مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ... في هذا المقطع يبين الله تعالى الفارق الكبير في النتيجة بين الفريقين ليتبين أن الفرق ليس في ما ينزل في هذه الدنيا من عذاب الاستئصال بل الفارق الاكبر في العاقبة يوم القيامة والله يريد الآخرة وان كان الانسان لضيق نظره ينظر الى العاجل ويهتم به أكثر حتى إنّ كثيرا من المؤمنين يستغربون من حسن حال الكفار في الدنيا وتمتعهم ويحسبون أن ذلك إكرام من الله تعالى فهذه الآية تدفع هذا الاستغراب وتبين أن العاقبة للمؤمنين. ولكنه هنا يفرق بين الناس لا على أساس الفريقين المؤمنين والكافرين كما مر في الآية السابقة وما قبلها بل على أساس الايمان الواقعي الذي يستتبع العمل الصالح فيتبين منه أن هناك فِرَقا من المؤمنين في الظاهر يدخلون في فريق الكفار يوم القيامة وان شملتهم الرحمة الخاصة بالمؤمنين في الدنيا.

ومن الملفت أن التعبير هنا لم يركز على دخول الجنة كما في كثير من الآيات بل عبر عن ذلك بأن الله تعالى هو الذي يدخلهم ولذلك قدّم اسم الجلالة لاظهار أن الاهتمام من هذه الجهة وهذا التعبير يوحي بأن هذا إكرام لهم من عنده تعالى وهذه هي النعمة الكبرى التي يسعد بها الانسان غاية السعادة اذا شعر به سواء كان في الدنيا ام في الآخرة.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ... وفي المقابل ليس للكافرين الا الاكل والتمتع في الدنيا كأكل الحيوان وتمتعه وفيه اشارة الى أن أكل المؤمن وتمتعه ليس كأكل الكافر فهو يتحرى في أكله أن لا يكون حراما بل ربما يكون هادفا فلا يأكل الا بمقدار الحاجة ويتصدق بالفضل كما قال تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ..)[1] والكافر حيث لا يعتقد بالله ولا بالحياة الآخرة فلا يهمه الا بطنه وتمتعاته وشهواته ولا فرق بينه وبين الانعام والبهائم. وتشبيه أكلهم بأكل الانعام ليس من حيث الكثرة فليسوا كلهم كذلك بل من حيث إنه هو الهدف حتى لو لم يعترفوا به بل أظهروا خلافه فان أعمالهم وطريقتهم في الحياة تظهر بوضوح أن الأكل ــ والمراد مطلق التمتع بالدنيا وحب المال والجاه ــ هو الغاية لكل نشاط لهم ومن هنا يتبين أن كثيرا من المؤمنين في الظاهر يدخلون تحت هذا العنوان. ثم وبعد ذلك عاقبتهم النار فهم شر مكانا من الانعام كما قال تعالى (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)[2] والمثوى مكان الاقامة.

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ... (كأيّن) اسم استفهام بمعنى كم ويفيد التكثير وهو هنا مبتدأ خبره (أهلكناهم) والغرض تسلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتهديد كفار مكة وإنذارهم بعذاب ينزل عليهم من السماء او بايدي المؤمنين وذلك بالاستشهاد بالمجتمعات الكافرة طيلة التاريخ حيث أفسدوا في الارض وقتلوا النبيين او أخرجوهم وقتلوا المؤمنين فأنزل الله عليهم عذاب الاستئصال وأفناهم عن آخرهم ولم يكن لهم من ينصرهم من بأس الله وهم كانوا أشد قوة من أهل مكة كما يشهد به بقايا حضاراتهم مما كان أهل مكة يشاهدونها في أسفارهم الى الشام وغيرها.  

