مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا... يظهر بوضوح من سياق الآيات أن المراد بهذا القوم المنافقون فهم الذين كانوا يخالطون المسلمين ويحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم لم يكونوا مؤمنين في الواقع انما الكلام في مرجع الضمير فانه لم يسبق لهم ذكر وانما سبق ذكر الكفار والمسلمين. فقيل: ان الضمير يمكن ارجاعه الى الكافرين باعتبار أن المنافقين منهم واقعا ويمكن ارجاعه الى المسلمين باعتبارهم منهم ظاهرا فيكون الغرض من الآية التنبيه على أن الذين آمنوا ظاهرا ليسوا كلهم على وتيرة واحدة وان كانوا جميعا يعتبرون من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويحضرون صلاته ومجالسه ويستمعون كلامه ويقاتلون في صفوف المؤمنين. ولكن الظاهر أنه لا حاجة الى إرجاع الضمير الى الكفار او المؤمنين بل يعود الضمير الى الناس او الى من هم حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فالغرض التنبيه على وجود المنافقين في صفوف من يحضرون عنده.

والقرآن مشحون بالتنديد بالمنافقين وتحذير المؤمنين من مكائدهم لانهم شر من الكفار وخطرهم اكبر من خطرهم ولذلك قال تعالى (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ..)[1] وبالفعل فان الاسلام تمكن من السيطرة على الكافرين وردّ كيدهم الى نحورهم ولكنهم دخلوا في ملابس النفاق وتمكّنوا من تشتيت المسلمين وتفريق كلمتهم بل تطاولوا على أعظم كلمة في الدين بعد التوحيد والرسالة وهي الكلمة التي على أساسها كمل الدين وتمّت النعمة ويئس الذين كفروا من الاسلام ومن النيل منه فحاولوا حذف هذه الكلمة وهي كلمة الولاية من قاموس الاسلام ولم يتمكنوا ولكنهم تمكنوا من منع تأثيرها في السواد الاعظم ولولا التضحيات التي قدمها اهل البيت عليهم السلام وشيعتهم لتمكنوا من طمس آثار النبوة وتحريف اساس الدين كما كانت هي المكيدة التي أرادوها فقد صرح بعضهم بلزوم دفن اسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يذكر على المنائر والمنابر ولكن الله تعالى أهلكه ولم يبلّغه مراده.

ومن التنديد الوارد بالمنافقين ما اشير اليه في هذه الآية وهو العمى والصمم الذي أصابهم نتيجة لمتابعة الهوى فكانوا بالرغم من القرب الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحضور لديه وهو منبع النور كأنهم لا يرونه وكانوا يستمعون اليه وكأنهم لا يسمعون كلامه كما قال تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[2] والتعبير الوارد في الآية يدل على أنهم يظهرون انفسهم حين الحضور بمظهر الاهتمام لكلامه صلى الله عليه وآله وسلم فان ذلك هو المفهوم من الاستماع ومع ذلك كانوا اذا خرجوا من عنده سألوا أهل العلم من الصحابة (ماذا قال آنفا) وآنفا ظرف اي في الوقت السابق القريب منا. وأنف كل شيء طرفه واوله ومنه العضو المعروف في الوجه.

وهنا يتبادر الى الذهن سؤال وهو أنه ما السبب في التنديد بهم اذا جهلوا معنى كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم فسألوا أهل العلم عن ذلك؟! ومن هنا ذهب بعضهم الى أن السؤال لم يكن على وجه الاستعلام حقيقة وانما كان تحقيرا او استهزاءا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبكلامه كأنهم يريدون بذلك ان يظهروا عجبهم من اهتمام الصحابة بكلامه المقدس صلى الله عليه وآله وسلم مع انه لا يحتوي على امر مفهوم. ولكن يمكن الاعتراض على هذا الوجه بأنه لو كان كذلك فلا وجه لتخصيص السؤال بالذين أوتوا العلم من الصحابة بل المناسب حينئذ ان يوجّه السؤال الى اهل الهوى والذين في قلوبهم مرض او المغفّلين والبسطاء من الناس ليتمكنوا من زرع بذور الشك في نفوسهم.

والحاصل ان السؤال من اهل العلم يقتضي ان يكون على وجه الاستعلام حقيقة وهو ليس عيبا. ولكن الظاهر أن السؤال ليس عن الغرض او مغزى الكلام او تفسيره وانما كانوا يسألون عن نفس القول فالمراد أنهم حاضرون ويستمعون ولكن لا يسمعون القول من جهة عدم اهتمامهم بما يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم.

أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ... في هذه الجملة يبين الله سبحانه السر في عدم فهمهم ووعيهم وهو الطبع على قلوبهم والمراد بالقلب ليس هو العضو الذي يضخ الدم في الجسم بل هو النفس الانسانية التي تدرك الحقائق والتعبير يشبه النفس بوعاء يحتوي المعارف والعلوم. والطبع انما يكون بعد الاغلاق فقلوبهم ونفوسهم مغلقة لا يدخلها شيء من المعلومات بل هي مطبوعة عليها فلا يمكن فتح أغلاقها. والطبع من الله تعالى. وما أغلقه الله وطبع عليه فمن ذا الذي يفتحه؟! والتعبير بالختم على القلوب والطبع عليها وارد في موارد كثيرة من الكتاب العزيز.

وهذا بدوره يثير سؤالا وهو انه لماذا يطبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون؟ وأنه لو كان ذلك من الله تعالى فما ذنبهم اذا لم يفقهوا كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهم من هذه الجهة بحكم المجانين حيث لا تكليف عليهم؟ والجواب يأتي في الجملة التالية (واتبعوا أهواءهم) نظير ما مر في قوله تعالى (كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) وهما من باب واحد فالسبب في الطبع على القلوب ايضا منهم وهو متابعة الاهواء ويأتي فيه التوضيح الذي ذكرناه هناك وذلك لان الطبع ليس بمعنى انه لا يفهم ايّ شيء بل ربما يكون من أذكى الناس ويكون خبيرا في مجال واسع ودقيق من العلوم البشرية ولكنه لا يفهم شيئا مما يتعلق بما وراء الطبيعة والغيب وانما يؤمن بما يراه بعينه مع انه بامكانه ان يفهم تلك الحقائق فاذا رفض الانصياع للكلام المشتمل على هذه الامور مع ادراكه انه حق وانه من الله تعالى وانما رفض لانه لا يناسب ما يهواه فانه يطبع على قلبه فلا يدرك الحقائق بعد ذلك أبدا بل ولا يسمع الكلام وربما لا يرى الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم كما قال تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)[3] ويظهر من القرآن الكريم ان هذا الطبع يحصل في أول مرة يمتنع الانسان من الايمان بالغيب مع ادراكه للحق ولا يحتاج الى التكرار كما اسلفنا في تزيين العمل وذلك لقوله تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).[4] ويختص ذلك بالطبع بمن يكون جحوده عنادا فهو لا يرجع عن عناده واذا شوهد من بعضهم التظاهر بالايمان فهو نفاق.

وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ... المقابلة بين هذه الآية والتي قبلها تبين بوضوح أن الله تعالى لا يهدي ولا يضل الا بعد أن يبدأ الانسان بمحاولة الاهتداء الى الحق او يبدأ بمعاندة الحق فالمهتدون هم الذين يتقبلون الحق اذا بدا لهم واضحا ولا يعاندونه اذا خالف هواهم وهؤلاء يزيد الله تعالى في هدايتهم كما قال تعالى (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..)[5] ويفتح الله تعالى عليهم ابوابا من العلم. ومن الناحية العملية يبعث في قلوبهم التقوى وهو في الواقع حصيلة الايمان والمعرفة فكلما زاد الانسان معرفة بمقام ربه زاد منه قربا وزاد في قلبه الخشوع والتقوى بل يزيد حبا لله تعالى فيتقيه حبا لا خوفا وهو المقام الارفع. وذهب بعضهم الى ان المراد بايتاء التقوى ايتاء ثوابه كأنه استعظم ان يكون التقوى من الله تعالى وهو خطأ عظيم فكل شيء من الله تعالى والتقوى كما قلنا يحصل في القلب نتيجة للايمان بالله وعرفان مقامه وكل ما يحصل كنتيجة طبيعية فهو من الله تعالى.

