يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ... المراد بنصرة المؤمنين لله تعالى نصرة دينه وهو واضح. والمراد بنصرة الله تعالى للمؤمنين هو تهيئة الوسائل في الجهات الخارجة عن اختيارهم ليتمكنوا من الظفر على أعدائهم وذلك لان الانسان مهما كان قويا وشديد العزم والارادة وأعدّ للحرب عدّته فإن هناك من الاسباب ما هو خارج عن اختيار البشر وبذلك ربما تتغير المعادلة وينهزم الجيش الاقوى. هذا مضافا الى أن الثبات وقوة الارادة والعزيمة ايضا الهام من الله تعالى ومضافا الى أن كل نصر من الله تعالى والهزيمة ايضا منه وكل شيء منه قال تعالى (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).[1]
وهذه الآية وعد صريح بأنه تعالى ينصر المؤمنين اذا قاتلوا في سبيله فاذا وجدنا من ينصر الله ظاهرا ولم ينصره الله تعالى فلعل السبب فيه أنه لم ينصر الله حقا فهذا يتبع قصده وكثير من المقاتلين في صف المؤمنين يقصدون الوصول الى أهداف مادية شخصية او اجتماعية وكثير من الحروب التي تقام باسم الدين لا يراد بها الا المزيد من الفتوحات وتوسعة رقعة الحكم والسلطة. والتاريخ يسجلها بأحرف بارزة ويعتبرها فتوحات اسلامية ولم يكن الهدف منها اقامة دين الله تعالى حيث ان زعماء الحرب واصحاب الراية لم يكونوا بأنفسهم ملتزمين بأحكام الله تعالى ناهيك عن الحروب التي تقام باسم الوطن او القومية العربية ونحوهما.
وثبات الاقدام في الحرب كناية عن الصبر والمقاومة حتى النهاية فالحرب لا بد فيها من التضحية ومَن توقع أن يقل القتلى في جانبه حتى يكون هو المنتصر فقد أخطأ وانما المنتصر هو الجيش الصابر حتى النهاية مهما اشتد الموقف عليه وكثر فيه القتلى. وذكر تثبيت الاقدام بعد النصر لعله من ذكر الخاص بعد العام فان التثبيت من عوامل الانتصار. ومن هنا يعلم ان الهزيمة في بعض الحروب كما حدث في اُحُد لا ينافي النصر الالهي في النهاية. وأما ما حدث لبعض الانبياء والائمة عليهم السلام من القتل فهو كالقتل الذي أصاب بعض المجاهدين في غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم ولا ينافي أن النصر النهائي كان لهم ولكلمتهم وهدفهم.
ويمكن أن يشمل تثبيت الاقدام ما بعد الانتصار فيكون المراد التثبيت على العقيدة والايمان وعدم البطر والافراط في الفرح بالنصر وبالغنائم والاموال التي يحصل عليها الجيش المنتصر. وهكذا كانت تدور الدوائر على الحضارات المستحدثة سواء الدينية وغيرها. والمسلمون ايضا لم يشذّوا من هذه القاعدة فالانتصارات والفتوحات والاموال الطائلة التي حصلوا عليها بالاستيلاء على البلدان كانت هي منشأ الداء العضال الذي انتشر في المجتمع الاسلامي وهو الرفاهية والانحياز الى الراحة والبطر حتى جُرّ البساط من تحت أرجلهم وهم لا يشعرون. فلعل الآية الكريمة تشير الى أن تثبيت الاقدام على النصر الواقع يرتبط ايضا ببقاء المجتمع على تعهده بالاستمرار في نصر الله تعالى ونصر دينه وشريعته وأحكامه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ... قال في العين (التعس ألّا ينتعش من صرعته وعثرته وأن يُنكَّس في السَفال) اي ينحدر مقلوبا. وهذا إمّا دعاء عليهم كقوله تعالى (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ)[2] او بتقدير قضى الله لهم تعسا ونكسا. والدعاء من الله تعالى هو القضاء ايضا لانه تعالى لا يطلب ذلك من غيره وانما يقضي عليهم التعاسة تكوينا. ومهما كان فهذا ايضا جزء من نصره تعالى للمؤمنين حيث انه يتعس الكافرين في مواجهتهم ويقضي لهم صرعة وعثرة على وجوههم لا يقومون منها. ويذكر تعاسة الكافرين في مقابل تثبيت أقدام المؤمنين في الآية السابقة.