قيل: والمراد بالقرية اهلها بقرينة قوله (اهلكناهم). ولكن الظاهر انه يصح اطلاقها على الناس وعلى الموضع بل لعل اطلاقها على الناس اولى لانها في الاصل - كما في معجم مقاييس اللغة - مأخوذة من قرى بمعنى جمع والاجتماع صفة للناس في الحقيقة وانما يطلق على الموضع لانه مكان اجتماعهم واما الاتيان بالضمير المفرد المؤنث اي قوله (هي) وقوله (اخرجتك) بلحاظ لفظ القرية. وتوصيفهم بانهم أخرجوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار أنهم ضيقوا عليه وعلى المؤمنين حتى اضطروا الى الخروج.

وفي إضافة القرية الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وتوصيفها بأنها أخرجته مع أنها قريته اي وطنه تعريض بالمشركين بأنهم لم يراعوا حق المواطنة والقرابة وهو في نفس الوقت إشارة الى الظلم الذي وقع عليه صلى الله عليه وآله وسلّم ويبدو منه أنه كان يشعر بالضيم والضيق لهذا السبب وان كان في مدينته المنورة في غاية العزة والمنعة والكرامة. والتذييل بقوله (فلا ناصر لهم) تفريع على إهلاكه تعالى لهم فان المشركين كانوا يعوّلون على أن العرب من حولهم يمنعونهم من كل اعتداء وينصرونهم في الحروب إكراما للبيت العتيق وسدنته والآية الكريمة تنبههم بأن الإهلاك ان كان من الله تعالى فلا ناصر لهم والاتيان بلا النافية للجنس يؤكد أنه لا يوجد ناصر لهم بتاتا.

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ... عود الى بيان الفرق بين الفريقين ففريق يعتمد الادلة الواضحة البينة المبينة النازلة من ربهم التي تنير لهم الدرب فهو يسير بخطى واثقة مطمئنة يعرف طريقه ويعرف مصيره لا يشوبه أدنى شك ولا ريب وفريق يعمل السيئات ويتّبع هواه وهو يحسب نفسه مثقفا عالما وأنه اختار الطريق الاصلح في الحياة فلا يجد الطريق الصحيح ولا يهتدي بهدى الله تعالى ولا يظن بنفسه الضلال ليبحث عن الحق لانه يرى عمله السيء حسنا وليس معذورا في جهله هذا لأنه اصيب به بسوء اختياره.

والاستفهام للانكار اي ليس الفريقان متماثلين. والفاء للاستيناف. وأتى بالضمير المفرد في قوله (زين له سوء عمله) بلحاظ لفظ الموصول فانه مفرد وأتى بالجمع في قوله (واتبعوا أهواءهم) باعتبار المصاديق وهذا الاختلاف حسب الاعتبارين انما يأتي لغرض ما ولعله هنا رعاية التناسب في آخر الآيات فان روعة التعبير مقصودة في القرآن.

والبينة: الحجة الواضحة والموضحة. والاستعلاء مجازي كأنه على طريق واضح يسير فيه، فهو لا يشكّ في صحة طريقه وذلك لانه من ربّه وليس كل وثوق بالطريق حجة فلا يغرنّ الانسان مجرد كونه واثقا مطمئنا فانه ربما يثق بمن لا معرفة له بسبل الخير كما نجد كثيرا ممن يتخبّطون في شؤون الحياة وهم واثقون من صحة طريقهم الى اقصى الحدود بحيث تهون عليهم أنفسهم في سبيل غايتهم مع أنها مما لا يقبله العقل السليم كمن ينتحر وهو مسلم من أجل إبادة المسلمين حتى الاطفال والنساء والمرضى والشيوخ فمثل هذا الوضوح لا يفيد الانسان وليس حجة له لانه ليس من ربه.

