وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ... ورد هذا المقطع ايضا في سياق التنديد بالمنافقين والتحذير من خطرهم والخطر هنا يكمن في تثبيطهم المؤمنين عن القتال وتأثيرهم السلبي في هذا المجال وهو موضوع البحث في هذه السورة كما مر. والظاهر أن المراد بالذين آمنوا في اول الآية عامة المسلمين لا خصوص المؤمنين المخلصين في مقابل المنافقين كما قيل اذ لو كان كذلك لم يكن وجه لاستغراب تخوف الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون كما سيأتي فان الاستغراب انما هو من اقتراحهم نزول سورة تأمر بالقتال ثم إظهار التخوف منه فلا بد من اعتبار المنافقين ضمن المقترحين.
والمراد بالسورة التي يطالبون بها خصوص ما يذكر فيها القتال وانما لم توصف بذلك اكتفاءً بالجملة التالية لئلا يتكرر الوصف فالمراد بتقديم هذه الجملة التنبيه على أن تقاعس المنافقين عن الحرب بعد الامر به من قبل الله سبحانه لم يكن بعد أمر ابتدائي ليشق تحمله بل جاء الامر بالحرب في ظروف خاصة استوجبت مطالبة المجتمع الاسلامي بذلك حيث طلبوا من ربهم ان ينزّل عليهم سورة يأمرهم فيها بالقتال مع الاعداء. وقد وقع مثل ذلك لبني اسرائيل قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)[1] فالآية الكريمة هنا تنبه على وقوع مثل ذلك في هذه الامة ايضا.
فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ... المحكم من الحكمة بمعنى المنع وهو ما لا يدخله الشك فهو واضح وصريح كأنه منع من ورود الشك والشبهة ويقابله المجمل والمتشابه فالغرض من هذا التوصيف التنبيه على أن الامر بالقتال ورد صريحا واضحا غير قابل للتأويل.
والظاهر ان المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون ولكن بوصف كونهم ممن في قلوبهم مرض ولعل اختيار هذا التعبير للاشارة الى أن حالة الهلع والخوف الذي تبدو على وجوههم ليست طبيعية وانما يبدو عليهم ذلك لمرض في قلوبهم وهدف فاسد يقصدونه وهو تثبيط عزائم المؤمنين الخالصين. والدليل على الاختصاص بالمنافقين قوله تعالى في الآية 29 (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) فالاضغان اي الاحقاد – كما سيأتي ان شاء الله – يدل على ان المراد بهم المنافقون حيث كانوا يبطنون العداء للاسلام والمسلمين واما ضعفاء الايمان فما كانوا يحملون حقدا للمؤمنين. والآيات التالية صريحة في أن المراد بهذه المجموعة من الآيات من هم من أشدّ المنافقين حقدا وبغضا للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم وللمسلمين.
ولكن في تفسير الميزان ان المراد بهم ضعفاء الايمان دون المنافقين وهذا لا دليل عليه في الآية ولا وجه له وحمل الآية على ذلك يوجب خروجها عن سياق الآيات التي تتعرض لموقف المنافقين من الجهاد وانما اختاره العلامة رحمه الله لما يظهر من بعض الآيات في غير هذا المقام من جعل المنافقين مقابلا للذين في قلوبهم مرض فالمقابلة بين الفريقين تدل على اختلافهما. ولكن الظاهر في هذه الموارد انه من قبيل ذكر العام مع الخاص فالذين في قلوبهم مرض عنوان عام يشمل المنافقين وغيرهم فان النفاق ايضا مرض من الامراض التي تصيب القلب اي النفس والروح البشرية.
والمراد بالمغشي عليه من الموت المحتضر في أواخر حالاته حيث يغشى عليه وتبقى عيناه مسمرتين كأنه ينظر بهما الى نقطة خاصة لا يتجاوزها وهذه الحالة تحصل لبعض الناس في الخوف الشديد الذي يسيطر على مشاعر الانسان وأحاسيسه فتجده واجما لا يتحرك ولا يستطيع القيام باي رد فعل في مقابل الخطر الداهم والتعبير يصور الجماعة كأنهم بلغ بهم الذعر الى هذه الحالة التعيسة ولا يمكن تصوير الخوف والهلع أكثر مما يصوره هذا التعبير. ولكن هل كان ذلك واقعيا أم كانوا يتظاهرون به للتأثير في نفوس المؤمنين؟ التعبير يحتمل الامرين ولكن السياق أوفق بالثاني.
فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ... اختلفوا ايضا في تفسير هذه القطعة فمنهم من اعتبرها جملة واحدة والمعنى واضح على ذلك اي ان الاولى لهم ان يطيعوا وان يقولوا قولا معروفا والمعروف في مقابل المنكر بمعنى القول المناسب للمقام عرفا.
ولكن الاكثر على انهما جملتان فالجملة الاولى قوله تعالى (فاولى لهم) ومثله قوله (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)[2] وجملة (اولى لك) جملة معروفة بين العرب وردت في اشعار الجاهلية و(أولى) مأخوذ من (ولي) بمعنى قرب فمعناها اقرب لك وهو خبر لمبتدأ محذوف وحكي عن الاصمعي أنه قال معناها (قاربك ما يهلكك) فقيل انه يفيد التهديد والوعيد وقيل انه دعاء على المخاطب. ولا يبعد أن يكون المعنى مختلفا حسب الموارد ولكن الغالب فيه التهديد كما يشاهد ذلك في اللهجة العامية وفي لغات اخرى حيث يستعمل كتهديد مبطن لكل من يواجه الانسان بصلابة وعناد فيهدده بابهام لاسباب مختلفة. وبناءً على هذا فقوله (طاعة وقول معروف) جملة مستقلة ايضا والتقدير امرهم وشأنهم طاعة معروفة وقول معروف او طاعتهم طاعة معروفة وقولهم قول معروف. وهذا كناية عن انهم معروفون بعدم الطاعة وبالقول الفاسد وأن من الواضح لدى الجميع كونهم مخادعين.
والذي يشبه هذه الآية في القرآن قوله تعالى (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[3] وهذه الآية قرينة على المراد من هذه الجملة هنا فان الصحيح في تفسير تلك الآية ان قوله (طاعة معروفة) تعريض بهم ومعناه ان طاعتهم طاعة معروفة بمعنى ان من المعروف لدى الجميع انهم لا يطيعون اوامر الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فالاقرب في معنى الآية هنا ايضا أنهما جملتان وان الاولى تهديد او دعاء عليهم والثانية تنديد بهم من جهة خداعهم ومكرهم ونفاقهم فهم يدعون الطاعة ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فتقدير الجملة طاعتهم طاعة معروفة وقولهم قول معروف والمراد ان نفاقهم امر واضح ومعروف لا حاجة الى التنبيه عليه. وأما القول بانهما جملة واحدة فينافي التشدد والاستنكار الذي تحفل به الآية اذ التعبير بان الاولى لهم ان يطيعوا وان يقولوا قولا معروفا لا يناسبه وان كان ذلك ربما يناسب الجملة التالية.
فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ... العزم هو الجد اي اذا جدّ الامر ولزم القتال فخير لهم ان يكونوا صادقين في ايمانهم بالله تعالى ولزوم اطاعته. ومن الواضح ان الخير هنا ليس بمعنى كونه افضل واولى بل بمعنى ان الخير في ذلك فحسب. والمراد بالصدق الوفاء بالعهد فان الايمان بالله عهد من العبد بالاطاعة وهذا العهد مأخوذ من كل انسان بالفطرة كما تدل عليه قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)[4] ومأخوذ ايضا من كل مؤمن بتشهده الشهادتين ومأخوذ ايضا ممن آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك العهد بالبيعة فالعهد على تلك الجماعة مأخوذ ثلاث مرات فيجب ان يكونوا صادقين في عهدهم اوفياء به.