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا... الفاء لتفريع هذا الامر المستغرب على الانذار الذي اشتملت عليه الآيات السابقة بمحاسبة الاعمال يوم القيامة. وقوله (ينظرون) اي ينتظرون والضمير يعود الى البشر عامة والاستفهام انكاري اي لا ينتظرون الا الساعة وهم بالطبع لا ينتظرون الساعة بل ربما لا يعتقدون بها فضلا عن انحصار انتظارهم فيها فالمراد بيان حالتهم الواقعية التي هم غافلون عنها وهو المستقبل الاكيد فكأنهم لا يترقبون امرا الا قيام الساعة والمراد بالساعة يوم فناء العالم بقرينة حدوثه بغتة اي مفاجأة لا يوم قيام القيامة حيث يقوم الناس. ويحتمل أن يكون المراد ساعة الموت. وقوله (ان تأتيهم) بدل من الساعة اي ينتظرون مجيء الساعة. وقوله (بغتة) حال من مجيء الساعة وليس قيدا للانتظار كما هو واضح. والمراد تحذيرهم من عاقبة الامر فان الساعة تأتي بغتة ولا فائدة للتذكر بعد مجيئها فعليه أن يتنبه للخطر الداهم قبل وقوعه.

وغريب أمر هذا الانسان فهو يحسب لكل خطر محتمل على حياته في الدنيا حسابه ويأخذ حذره مع أنه أمر محتمل وليس قطعيا وليس بتلك الاهمية فهو ميت في النهاية لا محالة ولا يحسب للخطر الداهم الدائم وهو آت لا محالة مع انه يكفي الاحتمال!!! حتى ان المؤمنين الذين يحسبون له الحساب ويهتمون به ويتقون ربهم فانهم ايضا لا يهتمون به كاهتمامهم بسلامتهم في الدنيا فتجد الكثير بل الاكثر ترتعد فرائصه ويصفر لونه بل ربما يموت فجأة اذا اخبر بان الورم الذي في جسمه مثلا ورم سرطاني مع انه من المحتمل معالجته ولا تجده يهتم ذلك الاهتمام البليغ اذا احتمل كون ما يعمله والمسير الذي انتخبه موردا لسخط الله تعالى. وهكذا الامر بالنسبة لمن يحبه فاذا اخبر بان ابنه نقل الى المستشفى لحادث خطير تجد الارتباك والاضطراب باديين عليه واما اذا اخبر انه ارتكب محرما فلا اثر يبدو على وجهه.

والأشراط جمع شرط بفتحتين بمعنى العلامة اي انهم لم يتذكروا ويتنبهوا برؤية أشراط الساعة وعلاماتها فلم يبق الا ان ينتبهوا عند مجيئها وذلك لا ينفعهم فالفاء في قوله (فقد جاء) لتعليل عدم انتباههم للساعة الا عند حدوثها وهذا هو المفهوم من انتظارهم للساعة فالمعنى أن العلامات تحققت فلم ينتبهوا لها فيبدو أنهم لا ينتبهون الى ان تأتيهم بغتة ولا ينفعهم الانتباه آنذاك.

والكلام هنا في ما هو المراد بعلامات الساعة فيحتمل ان يكون المراد علامات قرب وقوعها وهو الظاهر من استغراب عدم تنبه الانسان لها مع أنه لم يبق الا وقوعها فمعنى ذلك انها قد قربت. وهناك آيات من القرآن تدل على قرب الساعة كقوله تعالى (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ)[6] وقوله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)[7] وقوله (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا)[8] ولكن ما هي العلامات التي جاءت لتدل على قربها؟ ظاهر آية القمر أن شق القمر من علامات قربها. وقد ورد في حديث مشهور (يا معشر المسلمين اني انما بعثت أنا والساعة كهاتين..قال ثم ضم السباحتين..)[9] وفي نقل اخر (وجمع بين سبابتيه) وفي بعض الروايات (بين السبابة والوسطى) ومعنى ذلك أن رسالة السماء النهائية بنفسها من علامات قرب الساعة وذكر من أشراط الساعة نزول القرآن باعتبار أنه آخر الكتب السماوية وذكرت امور اخرى لم تثبت كونها علامات ولا انها وقعت.

ولكن السؤال لا ينتهي بناء على هذا الاحتمال فان المراد بالقرب ايضا غير واضح لان القرب والبعد امران اضافيان والواقع أن القرب لا يمكن أن يلاحظ بالنسبة الى عمر المخاطبين بان يكون المقصود ان وقوعها قريب منهم بحيث تقوم الساعة عليهم فانها لم تقم وقد مضت القرون عليهم فربما يكون المراد قربها بلحاظ عمر الطبيعة بمعنى أن ما بقي من عمر الطبيعة اقل بكثير مما مضى كما ورد في بعض احاديث العامة ولكن هذا الامر لا اثر له بالنسبة للمخاطبين والاولى ان يقال في توجيه القرب باحد وجهين:

الاول: ان الموت هو اول مراحل الساعة بالنسبة لكل انسان فانه بموته ينقطع عن الدنيا ويكون رهينا بعمله وقد انتهت فرصته للعمل وللتوبة ولذلك ورد ان من مات فقد قامت قيامته.