وقد مرّ الكلام في إضلال الأعمال ولعل المراد بأعمالهم في مقام نصر المؤمنين هو ما يكيدونه ضدهم في الحرب. والاضلال هو الابطال وهو يتحقق في هذا المقام بعدم السماح لأعمالهم الكيدية بالتأثير والايصال الى المطلوب فتفنّد بذلك حيلهم وينتصر المؤمنون.
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ... هذا التعليل هو القاصم للظهر فالمؤمنون ايضا يجب أن ينتبهوا بأن الله تعالى لا يعادي قوما من البشر الا لمواقفهم وأعمالهم فالسبب في القضاء عليهم بالتعاسة والنكس هو أنّهم كرهوا ما أنزل الله تعالى من الرسالات. وهذا الامتحان والابتلاء هو أساس الحكمة في التشريع فان الله تعالى لا يحتاج الى عبادة منا ولا الى شروط فيها ولكنه يبتلي بذلك عباده وليس كل حكم شرعي مناسبا لأذواقنا وأهوائنا بالطبع فان كرهنا حكما من أحكام الله تعالى وشرائعه فان مصيرنا هو نفس المصير التعس الذي قضاه الله للكافرين ولا ينفعنا ما ندعيه من الايمان. والجدير بالذكر أنه تعالى لم يعلق الحكم على مرحلة العمل بل على مرحلة الحب والكراهة فمجرد كراهة حكم الله تعالى توجب هذا الانحطاط والتعاسة حتى لو عملت به على مضض.
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ... الحبط في الاصل داء يصيب الدابة ويوجب انتفاخها بالاكل فتموت ولعل التعبير بحبط الاعمال الوارد في القرآن الكريم لتشبيه العمل الباطل الذي لا يفيد صاحبه شيئا بالانتفاخ في الدابة الموهم للسمن وهو في الواقع لا يفيد بل يضر ومنه عمل المرائي مثلا فقد يكون حجم العمل كبيرا وظاهره جميلا ولكنه في الواقع يوجب الهلاك في المعايير الالهية. والكافر ايضا ربما تكون له أعمال حسنة واذا كان معتقدا بالله تعالى فلعله يعمل بعض الاعمال لوجهه تعالى وكان المشركون يستغفرون الله كما قال تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[3] والآية لم ترد في المؤمنين كما ربما يتوهم بل موردها كفار مكة كما هو واضح من السياق. وهذه الاعمال لا تنفعهم في الدنيا ولا في الآخرة لشركهم ولكراهتهم ما أنزل الله تعالى من الرسالات سواء في العقيدة او الاحكام. ولا ينافي ذلك ما ورد في الآية المذكورة من عدم العذاب لاستغفارهم فان عذاب الاستئصال له حكم خاص فلا ينزل على القوم والرسول بينهم حتى لو كانوا يؤذونه ولا ينزل عليهم ما داموا يستغفرون الله تعالى.
وبذلك يتبين أن المراد بالاعمال المُحبَطة في هذه الآية غير الاعمال المذكورة في الآية السابقة التي أضلها الله تعالى فان المراد بها في الآية السابقة كل ما يعملونه للوصول الى هدف دنيوي والاضلال يمنعها من الوصول والمراد في آية الحبط أن أعمالهم التي يمكن أن تكون مفيدة لهم في الحياة الدنيا على الاقل تُحبط بمجرد كراهتهم لما أنزل الله تعالى مما لا يناسب أهواءهم فيحبط الله كل ما عملوه من خير واستغفار وتوجه الى الله تعالى فلا يبقى لهم ما يشفع لهم فيقضي الله عليهم بالتعاسة والهلاك في مواجهة المؤمنين.
واذا لاحظنا قوله تعالى في ما سبق من السورة (كذلك يضرب الله للناس أمثالهم) بدا واضحا أن الحكم لا يخص الكفار فعلى المؤمنين أن يلاحظوا أنفسهم ويراقبوها ويحاكموها ويتساءلوا فيما بينهم: هل هم ايضا يكرهون ما أنزل الله تعالى ويضيقون به ذرعا ان لم يناسبهم فان كانوا كذلك فلا يحق لهم ان ينتظروا نصرا من الله تعالى بل نكسا وتعاسة.