وعليه فقوله (فلو صدقوا الله..) جواب الشرط في قوله (فاذا عزم الامر). وقيل ان جوابه محذوف اي فاذا عزم الامر كرهوا الحرب او تهاونوا ونحو ذلك والجملة التالية مستأنفة تدل على المحذوف. وهذا التفسير لا يناسب السياق بناء على ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى (فاولى لهم طاعة وقول معروف) وانما يناسب تفسيره بان المراد ان الاولى لهم ان يطيعوا ويقولوا قولا معروفا فاذا عزم الامر فالاولى لهم ان يثبتوا.. ولكن كل ذلك لا يناسب السياق الذي يظهر منه التشديد عليهم والاستنكار.
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ... الاستفهام للاستنكار و(عسيتم) لبيان المقاربة والتوقع اي هل المتوقع منكم ان أعرضتم عن الدين وارتددتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا ارحامكم كما كنتم في الجاهلية ومعنى ذلك أنه هو المتوقع وهو مستنكر وليس معنى (هل) التحقيق كما يقال بل هو الاستنكار ولكن لا يستنكر الا ما هو واقع الا أن (عسى) يخفف الامر فلا يواجههم في الخطاب بشدة بان يحكم عليهم بالفساد قطعا ولكنه المتوقع لانه طبيعة القوم وانما منعهم من الاستمرار فيه تظاهرهم بالدين. وقد مر مرارا أن التعبير بـ (عسى ولعل) في القرآن الكريم بل في كل تعبير ليس بمعنى الترجي او الاحتمال حتى يستغرب صدوره من علام الغيوب ويأوّل بأنه من الله يدل على الثبوت والوجوب كما قيل بل هو بمعنى أنّ هذا هو المتوقع منكم وأن الجاهلية تحقق الارضية المستعدة للفساد في الارض وقطع الارحام.
والكلام مستمر حول المنافقين الذين حاولوا التأثير على عزيمة المؤمنين في الجهاد وهنا يعود السياق الى مخاطبتهم بعد ان كان الحديث عنهم غيابيا ليكون أبلغ في التأثير وألصق بهم. ويبدو من الآية أن بعضهم كانوا يشيعون في الناس أنه لا ينبغي محاربة مشركي مكة لأنه من الفساد في الارض وقطع الارحام ويبدو منه أنهم كانوا ممن لهم قرابة فيهم فلعلهم من بعض المهاجرين ولا يستغرب وجود منافقين فيهم وسيأتي في تفسير قوله تعالى (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ)[5] أن النفاق كان في مكة ومن أوائل الاسلام.
وتبين بما ذكرناه أن المراد بالتولي هو الاعراض عن الدين والرجوع الى الجاهلية وهو الانسب بالسياق وبما سيأتـي من توصيفهم بالارتداد الذي هو الامر المناقض لقوله (فلو صدقوا الله..) في الآية السابقة فالمعنى انكم ان أعرضتم ولم تصدقوا الله تعالى وعُدتم الى جاهليتكم الاولى فالمتوقع منكم أن تعودوا الى صفاتكم وعاداتكم في الجاهلية من الفساد في الارض بالقتل والغصب وقطيعة الرحم وغيرها من الجرائم والكبائر.
وقيل ان المراد بالتولي الاخذ بزمام الحكم وورد في بعض الاحاديث أنه خطاب لبني امية ولعل ذلك من باب الجري والتطبيق فانهم تولوا الامور وأفسدوا في الارض أيما فساد وقتلوا المؤمنين الصالحين وقطعوا الارحام لان بني هاشم من أرحامهم فقتلوهم وشردوهم. ولكن حمل الآية على هذا المعنى بعيد جدا ولا يناسب سياق الآيات.
والرحم موضع الجنين في بطن المرأة والمراد بالارحام من يشارك الانسان في رحم مع كونه في نفس الوقت يعد من الاقارب عرفا فيشمل الوالدين والاخوة والاعمام والاخوال واولادهم وغير ذلك والمراد بقطع الرحم ترك المواصلة معهم بالاحسان اليهم حين الحاجة والتفقد عنهم وزيارتهم ان اقتضته المناسبة وعيادة مرضاهم وحضور جنائزهم وقضاء حوائجهم فترك المواصلة قطع للرحم فضلا عن الاساءة اليهم وقتلهم والتنكيل بهم كما فعلت بنو امية وبنو العباس.
