قال نوح ربّ إنّهم عصوني واتّبعوا من لم يزده ماله وولده الا خسارا... يلاحظ أنّ السياق مستمرّ في حكاية كلام نوح عليه السلام حيث شكا الى ربّه في الآية الخامسة ثم نقل كيفية دعوته لقومه، وهنا عاد الى الشكاية، فالظاهر أنّ قوله تعالى (قال نوح) من دون واو العطف تكرار لما مرّ من جهة طول الفاصل.
وشكواه أنّهم عصوه مع أنّ المطلوب كان التقوى وعبادة الله وحده وإطاعة الرسول فأشار بمخالفتهم للأمر بالإطاعة الى مخالفتهم في كل ذلك. وسبب عصيانهم متابعتهم لكبرائهم وأسيادهم، وعبّر عنهم بأنّهم ذوو أموال وأولاد، وهذا هو أساس القدرة والسلطة في تلك المجتمعات. ولكنّ ذلك من وجهة نظر الرسالة لا ينفع بل يضر، فهو بالذات السبب في مزيد من الخسارة، لأنّ الربح لا يكون الا في القيامة، وهم في الأصل خاسرون ذلك اليوم لشركهم وعدم إيمانهم بالرسالة، الا أنّ زيادة المال والولد تزيدهم خسارة من جهة زيادة المسؤولية أمام الله تعالى.
وهكذا كلّما زادت النعمة زادت المسؤولية، وزادت خسارة من لم يقم بواجبه تجاه النعمة، بل ربما تكون زيادة المال والولد بنفسها سببا للعذاب في الدنيا مضافا الى ما توجبه من الطغيان المستتبع للخسارة الكبرى في الآخرة، كما قال تعالى (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) التوبة: 55، فالمترفون يعرضون عن ذكر ربهم فيعيشون معيشة ضنكا نفسيا ويعذبون ايضا في ضمائرهم حيث لا يساعدون الفقراء قدر امكانهم.
ومكروا مكرا كبّارا... كبّار مبالغة في الكبر. وضمير الجمع يعود الى (من لم يزده..) باعتبار أنّهم جماعة. والمراد بمكرهم محاولاتهم بشتّى الوسائل إضلال الناس، وإبعادهم عن الرسول وهداياته، كما كان يفعله كبراء قريش بالنسبة للرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم. والتنديد بهم هو الغرض من التنبيه على طريقة قوم نوح عليه السلام في مواجهة الرسالة.
وقالوا لا تذرنّ آلهتكم... اي وقال المتبوعون لعامّة الناس (لا تتركوا آلهتكم) وأكّدوا النهي بنون التأكيد. ويقصدون بإضافة الآلهة اليهم إشعارهم باختصاصها بهم ليثيروا فيهم الحميّة والعصبيّة بالنسبة لما يخصّهم ويُعتبر ممّا يقدّسونه ويعظّمونه تبعا لثقافة الآباء والأجداد. وهذا أحد طرقهم في المكر بالناس. وهذه هي الطريقة المتّبعة في المجتمعات المتخلّفة حتى الآن.
ولا تذرنّ ودّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا... قيل: إنّها أسماء لخمسة من أصنامهم كانوا يهتمّون بها أكثر من غيرها. وهناك أصنام بين العرب في الجاهلية بهذه الاسماء، واحتمل بعضهم أن تكون نفس تلك الأصنام بقيت حتى هذه العصور. وهو بعيد جدا، خصوصا مع ملاحظة أنّ هذه الآيات مرتبطة بما قبل الطوفان، ويبعد بقاء هذه الأصنام بعد ذلك الطوفان العظيم الذي لم يبق من حضاراتهم شيئا. واحتمل بعضهم أن تكون أصنام الجاهلية سمّيت بهذه الأسماء إحياءا لذكرهم بطلب من بعض زعمائهم.
ويحتمل ــ وان لم يذكره أحد منهم ــ أن لا يكون ذكر هذه الاسماء من حكاية نوح عليه السلام لكلام المتبوعين من قومه ولكنّ الله تعالى ذكر أسماء أصنام الجاهلية كمثال لما كانوا يحثّون أتباعهم عليه، وان كانت أسماء أصنامهم تختلف عن هذه الاسماء ليكون تذكيرا لمشركي عصر النزول، وتنديدا بأفكارهم وأصنامهم، حيث ورثوا الشرك من جهّال ذلك العصر السحيق، فيكون ذلك نظير ما نعبّر عن طغاة هذا العصر بالفراعنة، لأنّهم يتبعون نفس الطريقة الفرعونية في إدارة المجتمع، وان كان فرعون لقبا لبعض ملوك مصر فقط.
