يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزيدٍ... هذه الآية مثار لعدة اسئلة:
السؤال الاول : ما هو متعلق الظرف (يوم نقول)؟ واجيب أنه متعلق بظلام في الآية السابقة والمعنى انه تعالى ليس ظلاما للعبيد حين يملأ منهم جهنم. وهو بعيد لانه تعالى لا يظلم أحدا مطلقا وفي أي ظرف لا في خصوص هذا اليوم الا ان يحمل الكلام على أن المراد نفي كون هذا الامر اي ملء جهنم من الجنة والناس اجمعين ظلما ولكنه لا يناسب صيغة المبالغة ولا ياتي فيه ما مر من التوجيه فلا بد ان يقال ان هذا ليس ظلما لاحد.
والصحيح في الجواب أنه متعلق بمحذوف اي اذكر يوم نقول.. وذلك لأن هذه الآية تنبه الانسان في هذه الحياة الى امر آخر من حقائق الكون لا يرتبط بالآية السابقة وهو أن الله تعالى لم يخلق شيئا لأمر الا وهو قائم بما اريد منه بكماله وتمامه وذلك لدفع توهم بعض البسطاء من الناس أن جهنّم مهما كانت واسعة فانها لا تسع كل هذه الخلائق الكافرة وهم اكثر الخلق فيمنّي الانسان الجاهل نفسه بامكان التخلص من العذاب فالله تعالى ينبهه ان العذاب يوم القيامة كسائر حقائقها لا يقاس بما نجده في هذه الحياة وجهنم كافية للجميع مهما بلغ عددهم.
السؤال الثاني: كيف تخاطب جهنم وكيف تجيب وهي جماد؟ واجيب تارة بان الخطاب للخزنة والجواب منهم وهو تأويل بعيد. واخرى بأن الله تعالى يخلق للجمادات يوم القيامة عقولا فتتكلم الجنة والنار وتشهد الالسنة والايدي والارجل والجلود أو بأن الجمادات لها نوع من الشعور والادراك لا نشعر بها ولذلك يخاطب الله تعالى السماء والارض ويردّان الجواب ويوحي الى النحل ونحو ذلك.
ولا يبعد القول بأن لكل الاشياء أمام ربها نوعا من الادراك والشعور حتى لو أمكن تأويل ما ورد من توجيه الخطاب اليها وذلك لقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ..)[1] وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ..)[2] ولكن الظاهر أن هذه الخطابات المحكية عن يوم القيامة ليست من قبيل القول بالمعنى المتعارف بل هي اشارات وكنايات تدل على حقائق وقد قلنا مرارا أن التعبير بالقول يوم القيامة قد لا يحكي عن كلام بل عن أمر آخر فقول الملائكة (سلام عليكم) ربما يكون المراد به اثبات حقيقة السلامة لهم تكوينا وكذلك اللعن فلا يبعد أن يكون ما ورد من الخطاب لجهنم وجوابها بيانا رمزيا لحقيقة عينية وسيأتي ذكرها.
السؤال الثالث: أنّ ظاهر هذا السؤال والجواب أن جهنم لم تمتلئ بمن فيها من اهلها وهو ينافي التعبير بملء جهنم في اكثر من مورد منها قوله تعالى (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)[3]؟
وأجيب بوجوه:
أحدها أن المراد بالسؤال المذكور في جواب جهنم (هل من مزيد) الاستفهام الانكاري اي ليس فيها من مزيد. وعليه فيكون المراد بالمزيد مزيدا من الحيّز والمكان وهو بعيد عن اللفظ بعدا شاسعا ويصح ان يقال ان من الواضح ان المراد مزيد من المستحقين للعذاب. ويدل على ذلك ايضا أن الغرض من هذا السؤال والجواب واضح بناءً على أن المراد طلب المزيد وهو بيان أن جهنم كافية للمجرمين مهما كثر عددهم دفعا لتوهم بعضهم أن الكافرين والمشركين والمجرمين هم اكثر اهل الارض وطيلة القرون المتمادية لا يحصون عددا فكيف يحصرون في جهنم؟! فالآية تردّ عليهم بأن جهنم لا تمتلئ بكل هؤلاء بل تطلب المزيد فقوله (هل من مزيد) لبيان الطلب كناية عن كفايتها بل زيادتها ردا على هذا التوهم وأما بناءً على كونه انكارا للمزيد فلا يتبين منه غرض صحيح.