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ... الاشارة الى الذين تولوا وأعرضوا عن اطاعة الله ورسوله واللعن هو الطرد والابعاد عن رحمة الله تعالى وهذا انما يتم في من لا مجال لهدايته ولذلك فرّع عليه إصمام آذانهم وإعماء أبصارهم فهم لا يسمعون آيات الله تعالى فيعونها ولا يبصرونها فيؤمنوا بها وهذا الجزاء انما يلحق بمن عاند الحق ولم يؤمن به بالرغم من اتمام الحجة عليه ولعل السبب في لعنهم وإعمائهم هو الارتداد ويشهد له قوله تعالى بعد ذلك (ان الذين ارتدوا على أدبارهم..) فالظاهر أن المراد بهم نفس المذكورين سابقا. والارتداد شرّ من عدم الايمان من البداية. ولم يكن السبب في ارتدادهم الشك المستند الى عدم الاقتناع بل السبب هو متابعة الاهواء وحب الدنيا بعد أن رأوا الآيات وعلموا أنها الحق ولذلك حقت عليهم العماية والصمم واللعن ويشهد لذلك أن الارتداد من عوامل الطبع على القلوب كما هو الظاهر من قوله تعالى في المنافقين (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ).[6]
هذا ما يقتضيه التأمل ولكن المفسرين ذكروا أن الاشارة الى المفسدين وقاطعي الارحام وحيث ان هذا الامر بمجرده لا يوجب الطبع والختم على الابصار والاسماع حاولوا توجيه ذلك بحيث يكون المصداق من يستحق هذا الجزاء وتبين بما ذكرناه انه لا حاجة الى التأويل.
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا... التدبر هو النظر في دُبُر الشيء أي آخره وما يترتب عليه والمراد التعمق في مقاصد القرآن وعدم الاكتفاء بما يبدو من ظاهره ويمكن أن يكون المراد هنا التعمق فيه من جهة خاصة وهي كونه معجزة تهدي الانسان الى الايمان بالله ورسوله واليوم الآخر ليكون مناسبا للاعراض والارتداد الذي يتعرضون له ومثله قوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[7] فان قوله (ولو كان من عند غير الله..) يرشد الانسان الى ما يقتضي كون القرآن كتابا منزلا من عند الله تعالى.
والاستفهام للاستنكار فالحاصل أن الآية الكريمة تستنكر منهم عدم التدبر في حقيقة القرآن لينتهوا بذلك الى الايمان بالله تعالى وبالرسالة ثم قابل ذلك بعدم تمكنهم من التدبر لان قلوبهم مغلقة وعليها أقفال وعليه فـ (أم) هنا متصلة والسؤال الذي يقصد به الاستنكار أنهم هل تركوا التدبر مع تمكنهم أم أنهم تركوه للاقفال وهم على كلا التقديرين محكوم عليهم باللعن والطرد أما على الاول فواضح وأما على الثاني فلان القلوب انما اغلقت واقفل عليها لانهم اتبعوا أهواءهم وعاندوا الحق بعد مواجهتهم للآيات البينة الواضحة كما مر بيان ذلك.
وهنا سؤالان: الاول عن الوجه في تنكير القلوب حيث يتوهم ان الاولى ان يقال: أم على قلوبهم أقفال؟ والثاني عن اضافة الاقفال الى القلوب.
والجواب عن الاول أنه يحتمل فيه الابهام لئلا يعم جميعهم ونظير ذلك ما يرد في كثير من الموارد في القرآن الكريم من نسبة الجهل والعناد الى الاكثر دون التعميم وهذا من أدب القرآن ومن الدقة في التعبير. وعلى هذا الاساس يمكن أن يشمل غيرهم ايضا ممن يكون فيه نفس المناط فهذا التنكير يفيد التخصيص والتعميم. ويحتمل ــ كما قيل ــ ان يكون التنكير للتفخيم اي على قلوب قاسية ايّما قساوة. وأما اضافة الاقفال الى القلوب فللتنبيه على أنها أقفال خاصة بها تنشأ من معاندتها للحق.
