هذه السورة مدنية كما هو واضح من سياق آياتها وسميت سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذكر اسمه الشريف في بدء السورة وتسمى سورة القتال ايضا لما ورد فيها من الامر بالقتال بل هو الطابع العام لها وفيها ايضا تعرض لحال المنافقين وصفاتهم وموقفهم من الحرب ولها صبغة خاصة حيث تكرر التعرض للفرق بين الايمان والكفر والمؤمنين والكافرين وصفاتهم وجزائهم يوم القيامة وكذلك المؤمنين والمنافقين ولذلك ورد في الحديث عن اهل البيت عليهم السلام انها نزلت آية فينا وآية في عدونا وروى بعض العامة عن امير المؤمنين عليه السلام انها نزلت آية فينا وآية في بني امية ولعل المقصود انطباق آياتها بوضوح في الموردين وان كانت عامة شاملة.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ... تبدأ السورة بمقارنة بين مشركي مكة والمؤمنين الصالحين. والعنوان في كل من الفريقين يشير الى الاختلاف الجوهري بينهما فالمشركون ميزتهم الكفر والصدّ عن سبيل الله تعالى. والمؤمنون ميزتهم الايمان والعمل الصالح والايمان بالرسالة وبالحق. وتشير الآيات الى ما يترتب على هذا الفرق، فالقسم الاول عملهم باطل هباء حتى لو كان في حد ذاته خيرا، والقسم الثاني تظهر أعمالهم الصالحة وتُمحى سيئاتهم كأنهم لم يرتكبوها، فشتان ما بين الفريقين. ويتضح من السياق أن السر في البدء بهذه المقارنة مع التصريح بتأييد المؤمنين وتفنيد كيد الكافرين هو التمهيد للامر بالقتال وتحريض المؤمنين وتقوية شوكتهم وصلابتهم وعزيمتهم لمواجهة جنود الشيطان الذين لا يرتدعون ولا يبغون في الارض الا الفساد.
ويبدو من موارد اطلاق هذا العنوان (الذين كفروا) في الكتاب العزيز أن المراد بهم مشركو مكة الذين ناصبوا العداء والحرب للاسلام ولم يتركوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستمر في دعوته ويمارس واجبه الالهي حتى بعد أن تركهم والتجأ الى يثرب. والصد يستعمل في معنيين: الاعراض والمنع. وكلاهما ينطبقان عليهم فهم أعرضوا عن سبيل الله تعالى واتبعوا سبيل الهوى والفساد في الارض، وهم ايضا كانوا يمنعون الناس من التوجه الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والاستماع لكلامه والايمان به. وكانوا يبذلون غاية جهدهم ولا يتوانون عن أي عمل في سبيل منع الناس من الالتفاف حوله صلى الله عليه وآله وسلم سواء قبل الهجرة وبعدها وكانوا يمنعون القبائل من التوجه الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقطعون الطرق ويصرفون الاموال في سبيل ذلك.
وظاهر الآية هو الشمول لكل من يصدّ عن سبيل الله على اختلاف طرقهم ومشاربهم وقيل انها نزلت في اشخاص بعينهم لانهم نحروا الابل في تأليب الناس لحرب بدر وتسابقوا في ذلك وتفاخروا. والمراد بسبيل الله السبيل الذي عينه الله تعالى للناس ليسلكوه في شؤون حياتهم اي الشريعة او السبيل الذي يوصل الى رضاه والزلفى لديه تعالى.
وإضلال الاعمال بمعنى جعلها تضل طريقها ولا تصل الى الهدف المقصود بها فكأنها قافلة ضلت الطريق في الصحراء. وأما الاعمال فيحتمل أن يكون المراد بها كل ما يعتبرونه عملا صالحا ومفيدا يأملون ان ينالوا به الخير في الدنيا بل حتى في الآخرة على تقدير وجودها وان كانوا لا يؤمنون بها. وإضلالها يتم في الدنيا بعدم نيلهم الخير الذي يتوقعون وفي الآخرة بإحباطها فكأنها لم تقع من أصلها كما ورد في آيات عديدة كقوله تعالى (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)[1] ويحتمل أن يكون المراد بها جهودهم التي كانوا يبذلونها لاخماد نور الاسلام والاطاحة بقدرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
وإضلالها يتم بعدم بلوغها اهدافها كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)[2] وهذا المعنى أقرب وأنسب لآيات القتال وحالة الحرب المعلنة. ولكن ربما يقال ان المعنى الاول انسب بالمقابلة لتكفير السيئات للمؤمنين وذلك على اساس ان إضلال اعمال الكفار بمعنى ان اعمالهم الحسنة تضل وتُمحى وتبطل في ظلمات كفرهم وسيئاتهم بخلاف المؤمنين فان سيئاتهم تنمحي في ظل ايمانهم واعمالهم الصالحة.
