مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا... ظاهر السياق أنّ هذه وما بعدها من الآيات من تتمّة كلام نوح عليه السلام الذي خاطب به قومه. ولا ينافيه قوله تعالى بعد ذلك (قال نوح..) لاختلاف المخاطب فهو في هذا الكلام يخاطب قومه ثم يناجي ربّه.

ولكنّ بعض المفسّرين اعتبرها من كلامه تعالى تعقيبا على خطاب نوح عليه السلام وجملة معترضة بين خطاباته. وهو ايضا ليس ببعيد، وله نظائر في القرآن الكريم، ويترتب على هذا الاختلاف بعض الآثار، حيث استدل بعضهم بخطاب نوح قومه بذلك على أنّ كون السماوات سبعا كان معلوما لديهم.

ومهما كان فالظاهر من الرؤية الإبصار بالعين، ولا موجب لحملها على العلم كما في بعض التفاسير. ولعل الذي دعاهم الى ذلك أنّ كون السماوات سبعا، وكونها طباقا ليس مما يشاهد بالعين. ولكن لو كان هذا هو السبب فلا ينفع الحمل على العلم، لعدم علم المخاطبين بذلك ايضا، حتى لو قلنا بأن الخطاب موجّه من الله تعالى الى من كان في عهد الرسالة، بل لا يعلمه البشر حتى الآن.

ولا حاجة الى هذا التأويل، لأنّ المراد بالرؤية النظر الى نفس السماء والتأمل فيها، لا اليها بهذا الوصف، والتوصيف انما هو من الله تعالى لتصحيح تصوّر الانسان نوعامّا من دون تفصيل. والغرض الحثّ على التأمل في عظمة الكون، ودقّة ما فيه من النظام، وهو يحصل لكل أحد حسب استعداده وفكره وعلمه، وبمقتضى ما وصل اليه علم الانسان في عصره.

والانسان الساذج في العصور القديمة الذي لم يكن يعلم شيئا من حقائق الكون كان يلاحظ السماء وتبهره عظمتها وعظمة ما فيها، حتى لو تصور السماء جسما كبيرا رُكّبت فيه النجوم كمسامير، وهو لا يعلم عددها ولا ضخامتها ولا بعدها.

والقرآن كما أشرنا اليه مرارا ليس كتابا علميا، ولا يهتم بذكر حقائق الكون والطبيعة، وليس هذا شأنه، وانما هو كتاب هداية لجميع البشر في كل الاعصار، على اختلاف أفهامهم وثقافاتهم، فهو في هذا المجال يحثّهم على تأمّل ما حوله من السماء والارض، وما فيهما من الدقة في الخلق والتدبير، ليتعرفوا بذلك على ربّهم، سواء منهم العالم بشؤون الطبيعة وحقائق الكون والجاهل بها.

وبذلك يرتفع الاستغراب عن قوله تعالى (كيف خلق الله..) فإنّ البشر مهما تعمّق وتوسّع في العلم والمعرفة فإنّه لن يصل الى معرفة كيفية خلق السماوات، ومثله قوله تعالى (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)[1] فالمراد ليس حثّه واقعا على التأمل في كيفية الخلق، بل المراد الوصول الى معرفة الربّ عن طريق التأمّل في أنّ الخالق لم يخلق الكون جزافا، بل بكيفية خاصّة تحقّق الهدف الربوبي.

توضيح ذلك أنّ القوم ــ سواء قوم نوح عليه السلام او كفار مكّة ــ ما كانوا ينكرون الخالق كملاحدة هذا العصر، بل كانوا يعترفون بأنّ الله تعالى هو خالق الكون، ولكنهم كانوا ينكرون ربوبيته، ويعتقدون أنّ هناك أربابا مخلوقين يديرون شؤون الكون، ويؤثّرون في حياة الانسان. ولعلّهم كانوا يستبعدون بعقلياتهم السخيفة أن يكون المؤثّر في جميع شؤون الحياة عظيمها وحقيرها موجود واحد، فيحاولون استنزال الربّ الى مستوى الخلق ليباشر الادارة.

والرسل عليهم السلام بالاستعانة بكتب السماء كانوا ينبّهونهم على أنّ الربوبية من شؤون الخالقية، ولا يمكن أن يتكفلها غير الخالق. وذلك لأنّنا اذا تأمّلنا ولاحظنا الكون وجدنا أنّ كل أجزائه خلقت متناسقة ومتناسبة من أجل الوصول الى الهدف الربوبيّ الذي يتوقعه الانسان، وعلى أساسه يعبد الاله او الآلهة، فكل ما نراه من نعم ونقم، وما نخافه وما نرجوه، انما هو مخلوق لله تعالى. والنتيجة أنّ الخالق هو الربّ.