وفي الآية دلالة ــ كما في مجمع البيان ــ على بطلان القول بعدم جواز تفسير شيء من القرآن الا بخبر وسمع. وأوضح منه في حث الجميع على التفكر في الآيات والتعمق فيها قوله تعالى (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)[8]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ... الارتداد هو الرجوع. والأدبار جمع دُبُر ودَبْر بمعنى الخلف اي رجعوا القهقرى وهذا التعبير ربما يراد به الارتداد عن الدين وربما يعبر به عن الفرار في الحرب او مخالفة البيعة والعهد وغير ذلك ولكن المراد هنا هو الارتداد عن الدين بقرينة قوله تعالى (من بعد ما تبين لهم الهدى).
وقد اختلفوا في أن المراد هل هم المنافقون او اليهود او غيرهم ففي الكشاف أن المراد بهم اليهود لانهم تبين لهم الهدى حيث رأوا علامات النبوة الواردة في التوراة مجتمعة في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو بعيد جدا لانهم مع تبين الهدى لم يؤمنوا لا أنهم آمنوا ثم ارتدوا. وقيل انه لا ينطبق على المنافقين ايضا لانهم لم يبدلوا دينهم ولم يرتدوا وانما آمنوا ظاهرا وهم كفار باطنا فلا ينطبق عليهم الارتداد وانما المراد قوم من ضعاف الايمان دخلوا الدين ثم ارتدوا وخرجوا منه جهارا.
ولكن الظاهر أن المراد بهم المنافقون الذين سبق ذكرهم والسياق مستمر في التنديد بهم والتحذير من خطرهم والمرتدون لم يعبأ بشأنهم ولم يكونوا ذوي خطر وشأن مضافا الى أن الآيات التالية ايضا لا تنطبق الا على المنافقين فهم الذين قالوا لليهود او المشركين (سنطيعكم في بعض الامر) وأما أنهم لم يرتدوا فيرده قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)[9] وقوله تعالى في سورة النساء (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا * بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).[10]
ويظهر من هذه الآية أنهم قد تكرر منهم الارتداد فليس المراد به اعلان الكفر والخروج عن ربقة الاسلام جهارا بل المراد أنهم كانوا يظهرون ما يخفونه من الكفر في كلامهم وفي أفعالهم مع أنهم كانوا في نفس الوقت يظهرون الاسلام كقول عبدالله بن اُبيّ (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ..) وقول بعضهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (هو أذن) وغير ذلك من الافعال والاقوال مما ورد في الكتاب العزيز وفي التاريخ وكتب السيرة وهي كثيرة جدا يظهر منها بوضوح كفرهم في الباطن فكل ما يبدو منهم شيء من ذلك يعتبر ارتدادا ثم اذا دخلوا في صفوف المسلمين وصلوا معهم وأظهروا الايمان اعتبروا مسلمين وهكذا.
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى... وهذا بيت القصيد ومناط الشقاء والتعاسة فان ارتدادهم انما كان بعد تبين الهدى فلم يكن كفرهم عن جهل وعدم اقتناع او من تأثير الاعلام المضاد بل انما ارتدوا عن الايمان ومستلزماته لانه كان مناقضا لأهوائهم وامنياتهم ومنهم من تمكن من الاخفاء أكثر من المنافقين الذين أعلنوا عداءهم مرارا حتى سنحت لهم الفرص فغيروا دين الله وحرفوا معاني الكتاب وغيروا سنن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأخذوا ثأرهم منه بقتل ذريته كما صرح به سفهاؤهم وأخفاه حلماؤهم وهؤلاء أجدر بان يوصفوا بالنفاق حيث ان الذين عرفوا به سقط قناعهم وأصبحوا حسب النص القرآني فرقة في قبال المؤمنين وأما هؤلاء فقد اندسوا في صفوف المؤمنين وربما اعتبروا من كبرائهم جهلا بحالهم ولم يرد على الاسلام والمسلمين أدهى مما كادوهم به حيث فرقوا صفوفهم وقتلوا سادتهم وخيارهم وبدلوا دينهم ودسوا في احاديثهم واستأجروا الوضاعين ولو أمهلهم الله تعالى لحرفوا كتابهم.
