مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ... من هنا يبدأ ببيان الحكم في القتال وهو المقصود بالذات في السورة. والفاء للتفريع فالحكم بالقتال في مواجهة الكفار والشدة في التعامل معهم في الحرب متفرع على ان الله تعالى وعد المؤمنين بانه يصلح بالهم وانه يُضلّ أعمال الكافرين ويُفنّد كيدهم. واللقاء يراد به المواجهة في الحرب وهذا تعبير عربي متعارف يعبرون عن يوم الحرب بيوم اللقاء ومن الغريب ما ينسب الى بعض المعادين للاسلام استنادا الى هذه الآية ان الاسلام يأمر بقتل الكافر بمجرد اللقاء به. وضرب الرقاب مصدر سدّ مسدّ الفعل فهو مفعول مطلق بتقدير (اضربوا) اي اضربوا رقابهم وهو كناية عن القتل وليس المراد خصوص هذا النوع من القتل وانما عبر به تشنيعا لهم وتأكيدا على عدم الابقاء فان ضرب العنق يؤول الى الموت لا محالة  ففي الآية تأكيد على عدم الامهال وعدم المداهنة معهم. ثم ان الآية لا تحثّ على الحرب ابتداءً وانما يأمر بالقتل والابادة اذا حصلت المواجهة. والمراد بالذين كفروا ــ كما مرّ ــ هم مشركو مكة الذين استمروا في منع الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم من نشر رسالته حتى بعد الهجرة.

حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ... الاثخان: الاثقال. والثقل كناية عن عدم التمكن من الحركة يقال أثخنته الجراح اي منعته من النهوض والحركة والمراد انه اذا قتلتم منهم مقتلة عظيمة بحيث لا يستطيعون بعده النهوض للصدّ عن سبيل الدعوة فشدّوا الوثاق وهو كناية عن الاسر. والوثاق ما يوثق به من حبل ونحوه. والمراد بالجملة انه لا يؤسر أحد قبل الاثخان والقتل العظيم الذي يوجب منعهم من الحركة. والسبب في هذا التشدد معهم والاصرار على إبادتهم على ما يبدو هو أن الحجة قد تمّت عليهم بحيث لا يحتمل بعد ذلك ايمانهم واقعا بالرسالة فلو آمنوا فانما يظهرون الايمان ويبطنون الكفر ويزيدون عدد المنافقين لا المؤمنين فالغرض الاصلي يجب ان يكون منعهم من التحرك ضد الدعوة فلا يجوز الاستعجال في الاسر بل لا بد من إفناء اكبر عدد ممكن ولا يُلجأ الى الاسر الا بعد الوثوق من عدم وجود خطر من بقائهم.

وهذا ليس حكما خاصا بغزوة بدر كما يقال بل ولا بالوضع القائم في الجزيرة العربية آنذاك بل هو حكم الرسل والانبياء جميعا قال تعالى (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[1] اي لا يليق بالانبياء ان يأسروا أحدا في الحرب قبل استئصال الفساد. والسر فيه ان الملوك والجبابرة ومن يحذو حذوهم كانوا يقاتلون من اجل الاسر والاستعباد وكان لهم في ذلك غرض اقتصادي فالعبيد كانوا يشكلون قوة رخيصة للعمل وهذا ليس شأن الانبياء فهم لا يأسرون للاستعباد ولا يحق لهم ان يريدوا عرض الحياة الدنيا كما ورد في الآية فلا يأسر النبي الا بعد أن أثخن في الارض بمعنى انه قطع دابر الكافرين وأمن شرهم فالاسر هنا له دوافع اخرى.

والتعبير بالاثخان في الارض يوحي بانه لا يتوقف الحكم بالاثخان في الحرب الواقعة حاليا بل يجب ان يستمر القتل الى ان يؤمن من شرهم في الارض. وليس معنى ذلك إبادتهم جميعا بل كسر شوكتهم بحيث لا يتمكنون من الصد عن سبيل الله. وتبين بذلك ضعف ما قيل من أن الآية بصدد بيان حكم عسكري للمسلمين وهو أنه لا يجوز الاشتغال بجمع الاسرى والغفلة عن القتال مع الاعداء الا بعد إثخانهم.

فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً... (منّا) و(فداء) مصدران سدّا مسدّ الفعل كما مرّ في ضرب الرقاب اي إمّا أن تمنّوا عليهم منّا بعد الاسر فتطلقون سراحهم وإمّا أن يفدوا أنفسهم فداءً إمّا بالمال وإمّا بالمبادلة مع أسرى من المسلمين. والملفت في هذه الجملة انه لم يذكر من الخيارات الاسترقاق ولا القتل. ولكن العلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر الاسترقاق أحد وجوه المنّ عليهم ولعل الوجه في ذلك أنه يستحق القتل بمحاربته للاسلام فاذا اُبقي عليه ولو بالاستعباد فهو أيضا نوع من المنة عليه. وهذا لا بأس به في حد ذاته الا أنه بعيد عن الآية بلحاظ مقابلة المنّ بالفداء فلو أريد به مجرد الابقاء لم تصح المقابلة اذ الفداء ايضا وجه للابقاء عليه فلا بد من حمل المنّ على إطلاق السراح بلا مقابل.

واما ما ورد في السيرة والروايات من أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قتل بعض الاسرى فلا ينافي الآية وذلك لوجهين: الاول أنه كان قبل الاثخان في الارض فلم يتحقق موضوع الآية والثاني ان الذين قتلوا كانوا محكومين بالقتل قبل الاسر لاعمال اجرامية اخرى. ومشاركتُهم في القتال الذي انجر الى الاسر لا توجب مزية لهم ليُعفوا من القتل قطعا. واما الاسترقاق فلم نجد في السيرة موردا أمر فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باستعباد الرجال من أسرى الحرب وانما ورد في الذراري والنساء وهو خارج عن مورد الآية الكريمة ولعله كان لمصلحة خاصة.

حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا... الوزر هو الثقل. وأثقال الحرب اما معداته أو الجرائم التي لا ينفك عنها والمصائب والمصاعب التي يستتبعها ومهما كان فهو كناية عن انتهاء الحرب والظاهر انه غاية لكل ما سبق من الحكم فالمعنى انه يجب ان تضرب الرقاب حتى تنتهي الحرب ويعم السلام ليتمكن الدعاة من نشر الدعوة الى الله تعالى وعليه فهذه الآية مساوقة لقوله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).[2]

ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ... (ذلك) اشارة الى ما مر من حكم القتال مع الكفار وهو متعلق بمحذوف اي خذ ذلك او الحكم ذلك او افعلوا ذلك ونحو ذلك. وفسر الانتصار هنا بالانتقام ولذلك عدي بـ (من) ومهما كان فالمراد بالانتصار هنا ليس الانتصار بغيره تعالى بل بسطوته وقهره فيفيد معنى الانتقام. وحيث كانت الجملة السابقة تفيد كما ذكرنا أن القتال يجب ان يكون مستمرا الى أن يضعف الكافرون ولا يتمكنوا من صدّ الدعوة الى الله تعالى وكان ذلك موهما أنّ الله تعالى بحاجة الى قتال المؤمنين لصدّ الكافرين استدرك الامر بهذه الجملة ليبين انه تعالى غني عن كل شيء ولو أراد لأهلكهم بعذاب من عنده كما أهلك من قبلهم وانما يأمر بالقتال لامتحان الناس. والبلاء هو الامتحان والاختبار وكل ما في هذه الحياة من خير وشر امتحان للانسان وليس معنى الاختبار انه تعالى يريد بذلك معرفة الناس وجواهرهم واحوالهم وايمانهم فانه لا يعزب عن علمه شيء وانما يعني ذلك بروز خبايا الناس ودفائن نفوسهم وحدود ايمانهم وقابلياتهم فان الاثر المقصود من تربية الانسان لا يترتب على نفس القابلية الدفينة بل على بروزه وظهوره. والثواب والعقاب ايضا لا يترتبان على طيب النفس وخبثه بل على العمل السيئ والصالح. والمراد بابتلاء بعض الناس هنا ببعض آخر ابتلاء الكافرين بالمؤمنين وبالعكس فالكافر يتبين خبث طينته وسوء سريرته بالتعامل السيئ مع المؤمنين ومخالفته لامر ربه والمؤمن تتبين قوة ايمانه وعزيمته بامتثاله لاوامر ربه ومقاومته للاعداء.

ولا تقتصر نتيجة الابتلاء بالاعداء والامراض والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية وسائر مشاكل هذه الحياة في بروز الحقائق الدفينة ومعرفة جواهر الرجال بل هذه المصاعب والمصائب هي التي تكوّن شخصية الانسان وتنمّي النفس الانسانية وتربيها وتمنحها قوة المقاومة كما ان ابتلاء الجسم بالجراثيم الموجبة للامراض ومن ثَمّ مقاومة الجسم لها هو العامل الضروري لنمو الجسم وتكامله على ما يقال. وهذا الامر لا يختص بالفرد ايضا بل هو كذلك على الصعيد الاجتماعي فالمجتمع الذي ينعم بالرفاه والراحة وأكل المال بدون تعب مجتمع متخلف ضعيف لا يمكنه ان يستقل علميا ولا اقتصاديا ولا سياسيا ولا عسكريا. واذا ابتلي بالحروب والفقر وحاول إنقاذ نفسه من المشاكل بنفسه فسيكون مجتمعا قويا مستقلا متكاملا وينتصر على أعدائه حتى لو قلّت أفراده في مقابل العدو.

وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ... (في سبيل الله) ليس قيدا لقتلهم فانه فعل القاتل وهو لم يقتلهم في سبيل الله وليس قيد المقتولية لانه ليس فعل الشهيد ايضا وانما هو شيء اوقع عليه وقد لا يكون قاصدا اياه وانما هو قيد لخروجه الى الجهاد ومقاتلته مما أدّى الى مقتله وهذا لا يختص بالمحارب بل يشمل كل من يعمل عملا في سبيل الله مما يثير غضب أعدائه تعالى فيقتلونه ولذلك قال تعالى (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[3] وهذا هو نفس الرزق الذي ذكر في قوله تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).[4]  

وقد مرّ الكلام في إضلال العمل وأنه بمعنى جعله تائها لا يوصل الى المطلوب سواء في الدنيا أم في الآخرة فالمراد هنا اولا أعمالهم الفردية التي أتوا بها للتقرب الى الله تعالى كالعبادات ولعل المراد بعدم إضلالها أن الله تعالى يكفّر كل سيئة من شأنها ان تحبط الاعمال فيبقى العمل الصالح سليما مؤثرا في تحديد مرتبته ومقامه عند ربه وثانيا نفس هذا العمل الذي قاموا به في مقابلة الاعداء حيث جاهدوهم وقاتلوهم حتى قُتلوا فالله تعالى يعدهم أنّ هذه المجاهدات لن تذهب سدى ولن تضل في الدنيا ايضا كما لا تضل في الآخرة فستنتج النتيجة المطلوبة وهي غلبة الحق على الباطل وإقامة دين الله في الارض ولو بعد حين.

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ... ربما يتوهم أن الهداية تختص بهذه الحياة فالانسان بعد انتقاله منها ليس في مسير وتكامل حتى يهتدي الى طريق الحق ويتجنب الباطل بل تنكشف الحقائق بعد الموت فلا تحير ولا ضلال ولا هداية ولعله لذلك قرأ بعضهم الكلمة في الآية السابقة بالالف اي (قاتلوا) ولكن الصحيح أن الانسان كغيره من الموجودات لا يستغني من هداية الله تعالى في أي عالم من العوالم ولكن الهداية هنا ليست بمعنى اراءة الطريق بل الايصال الى المطلوب. وقد مر معنى اصلاح البال الا ان المراد في المورد السابق اصلاحه في الدنيا وفي هذه الآية اصلاحه في الآخرة او في عالم البرزخ حيث دلت الآية الآنفة الذكر على أنهم أحياء بعد الموت عند ربهم يرزقون.

والعلامة الطباطبائي رحمه الله اعتبر اصلاح البال عطفا تفسيريا على الهداية وقال ان المراد به إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربهم بانكشاف الغطاء واستفاد ذلك من ضم هذه الآية بالآية المذكورة آنفا. ولعل مراده أنه حيث اعتبرهم في تلك الآية أحياء وأنهم عند ربهم فاستنتج أن الاحضار لهذا المعنى هو المراد بالهداية واصلاح البال في هذه الآية. ولكن لا يبعد شمول اصلاح البال لما ذكره ولغيره ومنها الرزق المذكور في الآية ولا يعلم حقيقته الا الله تعالى.

وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ... قوله (عرفها لهم) جملة استئنافية. وقيل حالية بتقدير (وقد). ولعل المراد بالتعريف توصيفها في الكتاب والسنة ويمكن ان يخصهم الله تعالى بتعريف آخر خاص بجنتهم الخاصة وقد ورد في بعض الروايات ان المؤمن يرى موضعه من الجنة منها ما رواه الصدوق مرسلا عن الامام الصادق عليه السلام انه قال (ما يخرج مؤمن من الدنيا الا برضا منه وذلك أن الله تعالى يكشف له الغطاء حتى ينظر الى مكانه من الجنة..)[5] وقيل المراد بالتعريف التحديد وأن لكل أحد جنة تخصه. وقيل: التعريف من العرف - بضم العين - اي الرائحة الطيبة.

 


[1] الانفال: 67

[2] البقرة: 193

[3] الحج: 58

[4] ال عمران: 169

[5] من لا يحضره الفقيه ج1 ص134