الثاني: أنهم بعد الموت لا يشعرون بمضي زمان طويل فتقوم الساعة عليهم وهم يظنون أنهم ما لبثوا الا عشية او ضحاها كما ورد في عدة من الآيات.

ويحتمل أن يكون المراد بالساعة ساعة الموت فانها ايضا كثيرا ما تأتي بغتة وعلاماتها تختلف حسب الاشخاص ولا اقل من مشاهدة موت الآخرين ويحتمل أن يكون المراد بالأشراط علامات أصل ثبوت الساعة وهي الأدلة التي تقتضي ذلك ويؤيده أنها    هي التي ينبغي ان تكون منبهة للانسان فلا حاجة الى عدّ ما يتحقق قبيل الساعة واثبات أنها من علاماتها مع ان الساعة لا يعلم موعدها الا الله تعالى ولا دخل للعلامات القريبة فان الانسان ينبغي ان يتذكر بمجرد ما يثبت له هذا الواقع العظيم ولا يختلف طول الزمان وقربه ومما يدل على ثبوته الآيات البينات التي نزلت في الكتب السماوية ومنها ملاحظة عدل الله تعالى وعلمه وحكمته وقدرته فان العقل يحكم بانه لابد من مرحلة من التكوين بعد هذه الحياة ينال كل أحد جزاءه من خير وشر فان المشهود في هذه المرحلة هو عدم نيل الجزاء وعدم وضع كل أحد موضعه وهذا ينافي حكمة الله تعالى وعدله وعلمه وقدرته.

فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ... الفاء للتفريع والاستنتاج بعدم الجدوى لتذكّرهم ذلك اليوم. و(أنّى) أداة استفهام بمعنى أين وكيف وهي خبر مقدم وذكراهم مبتدأ. وجملة (اذا جاءتهم) معترضة اي كيف يذكرون بعد أن جاءتهم. والمراد أنه لا ينفع التذكر حينه كما قال تعالى (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى* يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[10] فلا يبقى لديه الا التمني بل لا يفيد التذكر قبله فالانسان اذا جاءه الموت لا تنفعه التوبة لقوله تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ..)[11] كما لا ينفع حين نزول العذاب الالهي ولذلك لم يقبل من فرعون توبته وايمانه كما قال تعالى (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).[12]

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ... الظاهر أنه تفريع على ما يعلم اجمالا من مجموع ما سبق من أن الامر بيد الله تعالى فهو الناصر وهو الخاذل وهو الذي يطبع على قلوب المنافقين ويزيد في هداية المهتدين ويؤتيهم تقواهم فعلى الانسان ان يستشعر ذلك في نفسه ويطمئن بربه ويعلم أنه لا ملاذ الا اليه فالامر كله بيده فلا يعبد غيره ولا يطيع غيره ولا يقصد غيره لحاجته بل لا يطلب غيره فانه غاية مراد المريدين.

وأول سؤال يتبادر الى الذهن من هذه الجملة أنه كيف يؤمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بان يعلم ذلك وقد علمه وعلّمه الآخرين؟

والجواب أولا أن الخطاب قد لا يكون متوجها للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم خاصة بل لكل من يسمع او يقرأ وثانيا أن المقصود الثبات والاستمرار على الايمان بالتوحيد وتعميمه وتعميقه فالتوحيد بكل معنى الكلمة لا بد من تكريره والتأكيد عليه ليستقر في القلب ويدخل في عامة شؤون الحياة حتى لا يطلب الانسان حاجته الا من الله تعالى بل لا يتوجه في أيّ عمل من أعماله الا اليه تعالى بل لا يطلب في مسيره الا الله تعالى فيكون هو منتهى أمله وغاية مناه فان الاله لا يختص بالعبادة بالمعنى الاخص وهي طقوس خاصة تتبناها كل فرقة حسب دينه ومذهبه بل الاله هو الصمد الذي يصمد اليه الناس في حاجاتهم بل هو الذي يجب ان يقصده الانسان في كل شؤونه ويقصد رضاه ويتوجه نحوه بل هو المطلوب الذي يبحث الانسان عنه في كل حياته جادا كادحا.