وتزيين الاعمال ورد هنا مبنيا للمجهول وفاعله الشيطان كما قال تعالى (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ..)[3] وسيأتي في هذه السورة ايضا (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) وينسب الى الانسان نفسه ايضا كقوله تعالى (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا..)[4] وقوله تعالى (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)[5] والتسويل: التزيين. وبالطبع فانه كسائر الحوادث ينسب الى الله تعالى خالق الكون كقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ).[6]

قيل: إن قوله تعالى (واتبعوا أهواءهم) لبيان النتيجة وان التزيين سبب لمتابعة الهوى ولكن الظاهر أن العكس هو الصحيح ومتابعة الهوى سبب لتزيّن العمل السيئ فانه في حد ذاته امر غريب وغير طبيعي حيث ان الله تعالى زوّد الانسان بجهاز الادراك ليدرك الامور على واقعها فكيف ينقلب الامر ويتراءى له العمل السيئ جميلا مزيّنا؟!

السبب أن جهاز الادراك يتأثر بالعادات السيئة فان اعتاد الانسان متابعة هواه فانه تدريجا يفقد ادراكه للحسن والقبح وذلك لانه في اول مرة يدرك قبح الفعل ولكنه لشدة تعلقه بهواه لا يكبح جماح نفسه فيفعله مدركا قبحه وبالطبع فانه مقدمة لاتيانه لا بد له من ان يبرر عمله بعذر يضفي على العمل نوعا من الحسن ولو من جهة الضرورة او الحرج او عدم القدرة على المقاومة ونحو ذلك من الاعذار الواهية واذا تكرر الامر يضعف عنده ادراك القبح وهكذا بالتدريج تتبدل لديه المقاييس حتى يتصور الشيء القبيح حسنا بل يرى الشيء الحسن قبيحا. وللاعلام المنحرف عن الحق ايضا دور كبير في ذلك.

وهذا الامر مشهود ومحسوس لدينا جميعا في جميع شؤون الحياة فكم من امر كنا نعتبره قبيحا لا نطيق رؤيته واصبحنا اليوم نمرّ عليه مرّ الكرام لا يثير فينا اقل درجة من الاستياء ولا ننهى عنه بل ربما نتحدث الى صاحبه بكل حفاوة وارتياح ولم يحصل هذا التحول فجأة وانما حصل بالتدريج بسبب التعود على هذا الوضع المزري وهذا امر خطير جدا ينبغي التنبه له ولا يمكن حله الا بالابتعاد عن المجتمعات الفاسدة اوعدم الانخراط معهم لو اضطررنا للبقاء فيهم.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى... (مثل الجنة) مبتدأ خبره (كمن هو خالد في النار) وفي الجملة تقدير الاستفهام الانكاري اي أمَثَل الجنة كمن هو خالد في النار.. ولا بد من تقدير آخر ليتكافأ طرفا المقارنة فإمّا أن يقدر أمثل ساكن الجنة كمن هو خالد.. او يقدر أمثل الجنة كجزاء من هو خالد.. وعلى كل تقدير فجملة (فيها انهار..) جملة وصفية.

وفي حذف همزة الاستفهام دلالة اخرى مضافا الى انكار المماثلة فهناك فرق بين ان تقول لاحد في مقام الانكار (هل يستوي لديك العالم والجاهل) وان تقول مستنكرا ومتعجبا (يستوي لديك العالم والجاهل) بتقدير الهمزة فانك في الجملة الثانية توهم انك تثبت عليه ما تستنكره. وكذلك الآية الكريمة فان حذف الهمزة يوهم أن المخاطبين وهم الغالب من البشر يساوون بين المصيرين الخلود في الجنة والخلود في النار لان هذا هو الذي يتبين من عملهم وسيرتهم وان لم يعترفوا به لسانا.

والمشهور في تفسير الآية كنظائرها في القرآن انه توصيف حقيقي لما في الجنة من ملذات ومناظر حتى ان بعضهم فسر كلمة مثل بالصفة فالمعنى ان صفة الجنة ان فيها انهارا من ماء غير آسن ووو.