وليعلم أن هناك ممن آمن بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرا من أعلن عدم موافقته مع بعض الاحكام الشرعية أمام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كمتعة الحج حيث قال الرجل (يا رسول الله نخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر؟!) فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (انك لن تؤمن بهذا أبدا)[4] ومنهم من استنكف من نصب علي عليه السلام وليا واماما بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلت فيه الآية (سأل سائل بعذاب واقع) حسب بعض الروايات وان استبعدنا ذلك بمقتضى سياق الآيات ولان السورة مكية. ومنهم من رفضه ولم يستسلم له بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلّم بحجة أن العرب لا تسلم أمرها الى شاب او انهم يكرهون ان يجمعوا الرسالة والملك في اسرة واحدة وأمثال ذلك من المعاذير وكل هذا يدخل تحت عنوان كراهة ما أنزل الله تعالى. ولذلك ورد في بعض الروايات عن الامام الباقر عليه السلام أن المراد بقوله تعالى (ما أنزل الله) ما أنزله في علي عليه السلام وهذا من باب الجري والتطبيق وليس من شأن النزول.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ... استفهام تقريري اي انهم قد ساروا في الارض. والذين ساروا في الارض بعض القوم طبعا الا أنه يكفي لاطّلاع الجميع على الآثار الباقية من الامم السالفة وهم كانوا يخرجون في تجارتهم الى الشام ويمرون على مدن أصابها العذاب الالهي كمدينة سدوم وهي مسكن قوم لوط عليه السلام والايكة وهي مسكن قوم شعيب عليه السلام او بعضهم وقد قال تعالى بعد ذكر ما جرى عليهما (وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ)[5] والامام الطريق فالمدينتان الخربتان كانتا على طريق المارة بين الشام والحجاز وهم يشاهدون الآثار فكان عليهم الاعتبار. وهو في نفس الوقت حث للسير في الارض وملاحظة عاقبة الكافرين قبلهم كما ورد في موارد عديدة لتنبيههم على نماذج من عقاب الاستئصال.
والعاقبة من كل شيء آخره مأخوذ من العقِب اي مؤخرة القدم. وفي التعبير بها تنبيه للبشر ان لا يغتروا بما أنعم عليهم الله تعالى في وضعهم الحالي من رغد العيش وسعة الرزق فقد لا تكون عاقبة أمرهم خيرا كما كانت كذلك في الامم السالفة. وقوله تعالى (دمر الله عليهم) جملة استينافية تبين عاقبة السابقين. والدمار: الهلاك، دمَرَ القومُ اي هلكوا. ودمّر اي اهلك والمفعول محذوف اي دمر عليهم مساكنهم فلم يكن مجرد هلاك بمرض او حرب بل دمّرت بيوتهم واستؤصلوا استئصالا ولم يبق منهم ومن اولادهم وحضارتهم شيء الا بعض الآثار للعبرة.
وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا... الضمير يعود الى العقوبة او العاقبة والمراد بالكافرين كفار مكة والجزيرة العربية اي ثبت للكفار امثال تلك العقوبة التي نزلت بالسابقين او امثال تلك العاقبة فيكون تطبيقا لما نبه عليه من الاعتبار بآثار السابقين وتحذيرا للقوم بأنهم يستحقون أن ينزل عليهم أمثال تلك العقوبات ولعل جمع المثل باعتبار أنهم يستحقون وجوها من عذاب الاستئصال وان كان المتحقق وجه واحد لا محالة.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ... لعل اسم الاشارة يعود الى الفرق بين المؤمنين والكافرين في العاقبة حيث يتبين بما تقدم أن الله تعالى ينزّل عذاب الاستئصال على الكافرين دون المؤمنين حتى في الاقوام السابقة وقد ورد في موارد اخرى أن الله تعالى ينجي الرسل والذين آمنوا معه ثم ينزل العذاب والسبب في ذلك أنه تعالى مولى المؤمنين واما الكافرون فلا مولى لهم ينصرهم وينجيهم من عذاب الله اذ لا يمكن لاي مخلوق أن ينصر أحدا اذا أراد الله به سوءا. والمراد بالمولى الذي يتولى أمورهم ويسدد خطاهم ويهديهم ويصلح بالهم فلا ينافي قوله تعالى (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)[6] فان المراد بالمولى هناك الرب والمتصرف في شؤونهم.
[1] ال عمران: 126
[2] التوبة: 30 / المنافقون: 4
[3] الانفال: 33
[4] الكافي ج4 ص249 باب حج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ح6 والحديث صحيح
[5] الحجر: 79
[6] يونس: 30