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ... الجملة خبر لـ (ان) والتسويل هو تزيين الفعل القبيح وأصله ــ كما في بعض كتب اللغة ــ قد يكون من السؤل اي الامنية فخفف الى الواو والمعنى أنه جعل الفعل القبيح سؤلا وأمنية لهم. ولكن في الكشاف (سوّل لهم: سهل لهم ركوب العظائم من السول وهو الاسترخاء وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً) وما ذكره ايضا وجيه ولكن لا وجه للتشنيع على القول الاول. ويختلف المعنى قليلا على القولين فعلى كونه من التسهيل يكون الشيء بذاته سؤلا وامنية للفاعل ولكنه يستعظمه فيتجنبه والشيطان او غيره يغويه بسهولة الامر وعلى كونه من السؤل قد لا يكون الفعل امنية للفاعل ذاتا لا انه يتمناه ويستعظم نتائجه فالشيطان يزين له الفعل ليتمناه وهذا المعنى أنسب من جهة كثرة التعبير بالتزيين في القرآن الكريم.
والاملاء مأخوذ من الملاوة وهي امتداد الزمان قال تعالى في حكاية قول ابراهيم عليه السلام لابيه (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)[11] اي زمانا طويلا وقال تعالى (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)[12] اي امهلهم زمانا طويلا وعليه فالمراد هنا أن الشيطان يلقي في قلوبهم أن أمامهم متسعا من الوقت يمكنهم فيه التوبة والرجوع فلا بأس بالاستعجال حاليا بما يهوونه. ولكن في بعض التفاسير ان المراد أنّـه يمنيهم بالآمال الطويلة والاماني البعيدة وهو غير مناسب لمعنى الاملاء ولا للارتداد.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ... يمكن أن يكون (ذلك) اشارة الى الارتداد ويكون الغرض من الآية بيان وجه ارتدادهم وانه في اي مجال ظهر منهم ذلك فبيّن أنهم ارتدوا حينما قالوا كذا.. ويمكن أن يكون اشارة الى التسويل والاملاء والمعنى أن السبب في تسلط الشيطان عليهم وتسويلهم هذا القول منهم لانهم بذلك خانوا الله ورسوله فتمكن الشيطان من النفوذ في عقولهم وقلوبهم وتسويل النفاق لهم حتى ارتدوا عن دينهم.
والظاهر أن المراد بالذين كرهوا ما نزل الله اليهود والمشركون حيث ينطبق العنوان عليهم جميعا أما المشركون فلأن القرآن أبطل اعتقادهم وأهان آلهتهم فكرهوه وقد وصفوا بذلك في الآية 9 من هذه السورة حيث قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ..) وأما اليهود فلأنهم كانوا ينتظرون الرسالة المبشر بها في كتبهم وكانوا يعلمون أنها ستكون في هذه المنطقة ولكنهم توهموا أن الرسالة لا تكون الا فيهم فكل قبيلة منهم توقعت أن يكون الرسول منها ولهذا تركوا الاراضي المقدسة وهاجروا الى هذه المنطقة التي لا يرغب فيها أحد لزعمهم أنهم شعب الله المختار وان الرسالة لا تكون الا فيهم فلما رأوا الآيات مجتمعة في الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله وسلم كرهوا ما انزل الله عليه وأنكروا رسالته حسدا وحقدا.
وقول المنافقين لأعداء الرسالة (سنطيعكم في بعض الأمر) انما أرادوا بذلك أنهم يتسترون بظاهر الاسلام فلا يتبعون الشرك والكفر ظاهرا ولكنهم يعملون لهم ولصالحهم في الباطن وهم فعلا أطاعوهم في ما أرادوا ووصلوا بذلك الى بعض أهدافهم وهو عرقلة مسيرة الرسالة وان لم يتمكنوا من اطفاء نورها بل أتمه الله تعالى ليستنير به البشر الطالب للهداية طيلة القرون المتمادية. وقد ورد مثل ذلك في سورة الحشر قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).[13]
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ... تهديد وتوبيخ فالمشكلة لديهم تكمن في عدم ايمانهم بالله تعالى وعدم معرفتهم بأنه علام الغيوب ومن الغريب أن الانسان يحاول أن يتغلب على ارادة الله تعالى فالذين آمنوا به ايضا تنقصهم المعرفة قال تعالى في حكاية حال اليهود (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)[14] ومثلهم اخوانهم المنافقون حيث كانوا يظنون أن بامكانهم التخفي عن الله تعالى والمكيدة به وبدينه ولا يعلمون انه تعالى يعلم اسرارهم. والاسرار مصدر بمعنى الاخفاء.