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ... تبين من السياق أن السورة انما نزلت لتحريض المؤمنين على القتال ومع ذلك فالقرآن لا يترك الدور التربوي الذي هو الهدف الاسمى من الرسالة فلا يعبّر عن فريق المؤمنين بالذين آمنوا فقط حيث يشمل كل من آمن ظاهرا وبايع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل يقيد الايمان بالعمل الصالح لاخراج المنافقين والذين في قلوبهم مرض بل حتى ضعفاء الايمان حيث لا يظهر اثر الايمان بارزا في عملهم.
ثم إن التقييد بالايمان بما نزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه جزء من الايمان المذكور قبله على الظاهر لعله للتأكيد على ان الايمان بالله تعالى لا يكفي في سلوك سبيل الله تعالى والانخراط في الصف المقابل للصف الكافر بل لابد من الايمان بالرسول والرسالة معا كما يشير اليه توصيف الرسالة والكتاب بانه نُزّل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن هنا يتبين الوجه في التصريح بالاسم الكريم دون التعبير برسول الله والنبي ونحو ذلك كما هو الحال في سائر المواضع. ويبدو من هذا الامر أن النفاق في ذلك العهد كان مشابها لما في هذا العهد حيث يحاول بعض المنافقين من الاستهانة بدور الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم بل النيل من شخصيته الكريمة وأنه لم يكن الا وسيطا في الابلاغ وأن من يسمع كلام الله تعالى عن طريقه قد يكون أدق فهما لمغزى الكتاب من الرسول الذي جاء به!!! فكما نجد اليوم أشخاصا من هذا القبيل كذلك كان في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. والجملة المعترضة (وهو الحق من ربهم) لتعليل ايمانهم بذلك فهم لايمانهم بربهم يؤمنون بكل ما ينزل من قبله. والالف واللام في قوله (وهو الحق) لافادة الحصر والمراد به الحصر الاضافي فالثقافات الدينية الموجودة في ذلك العهد كلها باطلة الا ما نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا ينافي كون الشرائع السابقة حقا نازلا من عند الله تعالى.
هذا والعلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر التقييد بالايمان الثاني تقييدا احترازيا بدعوى ان الايمان الاول ايمان بالله تعالى فلا يختص بالمؤمنين بالرسالة. ولكنه بعيد لان المراد بالذين كفروا في مصطلح القرآن مشركو مكة كما صرح به العلامة نفسه في عدة موارد ويقابلهم المؤمنون بالرسالة لا كل من آمن بالله تعالى كما صرح ايضا بان المراد بالذين آمنوا في مصطلح القرآن كل من آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم. نعم لو لم يقيد بالعمل الصالح أمكن القول بان التقييد بالايمان الثاني لاخراج المنافقين ونحوهم حيث انهم لم يؤمنوا بكل ما نزل على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وان أسلموا ظاهرا ولكن يكفي في اخراجهم التقييد بالعمل الصالح.
وتكفير السيئات بمعنى سترها وقد ورد تكفيرها في مواضع متعددة من الكتاب العزيز والمراد ان الله تعالى بسبب بعض الاعمال يستر السيئات عن المؤمنين مضافا الى تجنيبهم العقوبة يوم القيامة حتى لا يصيبهم الخجل ولا يفتضحون بسبب اعمالهم السيئة. وليس المراد بالسيئات كل عمل محرم وكل جريمة وجناية بقرينة مقابلتها بالكبائر في قوله تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ..)[3] ويحتمل ان يكون المراد به هنا ــ بمناسبة أن الهدف من السورة المباركة الحثّ على الجهاد ــ ستر الاعمال غير الصالحة التي تنافي الاستعداد للمواجهة ويتم التكفير بمنعها من البروز والتأثير في نفوس المجاهدين.
واختلف في معنى البال فقيل انه بمعنى الحال الذي يكترث به ويهتم. وعليه فيمكن ان يراد باصلاحه جعله صالحا لبلوغ المقصد والغاية. وهذا يشمل كل الجوانب التي يحتاج المجتمع الرسالي الى اصلاحها قبل دخوله الصراع مع المناوئين للرسالة التي تحمّـل أعباء تبليغها سواء كان من الجانب المادي او المعنوي ولذلك فان كل مستلزمات الانتصار على الاعداء كانت مهيأة للمجتمع الاسلامي آنذاك بفضل الله ورحمته. ويمكن ان يراد ما هو أعم من ذلك اي لا يختص بشؤون مواجهة الأعداء فيكون اصلاح بال المؤمنين بمعنى اصلاح احوال الاشخاص من الجهات النفسية والمعنوية فان المؤمن لايمانه بالله تعالى وركونه الى القدرة اللامتناهية ووثوقه بها لا يهزّ كيانه شيء ولا تزعزع ايمانه الاباطيل ولا ينتابه اليأس والقنوط وأما الشؤون المادية فتتبع معرفة الانسان بالعوامل الطبيعية والاسباب التي جعلها الله تعالى وتتبع ايضا همته وارادته.
