزول العذاب، وأنهم يعلنون إيمانهم بالله تعالى وحده لا شريك له في آخر لحظة من حياتهم، ويعلنون كفرهم بما أشركوا به. وهكذا الانسان لا يرجع عن غيّه، ويستمرّ في مقارعة الحق، ولا يترك سبيل الباطل والشهوات، حتى يواجه الحقيقة المرّة.
والانسان أسير المغامرات يتلذّذ بركوبها، ويخيّل اليه دائما أنّ المجال مفتوح لتصحيح الأخطاء، مع أنّه يجد أنّ كثيرا من الأخطاء لا يترك مجالا للتفادي، فالسائق المسرع في مغامراته يتصور أنّه ماهر في ايقاف العربة متى أراد. ومع أنّه يجد في كل يوم حوادث مؤسفة، كلّها او جلّها ناتجة عن هذا التصور الخاطئ، ولكنّه مع ذلك يغامر ويخاطر بنفسه ونفوس الآخرين. وفي لحظة الحادث ربما لا يجد مجالا حتى لإظهار الندم.
وهكذا البشر في مواجهة وعيد الرسل بالعذاب الالهي، فإنّ البشر كثيرا مّا يخاطر ويغامر بل ربما يطلب العذاب ويستعجل به، وهو يظنّ أنّه اذا رأى بوادر العذاب سيؤمن ويخلّص نفسه، ولكن العذاب ربّما لا يمهل، ولو أمهل فإنّ الايمان في ذلك الوقت لا ينفع. وقد ورد التصريح بذلك في عدّة من الآيات الكريمة، ومنها هذا المقام.
فلم يك ينفعهم ايمانهم لمّا رأوا بأسنا... والسرّ في ذلك أنّ الايمان المطلوب من البشر والمفيد له في رفع درجاته ومقامه هو الايمان بالغيب، كما صرّح به في موارد عديدة ايضا. واذا تبيّن العذاب وشاهده الانسان خرج عن كونه غيبا فلا يفيده الايمان حينئذ.
وغريب غباء الانسان في مقابل إمهال ربّه، كما حدث لفرعون حيث قابل كل ما رآه من الآيات والمعجزات البيّنة الواضحة بالعناد أملا في أن يمهله اللّه تعالى أكثر فأكثر. وبلغ به الغباء غايته حينما رأى البحر قد فتح الطريق لموسى ومن معه ليفرّوا من بأسه، فغامر بنفسه وجيشه أملا في أن يمهله اللّه حتى يخرج من الجهة الاخرى، ويعيد بني اسرائيل الى عبوديته، فأغرقه اللّه تعالى. وآنذاك قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وجاءه الخطاب: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) يونس: 90 ــ 91، ولم يقبل اللّه تعالى منه ايمانه.
وهنا ايضا يحكي اللّه سبحانه عن الامم المتحضرة السابقة كيف يواجهون العذاب الالهي، ويعلنون إيمانهم باللّه وحده، ورفضهم لما أشركوا به من قبل, وكفرهم بالآلهة المزيّفة، ولكن لا ينتفعون بذلك.
سنة اللّه التي قد خلت في عباده... نعم! هذه سنّة من سنن اللّه في جميع المجتمعات البشرية، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا. والسنّة: الطريقة. والاصل فيه السير بسهولة كما في معجم المقاييس. و(خلت) اي مضت. وسنّة الله تعالى لا تتغيّر لأنّ الذي يغيّر سنّته انما يغيّرها لخطأ جهل به في ما سبق، وهو محال على الله تعالى.
وخسر هنالك الكافرون... النتيجة هي الخسارة المطلقة لمن كفر بربّه وعاند الحقّ واستمرّ في التسويف والتأخير فإنّه يخسر فرصة العودة والرجوع الى الله تعالى فيخسر نفسه واهله. نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا للتنبه قبل فوت الأوان إنّه سميع قريب. والحمد للّه أوّلا وآخرا والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين الهداة المنتجبين.