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ... اي فكيف حالهم يوم تتوفاهم الملائكة وتقبض أرواحهم حيث يضربون وجوههم وأدبارهم وضرب الوجوه والادبار كناية عن التعذيب والهتك والتحقير حيث ان الاجسام تفقد الاحساس بعد الموت وربما يفقد الانسان معالم جسمه حين الموت فليس هناك وجوه وادبار. والتوفي عبارة عن أخذ الشيء كاملا وفيه اشارة الى أن حقيقة الانسان متقومة بروحه وهي نفسه الناطقة والملائكة وكّلها الله تعالى لقبض الارواح البشرية حين الموت تشريفا للروح الانسانية ولكن الانسان بسوء عمله يوجب لنفسه الهتك والمذلة. وقد ورد نظير هذه الآية في عاقبة الكفار في قوله تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).[15]
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ... (ذلك) اشارة الى ضرب الوجوه والأدبار حين التوفي ويلاحظ أن آية الانفال الآنفة الذكر الواردة في الكفار ذكر فيها تعليل هذا الامر بأعمالهم وما قدمت ايديهم فالظاهر أن المنافقين حيث أظهروا الايمان وشاركوا المؤمنين في بعض الاعمال فربما يتوهم أن أعمالهم توجب فرقا بينهم وبين الكفار من حيث العاقبة فالآية هنا تبين أن الله تعالى أحبط أعمالهم لانهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فكانت عاقبتهم كعاقبة الكفار.
وفسّرت متابعة ما أسخط الله تعالى بمتابعة الاهواء ــ كما في الميزان ــ ولكن الظاهر أن متابعة الهوى بنفسها لا تستلزم دائما سخط الله سبحانه وان كانت مذمومة بل هي ام الفساد ولكن ليست كل متابعة للهوى بهذه المنزلة حتى توجب حبط الاعمال والا لم يبق للمؤمنين عمل فان الفائز بترك متابعة الهوى مطلقا من أخص الخواص، فالظاهر أن المراد بها في هذا المقام متابعة أعداء الدين والمشاركة في المكائد التي كانت تحاك من قبل المشركين واليهود ضد الرسالة المجيدة، وان كانت متابعة ما أسخط الله التي توجب حبط الاعمال أعم من ذلك.
ولذلك عطف عليه أنهم كرهوا رضوانه فهناك فرق بين عدم الاهتمام بتحصيل رضاه تعالى لانه يتنافى مع المشتهيات والملذات وبين كراهة رضوانه ولا مبرر للقول بأن المراد كراهة ما يوجب رضوانه من الطاعات والاعمال كما في التفاسير فانهم بناءا على ذلك لا يكرهون الطاعات بما هي طاعة بل بما انها تنافي اهواءهم ومردّ ذلك الى ان الكراهة ليست متعلقة بالرضوان اساسا وهو خلاف الظاهر من العبارة فان الظاهر منها أنهم كرهوا نفس الرضوان واستحبوا سخطه فهم أعداء الله تعالى باطنا وان أظهروا الايمان.
وغريب أمر هذا الانسان كيف يهوي الى هذا المهوى السحيق فيعادي ربه ويبغضه ويطلب غضبه ونحن نجد في زماننا هذا من هذا القبيل اناسا يدّعون العلم ويتسلّمون كراسي التدريس في الجامعات وتشمئزّ نفوسهم من ذكر اسم الله تعالى ويبذلون قصارى جهدهم في انساء ذكره تعالى وهناك من الناس من تأثروا بالالحاد الحديث يظهر عداؤهم لله تعالى على ألسنتهم وأعمالهم مع أنهم يحملون أسامي اسلامية ويعتبرون مسلمين في الهوية الشخصية فتجد الاهتمام البليغ في أقوالهم وأفكارهم لنشر الالحاد والكفر في المجتمع الاسلامي واضعاف روح الايمان في الجيل الناشئ والشباب المسلم.