والآسن: الماء الذي تغيرت رائحته فلا يشربه احد من نتنه واما اذا لم يبلغ هذا الحد يقال له آجن. قالوا: وانما ذكر هذه الامور الاربعة لانها التي يحتاج اليها الانسان في حياته الدنيا فأول شيء يبحث عنه هو الماء العذب النقي ثم الغذاء المناسب ثم ما يتذوقه للتلذذ ورفع الهموم ثم ما يتداوى ويتقوى به فالتعبير يوحي بأن كل ذلك مهيأ له في الجنة بوفور وبكيفية خيالية لا يمكن مثلها في الدنيا الا في التصورات والاحلام والاماني فهناك أنهار من ماء لا تتغير رائحته ولا طعمه وليس كالماء في الدنيا حيث تتغير رائحته وطعمه بأدنى مماسة للمواد الخارجية ويصبح آسنا يضر ولا يفيد.

واللبن غذاء صحي طبيعي ولكن الانسان يحتاج لتحصيله الى حلب البقرة ونحوها ثم يحتاج الى حفظه من التغير ومع ذلك فهو قليل يحتفظ به في علب واما هناك فاللبن يأتيه من دون حلب وفي انهار ولا يتغير طعمه أبدا ولعل تعدد النهر باعتبار الافراد فلكل في جنته نهر من لبن او باعتبار تعدد الانواع وكذلك في العسل والخمر بل وحتى الماء.

والخمر يشربه الانسان او يحب أن يشربه ليتلذذ وينسى هموم الدنيا وهو هناك ليست له هموم ولكنه يحب التلذذ ولعله كان معتادا بالخمر فتركه لنهيه تعالى. والعرب قبل الاسلام كانوا مهتمين بها جدا بل بعده ايضا. وقد حكي ان الاعشى جاء مادحا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قاصدا الاسلام فانتبه شياطين قريش انه سيمثل دعاية قوية لخصمهم فاعترضوا طريقه وقالوا له: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم، قالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك وعدّوا له امورا فاستهان بها فقالوا: الخمر. قال: أوّه! أرجع إلى صبابةٍ قد بقيت لي في المهراس فأشربها وانطلق إلى بلده فلما كان بقاع منفوحة رمى به بعيره فمات. هكذا كانت الخمر عندهم ولذلك تدرج الدين في النهي عنه كما هو معروف. واللذة في قوله تعالى (لذّة للشاربين) اما صفة مشبهة مؤنث اللذّ كالصعب او مصدر وصفت به الخمر من باب المبالغة.

والعسل الذي هو شفاء وغذاء ايضا يأتيه في انهار فلا حاجة له الى تعقب النحل ليتناول منه العسل بعد انتظار طويل حيث تذهب اسراب النحل الى الازهار لتناول الشهد منها ثم تعود ليخرج من كل واحدة قطرة من عسل ويصبر الانسان ليجتمع منه ما يملأ به اناءا او اكثر بل يأتيه هناك بكل انواعه في أنهار ولا يحتاج ايضا الى تصفية بل هو مصفى من الشوائب ومن الشمع.

هذا هو التفسير المشهور ولكنّ هنا احتمالا آخر في معنى المثل وهو أن هذه الاوصاف تمثل وتقرب الى الاذهان ما يوجد في تلك الحياة من اللذائذ المادية والمعنوية وقد لا يكون المراد نفس هذه المواد بذاتها، بل المراد توصيف الجنة وما فيها بذكر ما يماثل أوصافها تقريبا ولو في بعض الجهات من الصفات المعروفة للانسان والحاضرة لديه في هذه الحياة لتقريب مفهوم جنة الخلد التي وعد المتقون الى الاذهان فانه مفهوم غير مأنوس للبشر وعنوان الجنة لا يكفي لتصورها حتى اجمالا فهي ليست كسائر الجنان التي نشاهدها ولذلك قيدها بالتي وعد المتقون.