وقيل ان المراد بالامتلاء انه لا يخلو طبقة منها من السكنة ولا ينافي وجود فراغات فيها وهو كلام سخيف يبتني على تصور أن جهنم بلدة فيها مبان وطبقات.
وقيل ان عدم الامتلاء قبل ان يلقى فيها باقي اهلها والامتلاء بعد ذلك وهو ايضا سخيف اذ لا يبقى معنى لعرض هذا الخطاب والجواب فما هو الغرض من السؤال هل امتلأت.. وكأنّ هذا القائل تصوّر أن الله تعالى يستفسر جهنم او خزنتها واقعا هل هناك مجال ليلقي فيها مجموعة اخرى من المجرمين ام لا؟ ولا أدري على هذا التصور لو لم يكن فيها مجال هل كان يبنى لهم سجن آخر أم ماذا؟!
والصحيح في الجواب أن المراد بقوله تعالى (لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين) ليس هو سد الخلل والفرج في جهنم من الجنة والناس اذ لايناسب المقام التركيز على ذلك بل المناسب في مقام تهديد العصاة والمردة أنه تعالى لا يأبه لإدخال الجنة والناس أجمعين في جهنم فمصب الاهتمام انما هو كلمة (أجمعين) دفعا لما يستغرب والى يومنا هذا من إلقائه تعالى كل كافر ومنافق وعاص في جهنم وهم كل البشر على ما نرى وكل الجن ايضا على ما يبدو ولا يبقى للجنة الا النادر وهذا الاستغراب أبداه الشيطان من أول يوم فردّ الله تعالى عليه بأن ذلك لا يهمه وان جهنم مهيّأة لكل من يتبعه ولو كفر كل من في الارض لالقاهم جميعا في جهنم ولا يبالي.
والحاصل أن المراد ليس هو الملء بمعنى عدم وجود الفراغ بل بمعنى عدم استثناء من يستحق العذاب وأنه تعالى لا يهمه كثرة العدد. والقصد من ذلك الرد على فكرة خاطئة لدى الانسان وهي متابعة الاكثرية فالانسان يلاحظ في هذه الحياة ان الغلبة دائما للاكثرية الساحقة وان الحكام لا يسعهم مواجهة العدد الهائل من المعارضين ومن هنا يتصور كثير من الناس ان الفلاح والنجاح دائما مع السواد الاعظم فالله تعالى ينبه البشر على أن الأكثرية الساحقة مصيرهم جهنم بحيث لا يبقى الا القليل فيصح التعبير بأنه تعالى ملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين.
ومن الطريف ما ورد في هذا الباب من الروايات في صحاح العامة مما اضطرهم الى تأويلها لاستلزامها القول بالتجسيم وغيره من الاعتقاد الباطل والسخيف. ففي روح المعاني (أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا تزال جهنّم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ اللّه لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة).
وقال (أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: تحاجّت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال اللّه تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم اللّه من خلقه أحدا وأما الجنة فإن اللّه تعالى ينشىء لها خلقا).
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقينَ غَيْرَ بَعيدٍ... شروع في بيان حال المتقين بعد بيان تعاسة حال الكافرين والعاصين. و(ازلفت) اي قرّبت. قالوا ان الامر ينبغي ان يكون بالعكس حيث ان المتقين يقرّبون الى الجنة الا ان ذلك تشريف من الله لهم حيث تقرّب الجنة اليهم وقالوا ان ذلك ليس بعيدا من قدرته تعالى. وقال بعضهم ان التعبير انما هو للتشريف والتكريم والواقع انهم هم الذين يقربون الى الجنة. ويرد القول الاول التصريح بالعكس في قوله تعالى (وَسيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدينَ).[4]
ولا يبعد ان يكون المراد بالازلاف التقريب المعنوي بمعنى التسامح معهم في الحساب ليدخلوا الجنة كما قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ)[5] وقال ايضا (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم..)[6] بخلاف غيرهم الذين يحاسبون سوء الحساب ويؤخذ عليهم كل صغيرة وكبيرة كما قال تعالى (وَالَّذينَ لَمْ يَسْتَجيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ).[7]
وقوله تعالى (غير بعيد) حال من الجنة وقيل انه تأكيد للقرب نظير قولهم عزيز غير ذليل. ولعل الوجه في مثل هذا التأكيد دفع توهم التجوز في التوصيف بالعزة او القرب. ويمكن ان يكون تأسيسا باعتبار أن التقريب لا يستلزم القرب لانه امر اضافي فيمكن ان يقرب الشيء الى الشيء بمعنى تقليل المسافة ولكنه يبقى بعيدا ايضا في حد ذاته وان صار اقرب من ذي قبل فالتوصيف بانها غير بعيد يدل على انها قربت بحيث اصبحت قريبا من متناول يدهم.