ولو كان المراد الحثّ على الدّقّة والتأمّل في حقيقة الكون ومعرفة تفاصيلها لكان أقرب الخلق الى امتثال هذا الأمر ملاحدة هذا العصر ونحن نجد أنّهم كلّما تأمّلوا وتعمّقوا ازدادوا بعدا عن الله تعالى. فيتبيّن أنّ المقصود هو التأمّل من جهة اُخرى كما ذكرنا.

والسماء جهة العلو فقد تطلق ويراد بها الأجواء العالية بالنسبة لنا كمواضع السحاب فكثيرا مّا يعبّر عنها بالسماء في القرآن وفي الاستعمالات اللغوية، مع أنّ العرب كانوا يعلمون أنّها ليست بعيدة جدا وكانوا يشاهدون السحاب على الجبال. وقد يراد بها الغلاف الجوّيّ وان لم يعلموا حقيقته. وهذا الاستعمال كثير ايضا لدى الناس حيث توصف السماء بالزرقاء.

وقد يراد بها عالم الملائكة وهذا الاستعمال كثير في القرآن الكريم كقوله تعالى (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا)[2] وقد مرّ بعض الكلام حول الآية في تفسير سورة الحاقّة. ومن موارد استعمالها قوله تعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)[3] وقد عبّر عنها امير المؤمنين عليه السلام ــ كما في نهج البلاغة ــ بمسكن الملائكة، وان كنا لا نعلم كيفية تعلقهم وارتباطهم بها.

ولكنّ الظاهر أنّ المراد بها هنا خصوص الأجرام الفلكية بقرينة اعتبار الشمس والقمر فيهنّ كما في الآية التالية. والسماء انما تطلق على هذه الأجرام باعتبار أنّ الانسان في موضع تواجده يراها فوقه والا فالواقع أنّها حولنا. وأرضنا جزء من المجموعة.

وقد مرّ الكلام حول عدد السبع في تفسير قوله تعالى (فقضاهنّ سبع سماوات..)[4] وقلنا إنّ الظاهر أنّ التحديد بالسبع مقصود، وذلك بدليل التعبير بالقضاء مما يدلّ على أنّه في مقام التحديد، وبدليل التأكيد على هذا العدد بالذات في موارد كثيرة من الكتاب العزيز، فليس المراد التنبيه على الكثرة فحسب، وان كان ذلك محتملا ايضا.

و(طباقا) جمع طَبَق، إمّا بمعنى أنّها طبقات بعضها فوق بعض، او بمعنى أنّها متطابقة. والتطابق بمعنى التساوي في الحجم، او بمعنى التماثل في الصفات، او في القانون الذي يتحكم فيها، او جهة اخرى. ولكن لا نعلم كيفية تقسيم الاجرام السماوية الى سبع طبقات، ولعلّ الانسان يصل في المستقبل الى السرّ في ذلك، فيجد مثلا أنّ هذه المجرات وما تحتوي عليها من أجرام تنقسم الى سبع طبقات مختلفة، وان كان عدد السبع رمزا للكثرة فالمراد أنّها أجرام كثيرة متطابقة.

وجعل القمر فيهنّ نورا وجعل الشمس سراجا... الضمير في قوله تعالى (فيهنّ) يعود الى مجموع السماوات السبع وان كان النيّران في بعضها، ولا يعني هذا التعبير أنّ في كل منها شمس وقمر، فإنّ إطلاق لفظ الشمس والقمر لا يراد بهما الا شمسنا وقمرنا، لا كل ما هو نيّر ومضيء من الكواكب والنجوم.

وانما نبّه على أنّ القمر فيهنّ مع أنّه مرئيّ واضح لأنّ الغرض من السوق الى رؤية السماء وكيفية خلقها هو التنبيه على ما أنعم به على البشر في هذا الخلق حيث جعل له القمر نورا والشمس سراجا.

ولعلّ التعبير عن الشمس بالسراج وهو المصباح الزاهر باعتبار أنّ نورها من ذاتها كالمصباح، بخلاف القمر الذي يعكس نور الشمس، فعبّر عنه بالنور ليشمل النور المنعكس. ومثله قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا..)[5] وقوله تعالى (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا).[6]

ولكن لا يتعيّن حمل هذا التعبير على هذا المعنى وإن ورد في أكثر التفاسير، فمن المحتمل أن يكون الوجه في ذلك شدّة إضاءة الشمس وخفوت نور القمر، كما قال تعالى (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا)[7] وذلك لأنّ القرآن كما مرّ لا يهتمّ بذكر حقائق الكون، وانما يهتمّ بذكر ما يشدّ الانسان بربّه. وهو هنا بصدد بيان نعمه تعالى الدالّة على ربوبيّـته للخلق ومن ذلك جعل الشمس سراجا وهّاجا تنشر النور في كل الأرجاء نهارا، ليتمكن الانسان من الرؤية الدقيقة الواضحة، حيث يباشر أعماله ونشاطه في الزراعة والتجارة والصناعة وغيرها. وأما الليل فليس بحاجة الى مثل هذا النور الوهّاج، بل ربما يضرّ به ويمنعه من النوم الآمن المريح، فجعله نورا خافتا يضيء الدرب لمن يسير ليلا، ولا يمنع من النوم الهادئ، بل لا ينير في كل ليلة، ولا في تمام الليل. 

