مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

ممّا خطيئاتهم اُغرقوا فاُدخلوا نارا... (من) للتعليل اي بسبب خطيئاتهم.. و(ما) زائدة، وتؤكّد ارتباط السبب بالمسبب، اي لم يكن لغرقهم سبب آخر، فلا يتوهم أنّه من غضب الطبيعة كما يقال.

والقرآن الكريم اختصر الكلام هنا عن الطوفان العظيم الذي أغرقهم، وفصّل الكلام عنه في سورة هود. ومن الملفت الجمع بين الغرق في الماء ودخول النار. ولا يبعد أن يكون المراد بها نار الآخرة مع أنّهم لم يدخلوها مباشرة ولكن الفاصل الزمني انما نلاحظه حسب مقاييس الدنيا وليس هناك فاصل زمني في مقاييس الحياة الآخرة، ولذلك يتصور الناس يوم القيامة أنهم ما لبثوا بعد الموت الا يسيرا، كما قال تعالى (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا)[1]

ويمكن أن يراد بها النار في عالم البرزخ كما قال تعالى (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)[2] فالناس مختلفون في البرزخ، فمنهم من يعذّب، ومنهم من يثاب، وأكثر الناس يغفل عنهم كما في الروايات فقد ورد في الكافي عدة احاديث بعضها معتبرة سندا بهذا المضمون (لَا يُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ إِلَّا مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً أَوْ مَحَضَ الْكُفْرَ مَحْضاً والآخَرُونَ يُلْهَى عَنْهُمْ).[3]

وأصرّ العلامة الطباطبائي قدس سره على أنّ المراد عذاب البرزخ. ولكنّ الاحتمال الاول أقرب، لاستبعاد أن يكون كل المغرقين بالطوفان ممن يعذّبون في البرزخ.

ومهما كان فموضع هذه الجملة في الواقع بعد ما يأتي من دعاء نوح عليه السلام. ولعل تقديمها للتسريع في تسلية الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، خصوصا بضمّ الجملة التالية.

فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا... اي اُسقط في أيديهم حيث كانوا يعتمدون على أصنامهم وأنّها ستساعدهم يوم الحاجة ولكنهم في هذا الظرف العصيب لم يجدوا من ينصرهم. وهذا تنبيه لكفار قريش أنّكم مثلهم تعتمدون على ما لا قوّة له. وقوله (من دون الله) اي بدلا عن الله تعالى بحيث يتمكن من مقابلة قدرته وبطشه، وهذا مستحيل فلا يمكن الانتصار بأي شيء وبأي أحد في مواجهة ارادة الله تعالى.

وقال نوح ربّ لا تذر على الارض من الكافرين ديّارا... هذا الدعاء تتمّة كلامه عليه السلام حيث دعا على قومه المعاندين وطلب من الله تعالى ان لا يبقي منهم أحدا. والديّار مأخوذ من الدار، ومعناه من يسكن الدار، وهو كناية عن الانسان، اي لا تترك على الارض منهم أحدا، بل أهلكهم عن آخرهم. والظاهر أنّ المراد بالارض كل بقاعها، وأن الله تعالى استجاب دعاءه عليه السلام.

إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفّارا... بهذه الجملة علّل عليه السلام دعاءه الذي ربما يثير غرابة من جهة كونه رسولا يهمّه مصلحة الناس ولا يطلب هلاكهم، فبيّن عليه السلام أنّ الموجب لدعائه أنّ هؤلاء لا أمل في اهتدائهم، بل بقاؤهم يضرّ بالمجتمع البشري، فهم من جهة ينشرون الضلال، ومن جهة اُخرى يربّون جيلا فاسدا مثلهم في الفجور والكفر.

والفجور بمعنى التوسّع والانبعاث في المعاصي، ولا يطلق على كل معصية كما يتوهّم. والاصل فيه حسب اللغة التفتّح والشقّ شقّا واسعا، فإمّا أن يكون الاطلاق على هذا المعنى من جهة أنّ الفاجر شقّ ستر الديانة كما في مفردات الراغب، وإمّا من باب أنّه تفتّح في المعاصي والآثام، وفتح منه أبوابا كثيرة.

والكفّار مبالغة في الكفر. وإنّما وصل عليه السلام الى هذه النتيجة المؤلمة من ملاحظة حال القوم، لأنّه حاول التأثير عليهم قرونا طويلة فلم يجد منهم الا الاصرار والعناد. ومن الواضح أنّه عليه السلام لا يقصد بهذا الكلام توجيه دعائه أمام الله تعالى فهو علّام الغيوب، وإنّما أراد بذلك تسجيل هذه النتيجة ليكون على مرّ الدهور والأعصار عبرة للمعتبر.

قيل: إنّ قوله عليه السلام (لا يلدوا الا فاجرا..) يقصد به التأثير من جهة العامل الوراثي ويمكن أن يستشهد على ذلك بأنّه وصفهم بالفجور من وقت الولادة، وهذا يدلّ على أنّ المراد بالفجور ليس ما يحصل لهم بعد ذلك من جهة التربية ونحوها.

ولكنّ الصحيح أنّ ذلك غير مقصود قطعا، لوضوح عدم الفجور من حين الولادة، فالمراد أنّهم لا يلدون الا من يربّونهم فجّارا كفّارا، كما تبيّن منهم طيلة القرون المتمادية. 

ربّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات... هكذا ختم عليه السلام دعاءه وتضرّعه لربّه، فطلب المغفرة لنفسه أوّلا ثم لوالديه ــ وهذا يدلّ على ايمانهما ــ ثم لمن دخل بيته من اسرته واقربائه، واشترط الايمان لأنّ زوجته لم تكن مؤمنة، ثم عمّم السؤال ليشمل كل المؤمنين والمؤمنات في جميع الاعصار والاقطار. ولم يفرّق في دعائه بين الذكر والانثى، بل صرّح بالمؤمنات تكريما لهنّ، وإن كان التعبير يشملهنّ لو لم يصرّح.

ولا تزد الظالمين الا تبارا... التبار: الهلاك. والتتبير: الكسر والتدمير. فان اُريد به الهلاك في الآخرة ــ كما لا يبعد ــ فالمعنى أنّ الظالم هالك لا محالة فزده هلاكا وعذابا، وإن اُريد به الهلاك والتدمير في الدنيا، فيبتني طلب الزيادة على أنّه تعالى يكسر شوكة الظالمين في النهاية، فيدعوه تعالى أن يزيدهم كسرا ودمارا.

وعلى كل حال، فالدعاء عليهم بهذا النحو الشديد يحكي عن تأثّره الشديد عليه السلام من مواجهتهم ومقابلتهم للحقّ الذي أتاهم به. وهذا يدلّ على غاية العناء والمحنة التي تحمّلها النبي الكريم طيلة القرون المتمادية، فسلام الله عليه في العالمين كما قال تعالى (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ). [4]

والحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين....  

 


[1] طه: 103- 104

[2] غافر: 46

[3]  الكافي ج3 ص235

[4] الصافات: 79