وقد أضلّوا كثيرا... والإضلال غاية ما يثير غضب الرسل فإنّه دفع لحركة المجتمع ضدّ النشاط الرساليّ، فالرسل يحاولون هداية المجتمع، ويتعبون ويضحّون بكل ما لديهم من أجل ذلك، وترى المضلّين بكل وقاحة يهدمون كل ما بناه الرسل ولا يعيرون اهتماما بأتعابهم.
وحركة الإضلال لم تتوقف حتى بعد وفاة الرسل وانتهاء أمد الرسالة ولن تتوقف، فهم لا ينتهون، بل يزدادون عِدّة وعُدّة، ويتوارثون الضلال والإضلال. وتأثيرهم بالطبع أوسع وأبقى من تأثير الرسالات، لأنّهم يسيرون وفقا لمراد السفلة والجهال، وهم أكثر الناس، وتوافقهم طبيعة أصحاب الأهواء والشهوات، فيكثر في الشعوب أتباعهم، ويجدون في كل صقع وناحية آذانا صاغية وقلوبا خاوية.
ولا تزد الظالمين الا ضلالا... دعاء منه عليه السلام في آخر الشكوى ينمّ عن غاية تألّمه من الدور الذي كان يلعبه أصحاب المال والنفوذ في إضلال المجتمع، وتأثيرهم العميق الواسع في تفنيد كل المحاولات والتضحيات التي يقدّمها الرسول لهداية الناس، فضاق الرسول بهم ذرعا، ودعا عليهم بأن لا يهديهم الله تعالى بعد هذا الاصرار على محاربة الرسالة الالهية. ولم يرجع اليهم الضمير بل ذكرهم بعنوان الظالمين للاشارة الى سبب هذه النفرة وهذا الدعاء. ومثله دعاء موسى عليه السلام في قوله تعالى (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)[1]
وقد حاول المفسرون تأويل هذه الجملة فقيل: إنّ المراد بالضلال العذاب لأنّه نتيجة الضلال. وهو تأويل سخيف، ولماذا يبدّل التعبير الى الضلال؟!
وقيل: إنّ المراد من الضلال في دعائه عليه السلام عدم اهتدائهم الى طرق المكر والتضليل فكأنّهم يفتقرون الى طرق حديثة لإضلال الناس الذين أتعبتهم الدعايات القديمة المتكررة فدعا الرسول أن يغيّب الله تعالى هذه الطرق عن أفكارهم فلا يهتدوا اليها.
وهو ايضا واضح البطلان فهو غير مناسب للتعبير بالضلال، خصوصا مع الملابسات الموجودة ومنها التعبير بالاضلال في الجملة السابقة، مضافا الى أنّ طرق الإضلال دائما متوفّرة ومتشعّبة، وما كانوا في ذلك ضالّين أساسا حتى يدعى عليهم بالزيادة في الضلال.
كل هذه التكلّفات لأنّهم رأوا أنّ هذا الدعاء بظاهره ينافي وظيفة الرسول وهو هداية المجتمع فكيف يهديهم ويحاول إنقاذهم، وفي نفس الوقت يدعو الله أن يضلّهم، بل يزيدهم ضلالا فكأنّه يناقض نفسه.
ولكنّ الصحيح أنّه عليه السلام ما دعا على عامّة الناس، وإنّما دعا على المضلّين المعاندين، ويبدو أنّهم كانوا يعلمون أنّه رسول من الله ومع ذلك يمنعون الناس من الاهتداء به، وكان عليه السلام آيسا من ايمانهم، وواثقا من بعدهم عن ذلك غاية البعد، فدعا عليهم بالتوغّل في الضلال ليزيد الله في عذابهم في الآخرة.
والقوم كما أوّلوا هذه الآية بما لا يقبله الذوق السليم أوّلوا ايضا دعاء موسى عليه السلام المنقول في سورة يونس كما مرّ آنفا وتكلّفوا في ذلك غاية التكلّف.
[1] يونس: 88