والله أنبتكم من الأرض نباتا... إعادة ذكر الله تعالى والبدء به في أول الجملة للتركيز على أن الفعل فعله تعالى وإن توسّطت العلل والعوامل الطبيعية والغيبية، فهو الذي يخلق الانسان ويربّيه وينمّيه لحظة بعد لحظة، وهذا هو الإنبات. فليس دوره تعالى كدور الفلاح ــ كما قيل ــ بل هو الفاعل للانبات. والفلاح دوره في تحقق النبات هو الحرث والسقي وما يتبعهما فقط قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ).[8]

وإنما اعتبر خلق الانسان إنباتا من الارض مع أنّه يولد من أبويه لأنّ أصله من الارض، فدور الخلق في تكوينه يبدأ من تكوّن النطفة من الموادّ الأرضية إمّا مباشرة كالنباتات وإمّا بعد تناول الحيوان منها، فهي كلّها في النهاية موادّ أرضية.

وقد ورد التعبير عن تنمية الانسان بالإنبات في قوله تعالى حول مريم عليها السلام (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا..)[9] والمراد به هناك تنميتها جسما وروحا. و(نباتا) مفعول مطلق في الآيتين قيل: انه اسم مصدر وضع موضع المصدر وقيل: مفعول مطلق والتقدير (أنبتكم فنبتّم نباتا) وقيل: مفعول مطلق للانبات بتضمينه معنى النبات.

ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا... المراد بالاعادة في الأرض الدفن بعد الموت وبالإخراج الإحياء يوم القيامة، فالآية نظير قوله تعالى (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)[10] وقوله تعالى (قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)[11] وغيرهما من الآيات. و(إخراجا) مفعول مطلق لتأكيد الإخراج اي البعث في مقابل انكار المشركين مضافا الى رعاية أواخر الآيات.

والله جعل لكم الارض بساطا... ومن نعمه وآيات ربوبيته التي تتبع الخلق أن جعل الارض بساطا للانسان. والبساط كل ما ينشر، وهو مأخوذ من البسط اي النشر والتوسعة، في مقابل القبض. والتعبير بالبسط نظير التعبير بالمدّ في قوله تعالى (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا..)[12] والمراد به تسطّحها نسبيا بحيث يتمكّن الانسان من استخدامها في حاجاته، او كونها واسعة تسع كلّ البشر للسكنى والتنقّل والزراعة والصناعة وغير ذلك كما قال تعالى (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)[13] وغيرها من الآيات.

ويمكن أن يكون المراد تشبيهها بالبساط وهو نوع من الفراش فيكون كقوله تعالى (وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)[14] ووجه التشبيه جعل وجه الارض ترابا ورملا في الغالب بدلا عن الحجارة بحيث يتمكن الانسان من استخدامه بسهولة للسكن والزرع والتنقل ونحو ذلك فكأنّها بساط فرش له.

وقوله تعالى (لكم) يفيد أنّ هذا من نعمه تعالى على الانسان، وأنّ هناك عناية منه تعالى في خلق الارض بهذه الكيفية ليتنعم بها الانسان، وليس الامر صدفة واتفاقا كما يقوله ملاحدة هذا العصر.

لتسلكوا منها سبلا فجاجا... (منها) متعلقة بـ (تسلكوا) بتضمين معنى الاتخاذ اي تسلكون حال كونكم متخذين منها سبلا فجاجا. والفجاج جمع فجّ وهو الطريق الواسع والظاهر أنّه لا يختصّ بما بين الجبلين كما قيل. واللام تدل على أنّ سلوك السبل الواسعة مترتّب على كون الارض بساطا، وهو مناسب لكلّ ما مرّ من معاني البساط من كون الارض مسطّحة نسبيّا، وكونها واسعة، وكون سطحها ترابا ورملا كالبساط المهيّأ لمختلف أنحاء الحركة والتنقل، فكلّ هذه الخصائص لها تأثير في سهولة إنشاء الطرق الواسعة.

 


[1] الغاشية: 17- 20

[2] الفرقان: 25

[3] النجم: 26

[4] فصلت: 12

[5] يونس: 5

[6] الفرقان: 61

[7] النبأ: 13

[8] الواقعة: 63 - 64

[9] آل عمران: 37

[10] طه: 55

[11] الاعراف: 25

[12] ق: 7

[13] العنكبوت: 56

[14] الذاريات: 48