إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ... يعود السياق الى ما بدأ به السورة وهو حثّ المؤمنين على مواصلة الجهاد ضد الكافرين الذين يصدون عن سبيل الله ويمنعون من انتشار الدعوة فالظاهر أن المراد بالذين كفروا مشركو مكة كما هو مصطلح القرآن الكريم ويمكن أن يشمل اليهود وغيرهم ممن اجتمعت فيهم الصفات ولكن لا وجه لتخصيصه باليهود كما قيل والظاهر أن المناط في لزوم الجهاد والمحاربة هو الصد عن سبيل الله والمنع من انتشار الدعوة وأما مجرد الكفر فلا يستوجب الحث على المواجهة. والصدّ: المنع.
والمشاقة مأخوذ من الشِّق اي القطعة وهي كناية عن العداء والمواجهة على أساس أن المشاقة بمعنى كون كل منهما في شق غير شق الآخر. وقيل في وجهه غير ذلك. ومهما كان فالشقاق بمعنى العداء والمخالفة. وأساس التنديد هنا أن الشقاق والخلاف انما هو في مقابلة رسول رب العالمين بعد تبين الهدى بمشاهدة المعاجز والآيات البينات وان اريد بهم اليهود فالمراد من تبين الهدى مشاهدة علائم النبوة الموجودة في ما لديهم من الكتب في الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم.
ومهما كان فهؤلاء واولئك لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم.. أما عدم الاضرار فواضح لان الله تعالى هو القاهر فوق عباده ولا يتأبى على ارادته شيء فلو أراد لأهلك من في الارض جميعا بل لا يضرون دينه ايضا ولا يمكنهم منع الدعوة من أن تسير سيرها الطبيعي والغرض أن مشاقتهم للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصدّهم عن سبيل الله تعالى محاولة منهم لمواجهة ربهم فهم في الواقع اعداء الله ولكنهم لا يضرون بذلك الا أنفسهم والله تعالى لا يتضرر بشيء حتى لو كفر الناس جميعا. والظاهر بقرينة السياق أن المراد بحبط الاعمال هنا حبط مكائدهم ومحاولاتهم لمنع انتشار الدعوة. وقيل ان المراد حبط أعمالهم الصالحة فلا يترتب عليها ثواب وهو بعيد عن السياق مع أنه لا يختص بهؤلاء بل يشمل كل كافر حتى لو كان معاهدا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ... في هذه الجملة ايضا عود الى السياق السابق وهو حث المؤمنين على الطاعة في مجاهدة الاعداء وان كان وجوب الاطاعة عاما ولكن التأكيد هنا على الاطاعة في مجال الدفاع عن الدين والعقيدة. ووجوب اطاعة الله مما يحكم به العقل فالامر به ليس الا ارشادا وتنبيها لحكم العقل وليكون مقدمة للحكم باطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووجوبها حكم شرعي. والفرق أن وجوب اطاعة الله تعالى لا يمكن أن يستند الى أمره تعالى للزوم الدور الباطل وانما يستند الى حكم العقل بلزوم اتقاء الضرر الحاصل من معصية الله تعالى حيث تتضمن اوامره المولوية حكما جزائيا بالعقوبة ــ على مبنى سيدنا الاستاد السيستاني حفظه الله ــ او يستند الى حكم العقل بوجوب التذلل والخضوع لله تعالى حيث ان الانسان اذا عرف ربه مهما كانت المعرفة فانه يشعر بلزوم التذلل والاطاعة حبا له او تعظيما لمقامه قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).[1] ولعله للفرق بين الاطاعتين كرر الامر.
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ... تحذير للمؤمنين العاملين المطيعين لله ورسوله فان المرحلة الخطيرة بعد العمل هي المحافظة عليه فربما يعمل الانسان أعمالا صالحة وبنية خالصة طيلة عمره ثم يبطلها بأعمال سيئة وهناك مجموعة من الامور ورد ذكرها في القرآن واعتبرت محبطة للاعمال منها قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[2] ومنها ما يبطل بعض الاعمال كالمنة المبطلة للصدقة قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ..)[3] ومنها العجب والرياء حتى لو كان بعد العمل فان الكلام ليس في البطلان الموجب للقضاء حيث ذكر الفقهاء عدم بطلان العمل بالرياء بعده وانما الكلام في عدم ترتب الاثر المطلوب عليه. ففي الحديث عن الامام الباقر عليه السلام (يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سرا ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء).[4] والنهي عن إبطال العمل ــ كما تبين ــ لا علاقة له ببطلان العمل فقهيا فلا وجه لما ورد في بعض الكتب الفقهية من دلالة الآية على عدم جواز ابطال الفريضة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ... هذه الآية تبين مصير الكفار المعاندين يوم القيامة وتبعث فيهم الامل من جهة اخرى كما هو دأب القرآن الكريم وهو مقتضى الرحمة الالهية فبعد كل هذا التهديد والتنديد علق عدم المغفرة بموتهم حال الكفر فباب التوبة مفتوح حتى لهؤلاء المعاندين الصادين عن سبيل الله.
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ... الفاء فصيحة تنبئ عن شرط مقدر اي اذا تبين ان الله تعالى موهن كيد الكافرين وانهم لن يضروا الله شيئا فلا تهنوا.. والوهن هو الضعف. والمنهي هنا هو اظهار الضعف والمذلة وقوله (وتدعوا) عطف على تهنوا فيشمله النهي ويبدو من السياق أن المنهي هو الدعوة الى السلم وهو الصلح اذا كان منشؤها الضعف أمام طغيان المعاندين وظلمهم فمن الواضح أن الحرب لم يبدأها المسلمون ولم يطلبوها وانما كان همهم نشر الدعوة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ولم يكن بينهم وبين الطغاة الظالمين ثأر وانما كان المشركون يحاربون الدعوة الى الله كفرا منهم وعنادا فلم يجز الصلح معهم.
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ... جملات حالية اي لا تدعوا الى السلم في هذا الحال وانتم الاعلون وذلك لان الحرب آنذاك انما كان بالقوة البشرية والشجاعة والصبر والايمان وكل هذه العوامل كانت مجتمعة في معسكر المسلمين فهم أعلى وأكثر قوة من الكفار وان كثر عددهم وأهم ما لديهم هو الشعور بأن الله معهم اي ينصرهم كما وعد به في هذه الآيات وغيرها والله لا يخلف وعده.
وقوله (ولن يتركم أعمالكم) اي لن ينقص من أعمالكم شيئا. وهو من الوتر اي الفرد يقال وَتَر الرجلَ في اهله وماله اذا قَتلَ قريبه من ولد او اخ او نحوهما او نهب ماله كأنه أفرده عنهم و(اعمالكم) منصوب بنزع الخافض اي يتركم في اعمالكم او من اعمالكم. ومهما كان فالغرض حث المؤمنين على مواصلة الجهاد لانهم هم الاعلون وأن الله معهم ولان كل ما يبذلونه في هذا السبيل لن يذهب سدى فلا تجزعوا من الموت او نقص العضو او الخسارة المادية فكل ما تبذلونه في هذا السبيل يوف اليكم يوم القيامة اضعافا مضاعفة ولن ينقص الله من اعمالكم شيئا.
[1] النازعات: 40- 41
[2] الحجرات: 2
[3] البقرة: 264
[4] الكافي: ج2 ص296 ح16<