والحاصل أن ظاهر الآية الكريمة أن المنافقين أعداء الله تعالى وان كان هذا العداء يحصل من جهة أن الايمان به تعالى يتنافى مع الاهواء والاماني الا أن الامر وصل بهم الى حدّ المعاداة لفكرة التوحيد كما نشاهده في الملحدين الجدد وهناك فرق بين عدم الايمان او ضعفه وبين معاداة الفكرة والسعي ضدها وبذل الجهد والمال في سبيل اطفاء نورها وهذا هو ما نلاحظه في بعض الملحدين الجدد لا كلهم وفي بعض المنافقين الجدد والقدماء. وهذا العداء حسب هذه الآية تحبط الاعمال فلو كان لهم عمل صالح واقعا او ظاهرا فان الله تعالى يحبطه لمعاداتهم له تعالى. وقد مر بيان حبط الاعمال في تفسير الآية 9 من نفس السورة ونتيجة لهذا الحبط يلقون تلك العاقبة المشينة والمهينة حين موافاة الاجل.
ثم ان اسناد الرضا والسخط الى الله تعالى يختلف عن اسنادهما الى غيره فهو ليس محلا للعوارض وقد ورد في الحديث ان رضاه وغضبه ثوابه وعقابه ومعنى ذلك ان هذه الصفات التي تدل على تبدل الحالة في الانسان ونحوه اذا اسندت الى الله تعالى فانما يراد به حدوث الفعل منه اذ لا تطرأ عليه حالة والسبب واضح وهو أن عروض الحالات وتبدلها ينشأ من الجهل بالمستقبل فحيث يجد الانسان من غيره ما لا يناسب طبعه يغضب منه كما أنه اذا وجد منه ما يناسبه يرضى منه والله تعالى عالم الغيب والشهادة لا تختلف عنده الازمنة فالماضي والحال والاستقبال كلها حاضرة لديه. هذا من جهة ومن جهة اخرى لا يصح اسناد الرضا والغضب اليه تعالى بالمعنى المتعارف وهو تناسب الشيء للطبع وعدم تناسبه وانما يرضى الله تعالى بما هو خير وحسن ويكره الشر وفعل القبيح لا لان شيئا يناسبه وشيئا لا يناسبه بل لان الاشياء تختلف بذاتها من جهة كونها واقعة في موقعها المناسب في الكون وعدمه.
وأما تفسير الرضا والغضب بفعل الثواب والعقاب بمعنى نفي اصل الرضا والغضب والحب والكراهة ونحو ذلك فهو مخالف لصريح القرآن الكريم الذي ورد فيه اسناد هذه الصفات اليه تعالى في موارد كثيرة فهناك أناس مقربون رضي الله عنهم ورضوا عنه ويحبهم ويحبونه وهناك أعمال يرضى بها وامور لا يرضى بها قال تعالى (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ...) وهناك أناس ملعونون مطرودون لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر اليهم فالقرب والبعد لديه تعالى موضع تأكيد من الآيات المباركة ولا شك أن القرب والبعد يتبع صفات الانسان وسجاياه وأعماله. نعم لا يحدث من الله تعالى شيء الا الثواب والعقاب بالمعنى الاعم الشامل للقرب والبعد ولا تطرأ عليه حالة الرضا والغضب ولا اي حالة اخرى.
[1] البقرة: 246
[2] القيامة: 34- 35
[3] النور: 53
[4] الاعراف: 172
[5] الحاقة: 49
[6] المنافقون: 3
[7] النساء: 82
[8] ص: 29
[9] المنافقون: 3
[10] النساء: 137- 138
[11] مريم: 46
[12] الاعراف: 183 / القلم: 45
[13] الحشر: 11
[14] البقرة: 76- 77
[15] الانفال: 50- 51