ويدل على ذلك قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ..) وهذا يصدق على أكثر الناس ولكنهم لا يعبدون الهوى بمعنى انهم يسجدون له وانما يعتبرون من عباد الهوى لانه هو المطلوب الاساس لهم فالاله هو المطلوب والمحبوب وهذا المعنى منحصر عند اهل المعرفة في الله تعالى والتوحيد الكامل هو الانقطاع اليه ولذلك ورد بعده امر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار لذنبه وسيأتي ان شاء الله تعالى أن ذنبه ليس الا في هذا المجال.

هذا وما كان يعلمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الحقائق انما علمها بتعليم من الله تعالى وبنزول الآيات القرآنية وهذا ايضا قد حصل قبل هذه الآية ولكنه أمر هام لا بد من التنبيه والتأكيد عليه في كل مناسبة ولهذا قلنا انه لا بد فيه من التعميم والتعميق، فالتعميم بحيث يشمل كل جوانب الحياة والتعميق بالتكرار حتى لا يغفل عنه الانسان.

وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... يتفرع ايضا على معرفة مقام الرب لزوم الاستغفار من الذنوب. والرسول صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من الذنب بالمعنى المعروف الا ان الذنب بالمعنى اللغوي له معنى وسيع وهو تبعة العمل سواء كانت في الدنيا او في الآخرة وسواء كانت تبعة مجعولة كالعقوبة والجزاء او تبعة طبيعية او عرفية وبذلك نفسر قوله تعالى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)[13] ويشهد له قوله تعالى في حكاية قول موسى عليه السلام (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)[14] وما فعله عليه السلام لم يكن ذنبا بل كان واجبا شرعيا ولذلك اعتبره عليه السلام ذنبا لهم عليه وبعد ان غفر الله تعالى له (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)[15] أي أنه يستمر في مواجهته للكفار فالتعبير عنه بالذنب بمعنى انه تبعة لعمله حسب قانونهم ونظامهم ومعتقدهم ولذلك ايضا قلنا ان المغفرة في هذا المورد وفي سورة الفتح بمعنى حفظه والستر عليه من التبعات الدنيوية وما يقصد به الاعداء من السوء.

والحاصل أن الذنب بهذا المعنى يتعلق بافعال المعصومين عليهم السلام بل هم عادة في معرضه لانهم يواجهون الاعداء في مسيرتهم. وله بالنسبة لهم معنى آخر وهو معروف ايضا وهو ما يعبر عنه بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين.

ولتوضيحه نقول ان كثيرا من عباداتنا بل أكثرها لو لم يكن كلها خالية عن التوجه الكامل والخلوص الكامل فمن جهة التوجه لا نتمكن من التركيز على ما بدأنا به من النية ونغفل عن أننا متوجهون الى الله تعالى واننا بحضرته وكثيرا ما نفقد الخشوع والخضوع وانما نأتي بالعمل صحيحا للاعتياد ومن الجهة الثانية لو لم يتدخل في نيتنا قصد الرياء والعجب فلا أقل من أننا نقصد بلوغ المآرب الدنيوية بصلاتنا وسائر عباداتنا بل هي المقصد الأسمى لأكثرنا. والاولياء المخلصون لا يقصدون بعملهم حتى النعم الاخروية كما مر الكلام حوله. وحينئذ فاذا تمت لنا صلاة مع الخشوع والتوجه والخلوص بدرجة متدنية فانها تعد من أحسن حسناتنا وهي بالنسبة للرسل والأئمة المعصومين عليهم السلام تعتبر سيئة لانهم لا يتوقع منهم أن يفقدوا التوجه الكامل حتى لحظة واحدة ولا يتوقع منهم أن يقصدوا بعملهم حتى المنافع الاخروية وان لم يكن ذلك ذنبا وقبيحا فاذا برز منهم ذلك فانهم يستغفرون ربهم منه وحق لهم الاستغفار والتوبة ولذلك فان الله تعالى يمتدح رسله بانهم أوابون اي يكثر منهم الرجوع الى الله تعالى.