وقيل معنى البال رخاء العيش ومعنى اصلاحه واضح الا انه لا يناسب آيات القتال. وقيل معناه الشأن وهو معنى عام وهو المراد حين يقال ما بالك كما قال تعالى (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى)[4] واصلاحه يشمل ما مر في تفسيره بالحال المكترث به ولعل التفسيرين يرجعان الى معنى واحد. وفي معجم المقاييس البال بال النفس يقال ما خطر ببالي اي ما اُلقي في رُوعي ومن هذا الباب تفسيره بالخاطر ونحوه وعليه فالمراد بإصلاحه إلهامهم الطمأنينة والاستقرار وثبات القلب وهو أنسب بآيات القتال. والظاهر أن كل ما قيل في تفسيرها صحيح فهي كلمة لها معان متعددة حسب موارد الاستعمال.
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ... تعليل للتفصيل المتقدم و(ذلك) مبتدأ وما بعده خبره. قيل: هذا التعليل توضيح لتعليل مفهوم من نفس الكلام السابق وهو ما يسميه علماء البيان تفسيرا وذلك لان قوله تعالى (الذين كفروا... اضل اعمالهم) يشعر بان العلة في الاضلال هو الكفر والصد كما ان الجملة التالية تشعر بان العلة في التكفير واصلاح البال هو الايمان والعمل الصالح فهذه الجملة التعليلية تبين ما انطوت عليه الآيتان من التعليل وتفسره.
وهذا غير صحيح وينافي ما ورد بعد الجملة التعليلية من ان هذا ضرب للامثال وبيان للقاعدة الاساسية للناس حتى يطبقوها على انفسهم ويعلم بذلك ان الحكم لا يختص بذلك العصر وبالكافرين والمؤمنين فالسبب الحقيقي لاضلال اعمال الكافر واصلاح بال المؤمن هو ان الكافر يتبع الباطل والباطل ذاهب وزاهق لا اساس له ولا جذور وربما يكون له ظاهر انيق ولكن باطنه فاسد والمؤمن يتبع الحق الذي يأتيه من ربه والحق هو الامر الثابت الذي يعتمد على ما انزله الله تعالى من البينات فلذلك ضلت اعمال الكافر وصلح بال المؤمن وسترت سيئاته. وعلة الحكم تعمم وتخصص فان المناط ليس هو الكفر والايمان بل متابعة الحق والباطل.
بيان ذلك ان الذي يتبع الحق يستهدف بعمله هدفا صحيحا واقعيا ويسلك طريقا صحيحا موصلا فلا شك أنه يصل الى هدفه وهو الحق والذي يتبع الباطل يرى سرابا وخيالا وامرا موهوما ولو فرض انه رأى هدفا واقعيا صحيحا الا انه يسلك طريقا معوجا منحرفا يبعده عن الهدف كلما توغل فيه. وفي الواقع من لا يؤمن بالله ليس له هدف طويل الامد فهو لا يرى الآخرة وانما يستهدف باعماله الغايات الدنيئة الزائلة في الحياة الدنيا وهي ليست في الواقع هدفا يناسب الانسان وكرامته وعقله ومواهبه وانما تناسب الحيوانات فالانسان يوم القيامة حينما تنكشف له الحقائق يعلم انه انما كان يركض وراء خيال وسراب قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ).[5]
وهناك من يؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر فهدفه حق ولكنه يسلك طريقا خاطئا فلا يتبع الرسول ولا يأتمر بأوامره ولا ينتهي عن نواهيه او يدّعي متابعته ولكنه يأخذ الشريعة عن غير الطريق الذي عينه الرسول من بعده فان كل هذه الطوائف يتبعون الباطل ونحن نعلم ان رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم قال وقد تواتر عنه (اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ابدا وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) فمن سلك غير طريق العترة الطاهرة عليهم السلام فانه يتبع الباطل وان آمن بالله ورسوله واليوم الآخر. والحكم في الآية وان كان معلقا على الكفر الا ان الجملة التالية تعممه.
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ... الضمير يعود الى الناس واسم الاشارة الى ما مر من بيان حال الكفار والمؤمنين والاساس الذي ابتنى عليه حالهم فالكافر يضل عمله لانه يتبع الباطل والمؤمن يصلح باله وتستر سيئاته لانه يتبع الحق من ربه فهذا هو الاساس والقاعدة وعليه فالحكم لا يختص بالمجموعتين: كفار مكة والجزيرة العربية من جهة، والذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم من جهة اخرى، بل يشمل كل من يتبع الحق او يتبع الباطل سواء كان ضمن المجموعتين او خارجهما وهذه الجملة لتعميم الحكم. والامثال جمع مَثَل بفتحتين ما ينصب علامة لأمر مّا والاصل فيه المثول والقيام والمراد هنا أن ذكر الكافرين والمؤمنين في هذا الموضع من باب التمثيل لأمر عام يشمل جميع الناس.
[1] الفرقان: 23
[2] الانفال: 36
[3] النساء: 31
[4] طه: 51
[5] النور: 39