أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ... مجموعة من الآيات تدعو الناس الى تدبر الامور الكونية للوصول الى جواب آخر عن السؤال المذكور وهو الاستدلال بقدرته تعالى وهو خالق الكون العظيم على الاحياء بعد الموت فتدعوهم اولا الى النظر الى السماء فوقهم والمراد به النظر بالعين فلا حاجة الى دقة علمية وبحث فلسفي. والفاء في قوله (افلم ينظروا..) للتفريع يعني اذا استغربوا المعاد فلماذا لا ينظرون الى الكون ليتبين لهم ان الخالق الذي ابدع هذا الكون العظيم الجميل البديع قادر على انهائه وابداع خلق جديد وعلى اعادة الحياة للانسان بعد موته؟! ومثله قوله تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).[1]
وقوله تعالى (كيف بنيناها) لا يراد به دفعهم الى معرفة كيفية الخلق والصنع فهو امر لا شأن للقرآن به مع أنه مما لا يمكن للبشر معرفته خصوصا في ذلك العهد ولم يكن الانسان يتطلع الى ذلك وانما المراد ــ والله العالم ــ التأمل قليلا في خلق الكون وفي دقته وحسن نظامه الظاهر لكل متأمل في شروق الشمس وغروبها وحركة القمر والنجوم حيث لم يختلف هذا النظام قيد انملة طيلة القرون المتمادية. والتعبير بالبناء ربما يدل على نوع من التدرج حيث انه لا يتمّ الا بضمّ جزء الى جزء.
ولا شك ان الانسان كثيرا ما ينظر الى السماء وتبهره بزينتها وعظمتها ولكن المهم هو النظر اليها بما أنها مخلوقة لله تعالى لتدل على عظمة الخالق وسعة قدرته والا فالنظر فيها مهما كان طويلا ودقيقا لا يفيد الهدف المنظور ان لم يتجاوزها.
ومن الملفت التنبيه الى زينة السماء مما يدل على أن جمال الطبيعة في كل جوانبها امر مقصود وهو مما يدل على انها لم توجد بمجرد صدفة كما يظن الاغبياء بل هناك يد صانعة زينت الطبيعة لهدف عظيم وهو الدلالة على الخالق فكما أن الاستحكام والدقة يدلان على الصانع الحكيم كذلك الزينة والجمال.
والفروج جمع فرج وهو الشقّ بين شيئين ولكن ما هو المراد بالسماء؟ ربما يقال انها هي المجموعة الفلكية التي نراها فوقنا فهي مبنية باستحكام وهي زينة لمن في الارض ولكن ما المراد بانها ليس لها فروج وشقوق وتصدعات؟ قيل: ان المراد به انها متماسكة وتسير بانتظام لا يتخلل نظامها شيء. ولكنه بعيد من اللفظ مع أن الآية تقول زيّـنّاها ولم تقل جعلناها زينة لمن في الارض وهناك فرق بينهما فتزيين السماء بمعنى خلقها جميلة جذابة بذاتها وهذا هو المذكور في الآية واما اذا قلنا بانها زينة لمن في الارض فيصدق اذا كان كذلك في اعيننا وان لم تكن في الواقع جميلة وهذا التأويل لا يستلزم كونها جميلة كما هو ظاهر الآية.
والظاهر ان المراد بها هي السماء الزرقاء التي نراها وهي الغلاف الجوي وكل ما نراه فوقنا فهو سماء. والسماء جهة العلو. والقرآن ليس كتاب علوم طبيعية ولا يهتم ببيان حقائق الكون فهو شأن بشري حيث يحاول حل ألغاز الكون وليس من شأن الدين أن يفتح له الابواب في هذا المسار وانما شأنه ان يهدي الانسان الى خالق الكون وهو يخاطب بهذه الآيات كل البشر سواء تقدموا في العلم ام تأخروا بل المخاطبون مباشرة هم من لا سبيل لهم لمعرفة حقائق الكون والقرآن يخاطبهم بما يفهمونه ويطلب منهم النظر الى هذه السماء التي فوقهم وهي مبنية باستحكام لا تتغير معالمها على مر الدهور والقرون وهي مزينة بما وراءها من اجرام فلكية وبسبب الغازات المكونة للغلاف وليس لها فروج وتصدعات ولا شأن للقرآن في بيان حقيقة هذا الجرم وانه غلاف جوي يحفظ الارض ام انه شيء آخر كما أنه لا شأن له ببيان أن السماء بهذا المعنى لو كان لها فروج وشقوق لتسربت منها الاشعة الضارة بالحياة كما يذكره بعض المفسرين فهذا أمر لا يعرفه المخاطبون بل المهم هو أن يعترف الانسان بعظمة خالق الكون من خلال نظره الى الطبيعة بما فيها من بناء وزينة حسب ادراكه وفهمه وتطوره في العلم والمعرفة.
