مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

فقلت استغفروا ربّكم إنّه كان غفّارا... بيان تفصيليّ لما كان يدعو اليه. وتتبيّن منه كيفية دعوة الرسل أقوامهم الى الدين، ليكون درسا للدعاة.

ويلاحظ في هذه الدعوة عدّة نقاط:

الأول: أنّه عليه السلام بدأ دعوته بطلب المغفرة، واللجوء الى ربّهم. ولم يدعهم مباشرة الى الايمان، بل فرضهم مؤمنين به تعالى، وهم فعلا كانوا يعترفون بأنه تعالى هو الخالق، ولكنهم أشركوا به في الربوبية والعبادة. وهذه الطريقة أفضل بكثير من تأنيب الناس بكفرهم وفسادهم، فهو بهذا البيان يلقّنهم أنّهم مؤمنون بأنّ الربّ هو الله تعالى، وأنّهم إنّما ابتعدوا عنه بتأثير من عوامل خارجية لا تمتّ الى فطرتهم السليمة بصلة.

الثاني: التنبيه بالامر بالاستغفار على أنّ بعض ما يصيبهم من بلاء من جدب ونقص في الاموال والانفس ينشأ من ذنوبهم وشركهم وأنّ الحلّ الوحيد هو الاستغفار والتوبة.

الثالث: التركيز على عنوان الربّ وإضافته اليهم ليشعرهم بتعلقهم به وعطفه عليهم واهتمامه بتربيتهم فلم يأمرهم باستغفار الله تعالى بل أمرهم باستغفار ربّهم فهو يطلب منهم بذلك الرجوع الى ربّهم ليربّيهم، ويوصلهم الى الكمال المطلوب.

الرابع: أنّه عليه السلام بعث فيهم الامل بأنّ ربّهم لا ينساهم ولا يتركهم وإن أذنبوا وتوغّلوا في الشرك والآثام، وذلك لأنّه غفّار اي كثير المغفرة لعباده، يقبل منهم القليل، بل يشكرهم عليه، ويتجاوز عن الكثير، بل يغفر ويستر. وهذا ليس صفة خاصّة بزمان دون زمان او قوم دون قوم، بل إنّه تعالى كان غفّارا من الأزل، لأنّ هذه صفة تابعة لرحمته الواسعة التي وسعت كل شيء.

يرسل السماء عليكم مدرارا... لا يستغني الانسان في أيّ زمان ومكان عن المطر للشرب والغسل وسقي الزرع والحيوان وغير ذلك ويبدو من الآية أنّ القوم كانوا بحاجة ماسّة الى المطر فلعله كان لتتابع الجدب، او لبعدهم عن الانهار والآبار، او لأنّ آبارهم وأنهارهم نضبت من قلة المطر.

و(يرسل) مجزوم لأنه جزاء الامر اي ان تستغفروا يرسل.. وانما كسر اللام لالتقائه بساكن. والسماء جهة العلو. والمراد هنا مواضع السحاب، او السحاب بنفسه. ومعنى إرسالها رفع المانع عن المطر، والإرسال الإطلاق ورفع القيد فكأنّها محبوسة من قبله تعالى عن الإمطار لذنوبهم، فان استغفروا أطلقها الله تعالى من حبسها لتباشر دورها في الطبيعة بالإمطار. والمدرار صيغة مبالغة من الدَّرّ اي السيلان ويقصد بالمبالغة كثرة الامطار او تتابعها.

ويمددكم بأموال وبنين... وهذا أيضا مما يتوق اليه الانسان بطبعه. والإمداد ايصال المدد. وهو كل ما يمتدّ به الشيء ويطول بقاؤه، فإمداد الجيش بإرسال العساكر والسلاح والمؤن، وإمداد الانسان في حياته بإعطائه وسائل التعيش. والمال من أهمّ ما يحتاج اليه الانسان، والمراد به كل ما يملك وينتفع به. وذكر البنين خاصّة من الذرّيّة لأنّ البشر في ذلك العهد كانوا بحاجة ماسّة الى الاولاد الذكور للعمل وللحماية، فكان السعيد من يكثر ماله وبنوه.

ويجعل لكم جنّات ويجعل لكم أنهارا... وفي هذا إشارة الى تحوّل البيئة بأجمعها الى بيئة تتوفّر فيها النعم، وتتكوّن فيها الجنّات والأنهار، مما يؤثّر في رغد العيش والرفاه بصورة عامّة، ويتحوّل المجتمع الى مجتمع سعيد من الناحية المادّيّة. كلّ هذه النعم تتوالى عليكم بالاستغفار، والرجوع الى ربّكم، وترك المعاصي والموبقات وأعظمها الشرك. وهذا الأمر ممّا دلّت عليه الآيات والروايات. قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ..)[1] ويدلّ عليه ايضا كلّ ما دلّ على أنّ ما يرتكبه الانسان سبب لما يصيبه كقوله تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ..)[2] فاذا استغفر الانسان ربّه وتاب عليه ارتفع البلاء ونزلت الخيرات والبركات. ومن هنا فان أفضل دعاء تدعو به لمن يهمّك أمره هو طلب المغفرة له.