ووقع الكلام في وجه الاتيان بالحال مذكرا وقد مر البحث عنه في تفسير قوله تعالى (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)[8] وقلنا ان أفضل ما قيل في هذا الباب ما حكي عن الفراء من أن القرب والبعد إن اُتي بهما لبيان القرابة النسبية وانتفائها لوحظ فيهما التذكير والتأنيث وان اتي بهما لبيان القرب والبعد المكاني او الزماني ولو تجوّزا لم يلاحظ التذكير والتأنيث، للفرق بين المعنيين ولأن الصفة في الواقع صفة للمكان او الزمان وليس معناه تقدير كلمة مكان ليختل النظم والتركيب بل بمعنى أن تذكير الصفة بلحاظ انها في الواقع للمكان ولو تجوّزا ومثله قوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).[9]
هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفيظٍ... اشارة الى الجنة بذاتها لا الى لفظ الجنة فلا ينافي تذكير الضمير وهذه جملة قيل انها تقال لهم حين يسار بهم الى الجنة او تُقرّب الجنة اليهم وبناءً على ما مر من الاحتمال يمكن ان لا يكون هناك قول وخطاب بل هذا لسان الحال. ثم انه لو كان هناك قول وقائل في ذلك اليوم فلا بد من تقدير في الجملة اي ما كنتم توعدون في الحياة الدنيا. ويمكن ان يكون انشاءً في هذه الحياة لا خطابا هناك. اي يقال في القرآن المنزل خطابا للمتقين (هذا ما توعدون..).
وقوله (لكل أوّاب..) بدل عن (للمتقين..) وجملة (هذا ما توعدون) معترضة بين البدل والمبدل منه. والاواب مبالغة في الاوب وهو الرجوع كالتواب وقد وصف الله بهما عباده المخلَصين كالانبياء والمرسلين. والرجوع يقتضي ذهابا ولا يستلزم ذنبا فليس كل تائب او توّاب مذنب بل يكفي اشتغاله بغيره تعالى فان العارف بمقام ربه يعتبر كل اشتغال بغيره مخالفا لما تقتضيه العبودية في محضر الرب تعالى فلا بد له من توبة واوبة ورجوع. وعلى هذا فالاوب والرجوع هنا يختلف باختلاف الموارد. وكثرة الرجوع ليس بمعنى كثرة موارد الاشتغال بغيره بل هو في حين الاشتغال ايضا يرجع ويرجع فلا يتوغل في الذهاب بعيدا عن خدمة ربه. والحفيظ بمعنى انه يحفظ عهد ربه وميثاقه ويحفظ نفسه من الزلات قدر المستطاع ويحفظ دينه وتقواه.
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ... الخشية: الخوف. ولخشية الله تعالى بالغيب معنيان: الاول انهم يتقون الله ويخشونه في مواضع الخلوة حيث لا يراهم احد الا الله تعالى. والثاني أنهم يخشونه وهم لا يرونه وعلى هذا المعنى فقوله بالغيب ليس تقييدا اذ ليس هناك من يخشاه وهو يشاهده تعالى فكل من يخشاه يخشاه بالغيب وانما اتي به للدلالة على أن مناط استحقاق الجنة هو الايمان بالغيب كما قال تعالى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ..)[10] وهذا هو سر الكمال فالانسان متشبث بعالم المادة وزخارفها ومعجب بها وكلما توغل في هذا الامر سقط الى الحضيض وبعد عن سماء الكمال البشري والقرب لدى الله سبحانه وكلما انقطع عن هذه الظواهر وارتبط بالغيب وتعلق به ازداد كمالا وتوسعت نفسه وروحه فكمال الانسان كامن في ايمانه بالغيب اي بما لا يُرى ولا يُحسّ. ولذلك فان الايمان لا ينفع اذا اتضح الامر كل الوضوح فلم يعد غيبا بل كان شهودا كما قال تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ).[11]
وفي اختيار اسم الرحمن هنا مع انه ربما يتوهم ان الانسب ان يعبر عنه بما يدل على انتقامه وغضبه اشارة لطيفة الى ان خشيتهم ليست من عذابه وعقابه بل إنّهم مع استشعار رحمته الواسعة المدلول عليها بصيغة المبالغة اي (الرحمن) يخشونه فهم يخافون مقام ربهم كما قال تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[12] وقال تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[13] فالخشية من الرحمن ليست خشية من عقابه بل هي اكرام واعظام للرب سواء كان المراد بالغيب خشيته تعالى في الخفاء فانهم يتقونه تعالى اعظاما له ام كان المراد الخشية مع عدم الرؤية فهم بقلوبهم يشعرون عظمة الخالق. وهذا هو السر الآخر في الكمال البشري فان الخوف من العقاب امر طبيعي لا يدل على عظمة في النفس وتكامل في الروح وانما الكمال لمن يتقي الله تعالى اجلالا له ومعرفة بمقامه الرفيع.