وليعلم أن المعصومين انما عصموا من الذنوب التي يبتلى بها عامة الناس وليسوا معصومين من الذنب بهذا المعنى وهم مع ذلك مختلفون في درجات القرب فيختلفون في درجات التوقع والله تعالى يطالب كل أحد حسبما أنعم عليه فكما أنه لا يتوقع ممن تربى في بيئة كافرة كما يتوقع ممن ابواه مؤمنان لاختلاف ما أنعم الله عليهما كذلك لا يتوقع من كل واحد من الرسل كما يتوقع من سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ولذلك كان كثير العبادة والخشوع والبكاء فاذا سئل عن السر في ذلك مع انه قد غفر ذنبه ما تقدم وما تأخر قال (الا اكون عبدا شكورا).[16]

هذا وفي الامر بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات اشارة الى حاجتنا الى استغفاره صلى اللّه عليه وآله وسلّم لنا كما قال تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)[17] وهذا يدخل في باب الشفاعة ويتبين منه انه لا يكفي المؤمنين ان يستغفروا لانفسهم بل عليهم ان يلوذوا بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويطلبوا منه الاستغفار. والمغفرة أهم الحاجات فاذا جاز ذلك جاز طلب سائر الحاجات بواسطته بان نطلب منه ان يطلب من ربه حاجاتنا وهو معنى التوسل والاستشفاع والرسول حي يرزق من دون ريب لان الله تعالى يقول (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)[18] فاذا كان المقتول في سبيل الله حيا فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم أولى بذلك.

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ... تذكير للمؤمنين مرة اخرى بهذه الحقيقة المغفول عنها وهي ان الله تعالى محيط بهم وشاهد لكل اعمالهم فليتقوا ربهم وليحذروه وقد اختلف المفسرون في معنى المتقلب والمثوى فقيل انه التصرف في الدنيا والاستقرار في الآخرة وقيل التقلب من الاصلاب الى الارحام والسكون في الارض وقيل التصرف في اليقظة والسكون في المنام وقيل التصرف في المعايش والاعمال والاستقرار في المنازل.

وقال العلامة الطباطبائي رحمه الله المتقلب بمعنى الانتقال من حال الى حال والمثوى بمعنى الاستقرار والسكون فالمراد انه يعلم كل احوالكم من الاحوال المتغيرة والثابتة. وقال ان هذا المعنى اظهر واعم مما ذكروه.

وهذا صحيح ولكن مناسبة الحال تقتضي أن يراد هنا معنى خاص وهو تقلب الانسان في عقيدته وايمانه وعاقبة امره فالانسان يتحول كثيرا طيلة حياته فيوما مؤمن قوي الايمان شديد الخشوع ويوما متردد وشاك ويوما فاسق فاجر وربما يبلغ الكفر وهكذا يتحول من حال الى حال ولكنه يستقر في عاقبة امره على حالة فلعل المراد بالمثوى عاقبة الانسان من حيث العقيدة والعمل. ولعل السر في التذكير به الخطر المحدق بالانسان في عاقبة أمره فكم كان من الناس من جاهد في سبيل الله تعالى وتحمّل المشاق وانتهى الامر به الى الارتداد او النفاق والسبب في ذلك هو متابعة الهوى والتوغل في المعاصي ولذلك لا بد من الاستغفار والتوسل بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام لضمان المستقبل والعاقبة الحميدة.

واللطيف في الآية الكريمة أنها تجمع بين التوحيد من جهة والتوسل والاستشفاع من جهة اخرى ليعلم الانسان انه لا تنافي بين التوحيد وحب اوليائه تعالى لاننا لا نحبهم ولا نتولاهم الا لانهم أولياؤه تعالى والمقربون لديه فحبهم من حب الله وولايتهم من ولايته تعالى كما أن التوحيد واعتقاد ان الله تعالى هو القادر وهو الشافي والرازق والقاضي للحوائج وانه لا مؤثر في الوجود غيره تعالى لا ينافي التوسل بأوليائه والتمسك بهم للتوسط في قضاء الحوائج بل لا ينافي طلب الحاجة منهم بما أنهم عباد الله المخلصين الذين آتاهم الله القدرة على قضاء الحوائج باذنه تعالى كما منح عيسى عليه السلام القدرة على احياء الموتى وشفاء المرضى باذنه.

 


[1] النساء: 145

[2] الاعراف: 179

[3] فصلت: 5

[4] الانعام: 110

[5] العنكبوت: 69

[6] النجم: 57

[7] القمر: 1

[8] المعارج: 6- 7

[9] امالي المفيد ص188

[10] الفجر: 23- 24

[11] النساء: 18

[12] يونس: 90- 91

[13] الفتح: 2

[14] الشعراء: 14

[15] القصص: 17

[16] الكافي ج2 ص95

[17] النساء: 64

[18] البقرة: 154