مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلا ونهارا... من هنا يبدأ السياق بحكاية دعاء نوح عليه السلام وشكواه الى ربّه بعد أن يئس من هداية القوم ومن التأثير فيهم.

وفي الكلام تقدير يفهم من سياق الآيات التالية على طريقة القرآن الكريم في عرض القصص، وهو أنه عليه السلام قام بإنذار قومه حسبما أمره الله به، وبذل غاية جهده في نصحهم وإرشادهم بما لا يطيقه أحد، وضرب أروع المثل في تاريخ الرسالات، حيث إنّه صبر عليهم تسعمائة وخمسين عاما كما قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ).[1] فلمّا يئس منهم ناجى ربّه ودعا عليهم وقال ربّ إنّي دعوت قومي... ومن هنا وردت هذه الجملة من دون واو العطف، فكأنّ هذا القول وقع بعد الامر بالإنذار مباشرة، ولكنه في الواقع بتقدير فصل طويل من القصة مرّ عليه تسعمائة وخمسون عاما.

والظاهر أنّ اليأس بعد هذه المدّة الطويلة إنّما حصل له بعد الوحي من الله تعالى، كما قال (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).[2] والله تعالى يعلم كم كان يصبر لو لم ينزل الوحي بذلك. وقوله عليه السلام (ليلا ونهارا) للدلالة على أنّه لم يترك فرصة الا وأدّى رسالته وإنذاره، وأوصل ليله بنهاره في ذلك. ولم يذكر متعلق الدعوة لكونه معلوما من أمره بالإنذار.

فلم يزدهم دعائي الا فرارا... معنى ذلك أنّهم كانوا يفرّون قبل ذلك ودعوة الرسول زادت من فرارهم. والفرار كناية عن ابتعادهم واجتنابهم عن عبادة الله تعالى وتقواه، كأنّ ذلك يضرّهم ضررا بليغا، او يقضي عليهم فكما يفرّ الانسان مما يوجب هلاكه كانوا يفرّون من التقوى والطهارة والتوجّه الى الله تعالى، كما نجده اليوم في أكثر المجتمعات البشرية.

ومن الغريب أنّ دعوة الرسول التي يتوقع منها أن تثير فيهم التخوّف من عاقبة أمرهم كانت تبعدهم عن الله تعالى أكثر وأكثر، كما قال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)[3] وهذا ايضا مما نشاهده في هذا العصر من أتباع الشيطان فإنّ دعوتهم الى الله تعالى تزيدهم عنادا وكفرا.

وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا... الاستغشاء: التغطّي اي تغطّوا بثيابهم لئلّا يروه فضلا عن سماع كلامه. وهذا تعبير واضح وصريح عن غاية غباء القوم، وهم يعرفون الرجل حقّ المعرفة فهو منهم، ولا يدعوهم الى أمر خطير فلا يطلب منهم التضحية والجهاد، بل ولا يطلب منهم مالا أجرا لرسالته، وإنما أتاهم بإنذار فليسمعوا له، فإن لم تعجبهم دعوته كان الامر اليهم، ولكنّهم لا يصغون اليه حتى مرة واحدة كما هو ظاهر قوله (كلما دعوتهم).

والدعوة لم تكن الى المغفرة بل الى العبادة والتقوى والطاعة، فمتعلق الدعوة لم يذكر لذكره سابقا، وانما ذكر الغرض مما يدعو اليه اي المغفرة فإنّها الهدف، والمصلحة المترتّبة على ما يدعو اليه. والمفروض أن يكون ذلك باعثا لهم الى الاستماع على الاقل، ولكنّهم في كلّ مرّة جعلوا أصابعهم في آذانهم. وهذا ربما يكون كناية عن عدم الإصغاء، وربما يكون هو الواقع. وكذلك استغشاء الثوب فقد يكون كناية عن محاولة الابتعاد لئلا يروه، فإنّ الرؤية ــ حتى لو لم يسمعوا حديثه ــ ربما تؤثّر في بعضهم، وقد يكون الاستغشاء هو الواقع فكأنّهم أطفال أو اُناس متوحّشون.

ومن هنا يتبين أنّه كانت هناك دعوة مضادّة تحثّ الناس على الابتعاد عن الرسول وعدم الاصغاء له، كما كان في عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، بل كان أكثر من ذلك حيث كان المعادون يأمرون أتباعهم باللغو حين قراءة القرآن، قال تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)[4]

قوله (وأصرّوا) اي على عنادهم. والْإِصْرَارُ: العزم على شي‏ء لا يهمّ بالقلوع عنه‏، كما في العين. وفي المفردات هو التّعقّد في الذّنب والتّشدّد فيه، والامتناع من الإقلاع عنه. وأصله من الصَّرِّ أي: الشّدّ. وقوله (واستكبروا) يبيّن الدافع لهم الى كل ذلك وهو الاستكبار عن قبول الحق مما يظهر منه بوضوح أنّهم ما كانوا يشكّون في صحّة ما يدعو اليه، وانما يمنعهم من القبول استكبارهم عن الانصياع للحقّ. وكم له من نظير في هذا الزمان من الدعاة الى الباطل، حيث يمنعون أتباعهم من الاستماع الى صوت الحق، ومن انتشار اي دعوة للحق، ومن البحث والمناظرة مع أهل الحق.

والاتيان بالمصدر مفعولا مطلقا اي قوله (استكبارا) يدلّ على أنّه استكبار عجيب. ويا له من استكبار طال تسعمائة وخمسين عاما لم يتنازلوا عنه، ورفضوا دعوة الرسول من أجله!!!

ثمّ إنّي دعوتهم جهارا... (ثمّ) يمكن أن تكون للتراخي في الذكر. والظاهر أن المراد بالمجاهرة رفع الصوت. ويمكن أن تكون (ثم) للتراخي زمانا فيكون المراد أنّه عليه السلام لما رأى منهم الاستغشاء بالثياب والامتناع من الاستماع رفع صوته ليوصله اليهم رغما عن تلك المحاولات.   

ثمّ إنّي أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا... هنا ايضا يحتمل في (ثم) التراخي الزماني والذكري. والغرض بيان أنّه كان يتحيّن مختلف الفرص والمناسبات، ويختار الطريقة التي يراها مؤثرة في الدّعوة فتارة يدعوهم علنا وأمام الملأ، ويرفع صوته في المجامع، وتارة يدعوهم في الخفاء، ويسرّ الى الأشخاص بأعيانهم، حيث إنّ هناك من الناس من يتأثّر من الخطابات العامّة أكثر من الخطاب الخاصّ الذي ربما يجرح شعوره، ويتوهّم أنّه مستهدف بخصوصه، ومنهم من يؤثّر فيه الخطاب الشخصيّ أكثر، ويعتبر ذلك نوعا من الاهتمام به، ولعله الغالب في الكبراء والشخصيات البارزة في المجتمع. ومن هنا يظهر أنّ ضمير الجمع في الموردين وان عاد الى القوم بأجمعهم ولكنه باعتبار انقسامهم الى فرق مختلفة يناسب كل فرقة منهم نوع من الخطاب.

 


[1] العنكبوت: 14

[2] هود: 36

[3] الاسراء: 82

[4] فصلت: 26