أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ... (أم) منقطعة ففيها معنى الاضراب والاستفهام ولعله إضراب عن قوله تعالى (والله يعلم إسرارهم) حيث يدل على أنهم توهموا أنه تعالى لا يعلم ما يدور بينهم وبين الاعداء المجاهرين بالعداء من اليهود والمشركين فهنا أضرب عن ذلك وقال أم أنهم لايتوهمون ذلك ولكن يظنون أنه تعالى لا يخرج أضغانهم وأحقادهم أبدا حيث رأوا أن ما يدور بينهم من إظهار العداء للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمؤمنين لم يظهر لهم فتوهموا أن الله تعالى يستر عليهم الى الابد فهذه الآية تنبههم أنه ليس كذلك وهناك ظروف تستدعي أن يفضحهم الله تعالى ويخرج أحقادهم بل ربما يريهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم ويعرفه بهم كما ورد في الآية التالية.
ويتبين بذلك أن الاستفهام الذي تدل عليه (أم) انكاري لتخطئة هذا الحسبان كما يتبين وجه الاتيان بـ (لن) الدالة على نفي الابد. والمراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون فانهم هم الذين كانوا يحملون حقدا دفينا على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ولا وجه لحمله على ضعاف الايمان كما في الميزان اذ لا موجب لحقدهم. ولعل العلامة الطباطبائي رحمه الله انما فسره بذلك لئلا يختص بالمنافقين الذين عرفوا بالنفاق نظرا الى ان عنوان المنافقين خاص بهم حسب المصطلح القرآني.
وكيف كان فالظاهر ان المراد بهم المنافقون بالمعنى العام لا خصوص من عرفوا به بل يشمل غير المعروفين بطريق اولى كما سيأتي ان شاء الله تعالى. ويمكن أن يكون المراد بأن الله تعالى يخرج أضغانهم أنها تظهر للناس بصورة طبيعية اذا استمروا عليه كما هو الغالب او أنها تظهر بوحي من الله تعالى. والضغن الحقد الدفين الذي يحاول صاحبه اخفاءه قال في معجم المقاييس انه يدل على تغطية شيء في ميل واعوجاج. ولكن في مفردات الراغب انه خصوص الحقد الشديد. ولم اجده لغيره.
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ... السيما مأخوذ من الوسم اي العلامة وهذا من تبديل مواضع الحروف كما يقال ما أطيبه وما ايطبه. والمراد أن الله تعالى لو شاء لأعلم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعلامات محددة يميز بها المنافقين عن غيرهم وظاهر الآية أن الله تعالى لم يشأ ذلك فلم يعرفهم بهذا الوجه وذلك لمكان (لو) وهذه الجملة قرينة واضحة على ان المراد بهم ليس خصوص من عرفوا بالنفاق الذين سقط عنهم القناع بل الاولى ان يراد بهم خصوص من لم يعرفوا به ولكن الظاهر من الروايات أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يعرف القسم الثاني ايضا بأشخاصهم بل عرفهم لبعض أصحابه فلعل المراد بالمنفي هنا تعريفهم لعامة الناس وان كان الخطاب له صلى الله عليه وآله وسلم ومثله كثير .