وقد وصف الله تعالى ملائكته بالخشية وهم معصومون لا يعصون الله ما امرهم وهم بامره يعملون فلماذا الخشية ولماذا الخوف؟ قال تعالى في توصيف الملائكة (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون)[14] وقال ايضا (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[15] فهم لا يخشون عذابا وانما يخافون مقام ربهم بمعنى انهم يخافون من التقصير في حقه تعالى وان لا يكون عملهم على ما ينبغي من اجلاله تعالى واعظامه. وهذا هو الذي أشار اليه سيد الموحدين واميرالمؤمنين عليه افضل الصلاة والسلام على ما نسب اليه (ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكني وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك) وان لم أجد له مستندا في كتب الحديث.
وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنيبٍ... اي جاء الى ربه بقلب منيب وفيه اشارة الى بقائه على خشوعه وخشيته وإنابته لله تعالى الى يوم لقائه فكثيرا ما يقضي الانسان عمره في الطاعة والعبادة ثم يتحول الى انسان عاص لربه فالمهم هو ان يبقى على هدايته الى آخر الطريق. والانابة هو الرجوع وقد مر الكلام حوله. ولعل في توصيف القلب بالانابة اشارة الى انه قد يبقى الانسان على عادته من العبادة الصورية لانها شيء تعوده فيشق عليه تركه ولكن قلبه يصاب بالمرض نتيجة حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.
ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ... قالوا انه خطاب من الله تعالى او الملائكة بامره تعالى موجه للمتقين وقد قلنا مرارا ان الاقوال هناك لعلها تعبير عن الافعال فهذا الامر بيان لما يحدث تكوينا في تلك الحياة من الاذن لهم في الدخول. والسلام اي السلامة من كل عيب ونقص ومن كل ما يكدر صفو الحياة فليس هناك مرض ولا فقر ولا جهل ولا اي امر يحزن الانسان او يحذر منه ويخافه فليس هناك خوف من امر في المستقبل ولا حزن على ما مضى.
ويوم الخلود اي مرحلة الخلود وليس المراد باليوم معناه المتعارف فانه زمان محدود فيتنافى ذلك مع الخلود وأوله بعضهم بان المراد يوم ابتداء الخلود او يوم اعلامه وما ذكرناه أوضح. والخلود بمعنى الدوام والبقاء. والآيات الدالة بوضوح على خلود اهل الجنة في الجنة كثيرة جدا وكذلك في خلود اهل النار في النار وان ناقش بعض المفسرين والباحثين في ذلك وقالوا انهم يفنون في النهاية بفناء النار.
لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فيها وَلَدَيْنا مَزيدٌ... الجملة الاولى غيرمحدودة وغير مقيدة فلاهل الجنة فيها كل ما يشاؤون والتقييد ليس الا بالمشيئة فلابد من ان يكون المراد بالمزيد ما لا يشاءونه ولا شك أنهم يشاءون كل ما تصبو اليه النفس من النعم وليس لمشيئة الانسان حد الا التعقل بمعنى أنه لا يشاء ما لا يعقله فتكون النتيجة أن المزيد الذي ينعم الله به عليهم مما لا يتعقلونه والا لشاءوه ولم يكن مزيدا. والظاهر انه مما لا يعلمه الا الله تعالى ويبعد ان يكون المراد رضوان الله تعالى فانه قد صرح به في القرآن الكريم فهو مما يعلمه كثير منهم نعم يمكن ان يكون من اللذات المعنوية التي لا تخطر ببال أحد.
[1] الاسراء: 44
[2] النور: 41
[3] هود: 119
[4] الزمر: 73
[5] المدثر: 38- 39
[6] النساء: 31
[7] الرعد: 18
[8] الشورى: 17
[9] الاعراف: 56
[10] البقرة: 3
[11] الانعام: 158
[12] الرحمن: 46
[13] النازعات: 40- 41
[14] الانبياء: 26- 28
[15] النحل: 49- 50