والسر في التقريب أن الجنة اعلى وارفع مكانا من ان يحيط بها اللفظ فالالفاظ موضوعة لهذه المواد الدنيوية ولا يمكنها ان تعبّر عن تلك الشؤون ولا طريق الى بيانها وتوصيفها الا التقريب ولذلك قال تعالى عنها (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).[7]  

ولعل ذكر الخمر في الجنة من هذا الباب ايضا فالتعبير يلاحظ فيه ما يهتم به المخاطبون والا فليس ما يعبر عنه بالخمر في الجنة كالخمر هنا كما هو واضح فهي خمر لا تضر كما قال تعالى (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ)[8] والغول: الهلاك التدريجي بحيث لا يشعر به الانسان ومنه القتل غيلة. وقال تعالى (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ)[9] بل هي لا توجب سكرا ايضا. كما ان سائر ما ذكر ليس كما هو موجود في الدنيا وكيف يمكن ان يجري اللبن في النهر ولا يتغير؟!  

والحاصل انه بناءا على هذا الاحتمال لا يراد بهذه التعابير الا الافصاح عن حقيقة غريبة عن أذهان المخاطبين وتصوراتهم ولا شك أن الانسان تتغير نفسياته وتوقعاته وملذاته باختلاف مراحل العمر وباختلاف مراحل التكامل المعنوي فالانسان في طفولته يتلذذ بامور تناسب روحه وجسمه وهو لا يهواها ولا يتلذذ بها في الكبر بل كلما تقادم به العمر تغيرت اهواؤه وملذاته. وهكذا التحول في الكمال المعنوي فاذا تدرج الانسان في مدارج العلم سواء كان ماديا او معنويا فانه يتلذذ بالوصول الى اي معلومة يكتشفها اكثر من اي لذة مادية واذا وصل الانسان الى معرفة الله تعالى وتدرج في مدارجه فانه يشعر بلذة ما مثلها لذة ولا يمكن توصيفها ولا تقريبها الى الذهن وخصوصا اذا شعر الانسان بلطف من الله تعالى يغمره بل حتى لو أحس الانسان بضربة موجعة منه تعالى لتأديبه ومنعه مما لا يناسب شأنه فان في ذلك لطفا وعناية خاصة وإشعارا بالاهتمام به والله تعالى لا يؤدب من لا حاجة له فيه كما ورد في الحديث.

روى الكليني قدس سره بسنده عن ابي عبدالله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم (لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله وبدنه نصيب)[10] اي من لا تصيبه مصيبة في ماله ولا بدنه وانما اعتبر ذلك نصيبا لله تعالى لانه يبتلي الانسان بما يصيبه في بدنه وماله فتكون زكاة له.

ويوم القيامة ينكشف الغطاء للانسان ويدرك حقائق ما كان يمكنه ادراكها في هذه الحياة حتى يتلذذ بها فهو يحظى هناك بلقاء الله تعالى وأي سعادة أعظم منه؟! ولقاؤه تعالى يحصل للانسان في مراحل ودرجات فأول مرحلة منه يحصل لكل انسان وذلك حين الموت فان الموت اول مراحل تخلّص الانسان من سجن الطبيعة ومن سجن الجسم ومن قيود المادة والزمان والمكان ومن الغريب ان الانسان يكره الموت أشد كراهة حتى مع ايمانه بالحياة الابدية بعده مع أنه بالموت يخرج الى عالم فسيح وهو فيه حر طليق وأعظم ما فيه أنه يحظى بلقاء ربه قال تعالى (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[11] ومثل الانسان في هذه الدنيا كطفل يولد في السجن ولم يشعر بما في خارجه من المناظر البهيجة فاذا اخبر أنه سيخرج من بين من أنس بهم طيلة حياته فانه ينزعج ومهما يُحدّث عن زينة الدنيا فانه لا تنقطع علاقته بما حوله.