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ... اللام للقسم المحذوف فالمعنى محقق بكل تأكيد وهو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل وعامة المؤمنين يعرفونهم في لحن القول وهذا هو الطريق الطبيعي لبروز الاضغان كما أشرنا اليه وفي نهج البلاغة عن امير المؤمنين عليه السلام (ما أضمر أحد شيئا الا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه) واللحن ــ كما في المفردات ــ صرف الكلام عن سننه والمراد به هنا صرفه عن الصراحة الى التعريض والكناية وفي هذا المجال تتبين الاهداف والاحقاد فالعدو يتحين الفرص ليلقي كلاما ظاهره معسول وهو يكني به عن ما يسيء الى المخاطب ويثير عليه.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ... ظاهره مخاطبة المؤمنين ولكنه تحذير للمؤمنين والمنافقين جميعا بأن الله تعالى يعلم حقائق الاعمال وكثيرا ما يعمل الانسان عملا ظاهره الخير وهو يقصد به البلوغ الى مقاصد شريرة وعامة الناس لا يعلمون ذلك فيمتدحونه وكثيرا ما لا تظهر المقاصد من الاعمال ولا في لحن القول فالآية تنبه الجميع أنه لو فرض عدم التبين من لحن القول فان الله تعالى يعلم بالنيات ولا يمكن اخفاء شيء عنه فاحذروه. وفي الآية اشارة الى أن النفاق ربما يكون أمرا ساريا في أعمال بعض المؤمنين ايضا فلا يكفي مجرد كون الشخص ممن لم يبرز نفاقه للعامة في خروجه عن معسكر النفاق بل ربما يكون بعض من يعتبر من المؤمنين من أشد المنافقين ضغنا وحقدا ــ كما قلنا ــ ولكن الناس يجهلون موضعه الحقيقي فيرفعون من شأنه ولكن الله تعالى يعلم عمله وقصده وخبثه فليحذر ربه.
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ... اي نبتليكم بالحروب وبالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية ليتبين المؤمنون عن المنافقين وهذا الابتلاء ربما يظهر به حقائق الناس للعامة ايضا فان المنافق الذي يظهر الايمان ويبرئ نفسه من النفاق يظهر ضعفه في ميادين القتال والمؤمن بالله واليوم الآخر حقا وصدقا لا يخاف الموت ويلقي بنفسه في أتون الحرب ولا يحذر من قتل الكفار أعداء الدين والرسالة ولا يهمه أن تحمل العرب عليه الاحقاد كما كان أميرالمؤمنين عليه السلام ولكن المنافق وان أظهر براءته من المنافقين والمشركين الا انك تجده لا يضرب في الحرب سيفا ولا يخوض المعركة خوفا من الموت وحذرا من أن يبتلى بقتل أحد من الكفار فيحقدوا عليه هذا اذا لم يكن محبا لهم ومتورعا عن قتلهم. ولعمري ان ميادين الحرب في تلك الحقبة خير مضمار ليتبين لطالب الحق من يخلص لله تعالى وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن يحمل الاحقاد للاسلام والمسلمين ويتربّص بهم الدوائر.
والمراد بحصول العلم لله تعالى هو ظهور حقيقة الامر كما بينا ذلك مرارا فالله تعالى لا يحدث له العلم ولا غيره من العوارض ولا تختلف عنده ما حدث وما سيحدث ولكن الاثر من الثواب والقرب عند الله تعالى لا يترتب على امكان الجهاد والصبر او استعداد الانسان للتضحية والجهاد بل انما يترتب عليهما بالفعل فلا بد من تحقيق الارضية التي تتبين بها حقائق الضمائر وجواهر الرجال.
وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ... الاخبار الاقوال التي تحكي عن الحوادث ونحوها وفي التفاسير أن المراد بها الاعمال لانها مما يخبر بها فالاختبار يتعلق تارة بذات الانسان وأنه مجاهد وصابر أم لا وتارة بأعماله. ويلاحظ على هذا التفسير أولا أن الاختبار الاول ايضا يتعلق بالعمل فيكون تكرارا وتأكيدا وهو خلاف الظاهر وثانيا أن (نبلو) عطف على (نعلم) فيكون الاختبار الثاني نتيجة للاختبار الاول وليس اختبارا في عرضه.
ولعل المراد بالاخبار هنا الدعاوي التي يتبجح بها الانسان فيدعي أنه مؤمن وأنه سيكون صابرا في الضراء والسراء او يقول لغيره يجب أن تكون كذا وكذا فهذه الدعاوي تكون منشأ للاختبار ليتبين الصادق في دعواه عن المراوغ المنافق. والارضية الصالحة لهذا الاختبار هي ميادين الجهاد ولذلك اعتبر هذا الاختبار نتيجة لاختبار الانسان في خوض المعارك حيث عطف (نبلو) على (نعلم). فالمعنى اننا نبلوكم بالحروب ليتبين المجاهدون الصابرون ولنميز من هو صادق في دعواه عن الكاذب.