وفي رواية أرسلها ابن ابي عمير قال: (شكا الأبرش الكلبي إلى أبي جعفر عليه السلام أنه لا يولد له فقال له: علّمني شيئا قال: استغفر الله في كل يوم وفي كل ليلة مائة مرة، فإنّ الله يقول: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا ــ إلى قوله ــ ويمددكم بأموال وبنين).[3]

ومنهم من يتساءل في هذا المقام عن البلاء الذي ينزل على المؤمنين الصالحين بل الأنبياء والمرسلين والأئمة الطاهرين عليهم السلام كما يقع السؤال عن النعمة ورغد العيش الذي أنعم الله به على الكفار والمشركين والجبابرة الطغاة؟

ولكن لا وجه للتساؤل أساسا فالآيات لا تحصر سبب البلاء والمصيبة في المعصية ولا تحصر سبب النعمة في الاستغفار والتوبة بل مفاد الآيات أن الاستغفار ينفع في رفع البلاء الذي كان سببه المعصية. وأما قوله تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) فقد مر الكلام حوله في تفسير سورة الشورى وخلصنا الى أنّ الآية ليست عامّة وهناك موارد كثيرة من البلاء لها أسباب اُخرى وبعضها لمصلحة المبتلى. قال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).[4]

وأما النعم التي أنعم الله تعالى بها على الكفار فقد قال فيها الله تعالى (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[5] وقال تعالى (وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ).[6]  ويمكن أن يكون بعضها نتيجة لبعض أعمالهم وان لم تكن بنية صالحة فمساعدة المساكين لا يبعد أن توجب نزول الرحمة الالهية على الانسان وان كان كافرا فهم لا يجازون بأعمالهم في الآخرة ولكن لا يبعد تأثير ذلك في الحياة الدنيا. بل لا يبعد أن يؤثر ذلك في الآخرة ايضا كما قال تعالى (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ)[7] بناءا على أنّ المراد كون كل من الفريقين لهم درجات وكما أنها تختلف في الثواب والقرب لدى الله تعالى كذلك تختلف في العقاب والبعد عن الرحمة باختلاف الاعمال.

ما لكم لا ترجون للّه وقارا... اي ماذا حدث لكم حيث إنّكم لا ترجون للّه وقارا. وقد اختلف المفسرون قديما وحديثا في معنى الرجاء والوقار في هذه الآية الى أقوال كثيرة.

قال الطبرسي في مجمع البيان (أي لا تخافون لله عظمة، فالوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم. والرجاء: الخوف هنا. والمعنى لا تعظّمون اللّه حق عظمته فتوحّدوه وتطيعوه. عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: معناه ما لكم لا ترجون للّه عاقبة، عن قتادة، أي لا تطمعون في عاقبة لعظمة الله تعالى. وقيل: معناه ما لكم لا تخافون للّه عذابا، ولا ترجون منه ثوابا، في رواية اُخرى عن ابن عباس. وقيل: معناه ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان وتوحدون الله، عن الزجاج. وقيل: معناه ما لكم لا تعتقدون لله إثباتا، عن أبي مسلم)

وهناك أقوال اخرى ومنها ما في الميزان حيث قال (والحق أنّ المراد بالرجاء معناه المعروف وهو ما يقابل الخوف. ونفيه كناية عن اليأس فكثيرا ما يكنى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيرا أي أنا آيس من أن يكون فيه خير، والوقار: الثبوت والاستقرار والتمكن، وهو الأصل في معناه، كما صرح به في المجمع. ووقاره تعالى ثبوته واستقراره في الربوبية المستتبع لألوهيته ومعبوديته.

كأنّ الوثنيين طلبوا ربّا له وقار في الربوبية ليعبدوه، فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره. وهو كذلك، فإنهم يرون أنّه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه، والعبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الأمر. وتدبير أمور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة والجن، فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، وأما هو تعالى فليس له إلا الإيجاد، إيجاد الأرباب ومربوبيهم جميعا دون التدبير).

ولكنه تأويل بعيد جدّا فالوقر وإن قيل إنّه ورد بمعنى الثبوت الا أنه ليس هو الاصل فيه، ولم أجد ما نسبه الى المجمع فيه ولا في مجمع البحرين، مع أنّ المراد بالثبوت على فرض صحته هو السكون كما ورد في كتب اللغة لا الوجود، ومضافا الى أنّه لو اُريد الثبوت لكان بمعنى أصل ثبوته تعالى لا ثبوت الربوبية، فانه بحاجة الى تأويل آخر لا دلالة في اللفظ عليه.