وفي مرحلة اخرى اذا فاز الانسان بدخول الجنة فانه يحظى برضوان من الله تعالى وهو أعظم ما في الجنة من ثواب بل ليس في الجنة ما يقاس به والمؤمنون في ذلك درجات وبذلك تتحدد درجات الجنة ومراتبها ويبعد جدا أن يكون هناك اختلاف في اللذائذ المادية فالله تعالى أكرم من أن يمنع أولياءه من هذه اللذائذ وقد قال تعالى (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)[12] فلا يبعد أن يكون اختلاف الدرجات في اختلاف القرب والحظوة لديه تعالى ونحن لا نشعر ولا ندرك هنا وفي هذا السجن الرهيب مدى أهمية هذه الدرجات ولذلك نزهد فيها ونقنع بأن ندخل الجنة ان كنّا اهلا لها وان كان ذلك في أدنى مراتبها. ولا يبعد أن يكون في الاختلاف المشار اليه في الفاكهة والعيون ونحو ذلك ايضا اشارة الى هذا الاختلاف كما ورد في سورة الرحمن والواقعة والانسان والمطففين وغيرها ببيان لطيف جدا لا يشبع الانسان من تكراره.

قال تعالى في سورة المطففين (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)[13] والرحيق هو الخمر وقيل هو احسنه والظاهر ان كونه مختوما اشارة الى نفاسته والاهتمام به كما هو الشأن في خمور الدنيا وغيرها ولكن الختام هناك ليس من الطين او غيره من المواد التافهة بل من المسك ويمكن ان يكون بمعنى أن ما يختتم به الشرب رائحة لطيفة كالمسك بخلاف خمور الدنيا ولكن المهم في ذلك انه مع نفاسته ومع ان الله تعالى يدعو الى التنافس في تحصيله الا انه يمزج بما هو أعلى منه وأنفس وهو ما يؤتى به من عين في الجنة سماه الله هنا تسنيما وهو مأخوذ من السنام بمعنى الرفعة وهي عين يشرب بها المقربون وهنا يتبين الفرق بين الفريقين الابرار والمقربين. ويبعد جدا ان يكون الفرق في لذائذ مادية وانه تعالى يبخل على الابرار بتلك العين.

ويشهد لذلك ان نفس هذا الفرق بين الفريقين عبر عنه في سورة الانسان بوجه آخر وباسم آخر قال تعالى (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ..)[14] فالعين الخاصة بعباد الله تعالى هنا هي الكافور ويمزج بها ما يشرب به الابرار وأضاف الى ذلك أن عباد الله هم الذين يفجرون العين تفجيرا فهم صناع العين في  الجنة والظاهر انه حكاية حالهم في الدنيا بقرينة قوله تعالى (يوفون بالنذر..) وسيأتي ان شاء الله تتمة الكلام في تفسيرها.

ويمكن أن يكون التدرج في ذكر هذه النعم ايضا للاشارة الى مراتب الاختلاف في القرب لدى الله تعالى فالماء غير الآسن مرحلة نازلة ثم يصل الى مرحلة اللبن الذي لم يتغير طعمه وهناك فرق كبير بين ماء لم تتغير رائحته ولم ينتن وبين لبن لم يتغير طعمه ثم يأتي بعد ذلك الخمر الذي يتلذذ به الشارب ثم الى العسل المصفى.

ويحتمل ان يتكامل الانسان في تلك المرحلة من التكوين ايضا وان لم يمكن ذلك بلحاظ عمله فقد انتهى وقت العمل الا ان رحمة الله تعالى قد ترفع بالانسان الى مدارج الكمال من دون عمل هناك ولذلك صحّ من المؤمنين الدعاء قال تعالى (يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا..)[15]      فيحتمل أن يكون العسل المصفّى آخر مرحلة للكمال البشري يحصل عليه بعد ان هام في حبّ ربه وشرب من الخمر الطهور كما قال تعالى (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)[16] وزالت عنه كل العلائق حتى ما يتعلق بنعيم الجنة فله بعد ذلك ان يتلذذ بالعسل المصفى ويصل الى معدن العظمة ويتعلق روحه بعزّ قدسه كما في المناجاة الشعبانية.

وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ... اي الفواكه. والتعبير عن طعام أهل الجنة بالفواكه لانها لا تؤكل لسد الجوع بل للتلذذ. والجنة ليس بها جوع. والجملة تدل على ان المتقين باجمعهم لا يُمنعون من اي نوع من الثمرات وهو مقتضى قوله تعالى (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا..) كما مر. مع انه تعالى في سورة الرحمن خصص الجنتين الاوليين الخاصتين بالمقربين بأنهما تشتملان على كل فاكهة قال تعالى (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ)[17] واما اللتين من دونهما فقال عنهما (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)[18] والجمع بين الموردين يقتضي ما لم نستبعده آنفا من أن المراد بما ورد في سورة الرحمن بيان الاختلاف في درجات القرب لدى الله تعالى فلا منافاة بين قوله تعالى هنا أن لهم جميعا من كل الثمرات وبين التفصيل المذكور في سورة الرحمن.     

وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ... يظهر من ذكر المغفرة في هذا السياق أنها من النعم المستمرة التي يتنعم بها أهل الجنة. وممّا لا شكّ فيه أنّ المغفرة لا بدّ منها مقدما على دخول الجنة اذ لا يدخلها الانسان اذا لم تغفر له ذنوبه فما هو المراد بالمغفرة التي تضفى عليهم باستمرار في الجنة مع انهم في دار القدس ليس فيها ذنب ولا قبيح. الظاهر أن المراد ستره تعالى على عيوبهم التي كانوا عليها في الدنيا حتى لا يتذكرها أحد منهم لا بالنسبة الى نفسه فيتأذى من وخز الضمير ويتنغص عيشه كما هو الحال في الدنيا ولا بالنسبة الى غيره فينتقص من قدر أحدهم في عيون اخوانه.

كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ... اي أَمَثَلُ ساكن الجنة كمن هو خالد في النار سجين فيها أبدا لا يفارقها على ما مر بيانه. وبدلا من تلك الانهار التي مضى وصفها وصف حال هذا البائس بأنه يسقى من ماء حميم اي حارّ شديد الحرارة يقطّع أمعاءهم وهم بحاجة الى الماء بسبب النار. وكل ذلك ايضا لا يبعد ان يكون توصيفا لحالة من العذاب الشديد لا يمكن توصيفه في هذه الدنيا وحسب مفاهيمها ولغتها الا بهذا التعبير فالنار هناك ليست كالنار هنا وقد وصفها الله تعالى بانها تطّلع على الأفئدة قال تعالى (نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)[19] والمراد بها الارواح فهي تُحرقها قبل الاجسام والروح لا يحترق بنار الدنيا. وهكذا سائر ما ورد في وصفها ووصف الماء الذي يسقون والطعام الذي يؤتون كقوله تعالى (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ)[20] وقد مر بعض الكلام حوله في تفسير سورة الصافات الآية 62 وسورة الدخان الآيات الآنفة الذكر.

 


[1] البقرة: 219

[2] الاعراف: 179

[3] النمل: 24/ العنكبوت: 38

[4] يوسف: 18/ 83

[5] طه: 96

[6] النمل: 4

[7] السجدة: 17

[8] الصافات: 47

[9] الواقعة: 19

[10] الكافي ج2 ص 214 باب شدة ابتلاء المؤمن

[11] العنكبوت: 5

[12] ق: 35

[13] المطففين: 22- 28

[14] الانسان: 5- 7

[15] التحريم: 8

[16] الانسان: 21

[17] الرحمن: 52

[18] الرحمن: 68

[19] الهمزة: 6- 7

[20] الدخان 43- 46