والواضح من السياق أنّ المراد بالآية عدم توقير الله تعالى وتعظيمه، ورعاية مقامه في ما يفعله الانسان. وهو ما يشاهد بوضوح في اعمالنا ايضا، فقلّما تجد مؤمنا يراعي هذا الجانب في كل تصرفاته، والقوم كانوا يعتقدون به تعالى ويعلمون أنّه هو الخالق لهم وللكون، فما كان من سيدنا نوح عليه السلام الا تنبيههم على عظمة الخالق ولزوم رعاية جانبه في تصرفاتهم.

والحاصل أنّ المقصود من الآية واضح، كما أنّ كون المراد بالوقار هو التعظيم واضح ايضا، والأصل فيه هو الثقل، إنّما الكلام في التعبير بالرجاء، والظاهر أنّ المراد به الطلب اي لماذا لا تطلبون له تعظيما وتوقيرا في أعين الناس وفي نفوسكم، فتعملون ما ينبئ عن استخفافكم لعظمته ــ تعالى شأنه ــ أمام الناس وفي دخيلة أنفسكم.

ولعلّه إنّما عبّر بالرجاء بدلا عن الطلب لأنه يحكي عن أقل درجة منه. وذلك لأنّ الرجاء بمعنى الأمل، وهو يحكي عن رغبة شديدة، مع كون التوقع بعيدا، كمن يرجو شفاء مريض يصعب علاجه، فهو مطلوب بشدّة في النفس، ولكنّه ليس متوقّعا بالتأكيد. فالتعبير في الآية الكريمة يقصد به التنديد بهذه الحالة لدى المخاطبين بل كل البشر، وهي عدم رعاية جانبه تعالى في الافعال حتى بدرجة خفيفة، فهم لا يرجون ولا يتوقعون له ــ تعالى شأنه ــ وقارا وثقلا في الحضور حين العمل، مع أنّه تعالى هو الحاضر الرقيب على جميع الاعمال، والنوايا والخبايا، وما يخفيه الانسان حتى عن نفسه.

وبما ذكرناه يتبيّن أنّ كثيرا من التأويلات في هذ المورد وغيره ينقصها ذكر الوجه في انتخاب هذا التعبير، فلو فرض صحة التعبير عن الخوف بالرجاء، او عن الثبوت في الواقع بالوقار يبقى السؤال عن وجه اختيار هذا التعبير البعيد عن الذهن. وهذا ما لم يتطرّق اليه أصحاب التأويل ممّا يبعّد احتمال هذه التأويلات.

وقد خلقكم أطوارا... جملة حالية، اي كيف لا تراعون جانبه ولا تشعرون بحضوره مع أنّه تعالى خلقكم أطوارا؟! والأطوار جمع طور. والاصل فيه الحدّ للشيء، يقال فلان تعدّى طوره اي تجاوز حدّه. والحدّ قد يكون في الزمان وهو الذي يعبّر عنه بالتارة، فاذا قيل طورا بعد طور اي تارة بعد تارة، او قيل طورا كذا وطورا كذا اي تارة كذا.. وقد يكون في المكان اي في أبعاد الجسم، فيقال إنّ الانسان او الحيوان او الشجر تحوّل من طور الى طور، اي نما وترعرع وكبر حجمه. وهذا ما يدعى بالتطوّر في التعبير الحديث.

ولعلّ هذا المعنى هو المقصود هنا، اي خلقكم في أطوار وحالات مختلفة، فقيل: إنّ المراد حالة النطفة ثم العلقة ثم المضغة وهكذا الى أن يكمل الجسم. وقيل: يشمل ما بعدها من الحالات ايضا كالصبا والشباب والكهولة. وقيل: يشمل اختلاف أفراد الانسان في جسمه وحالاته وألوانه ونفسياته ونحوذلك.

والصحيح أنّ الأطوار لا تنحصر في شيء فالانسان بل كل شيء في تطوّر وتحوّل دائم وهو في كل لحظة وأقل من لحظة يختلف حاله عمّا قبلها وما بعدها وكلّ هذا الاختلاف والتحوّل من الله تعالى. ومن هنا يتبيّن ارتباط الآيتين فسيدنا نوح عليه السلام يستغرب من عدم شعورهم بحضوره تعالى وعدم رعاية جانبه مع أنه حاضر معهم دائما ويغيّر خلقهم من طور الى طور سواء ما يشعرون به من أطوار الصبا والشباب والشيخوخة او ما لا يشعرون به.

 


[1] الاعراف: 96

[2] الشورى: 30

[3] الكافي ج6 ص8

[4] البقرة: 154-157

[5] آل عمران: 178

[6] التوبة: 85

[7] آل عمران: 162-163