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ... ونظرة اخرى الى الارض وأن الله تعالى مدّها وبسطها ليتمكن الانسان من استخدامها في مآربه. وهنا ايضا لا ينظر القرآن الى الجانب العلمي وأن الارض كروية ام مسطحة كما كان يظن الاقدمون وانما ينظر الى ما نشعر به من تسطح الارض نسبيا حيث تتيح لنا التمكن من استخدامها لحاجاتنا.
والجملة معطوفة على الجملة السابقة و(الارض) مفعول لفعل مقدر يفسره قوله (مددناها) اي ومددنا الارض ويمكن ان يكون منصوبا بنزع الخافض ومعطوفا على السماء اي اولم ينظروا الى الارض.. وهذا اولى ليشملها الامر بالنظر.
والرواسي هي الجبال من رسا الشيء اذا ثبت. والالقاء افعال من اللقاء بمعنى ايجاد الملاقاة بين شيئين وليس دائما بمعنى النبذ والطرح كما يتوهم فالذي يدل عليه اللفظ هنا هو ان الجبال لم تكن موجودة ابتداءً على سطح الارض فأوجدها الله تعالى على سطحها لغرض فتحققت الملاقاة بينهما وهو معنى الالقاء. وقد تكرر في القرآن الكريم التنبيه على أن الجبال تؤثر في ثبات الارض وعدم ميدانها وانحرافها ولعل المراد انحرافها عن مسارها حول الشمس او حول نفسها. ولم تثبت علميا علاقة بين وجود الجبال على سطح الارض وعدم انحرافها عن مدارها ولكنها محتملة وليس هناك ما يمنع هذا الاحتمال ولعله يظهر فيما بعد. ويمكن ان يكون ذلك اشارة الى منعها من حدوث بعض الاضطرابات والزلازل وحركة سطح الارض فانا نجد ان هذه القشرة التي نسكنها ونعتمد عليها تتغير وتتحرك ولعل الثبات النسبي الموجود الذي نحتاج اليه في حياتنا على هذا الكوكب يستند الى وجود الجبال الرواسي وقال بعض المفسرين ان هناك من النظريات العلمية ما يؤيد ذلك.
وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ... الزوج المثلان المتقارنان يقال لهما زوج وزوجان سواء في البشر او الحيوان او غيرهما ويطلق ايضا ويراد به الصنف كما قيل ولم اجد في القرآن ما لا يمكن حمله على المعنى الاول الذي هو الظاهر منه ولعلهم اضطروا الى فرض المعنى الثاني لعدم تعقلهم الزوجية في النبات الا في بعض انواعه كالنخل وقد تكرر في القرآن الكريم الاشارة الى ذلك والعلم يثبت ان كل نبات فيه زوجان بل ربما يظهر من قوله تعالى (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[2] ان الزوجية في كل شيء وهذا ايضا اربك المفسرين بل زاد من التعقيد اذ لايمكن حمله على الصنف لان الاشياء اصناف وليست صنفين وسيأتي الكلام حوله في تفسير سورة الذاريات ان شاء الله تعالى.
ومرة اخرى يذّكرنا الله تعالى بالزينة المبهرة للعيون على الارض بقوله (زوج بهيج). والبهجة في اللغة قد تطلق على الحسن والنضارة وقد تطلق على السرور قال ابن دريد في الجمهرة (للبهجة موضعان فمنهما ان تقول هذا شيء ليس عليه بهجة اي ليس عليه طلاوة ومنهما قولهم ابهجني هذا الامر وبهجني اذا سرّك) ويظهر من بعضهم انه الحسن الموجب للسرور ومهما كان فلا شك في استعمال البهجة في نفس السرور حتى لو لم يكن من التأثر بالحسن وتستعمل ايضا في الحسن الناضر من النبات كما قال تعالى (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ)[3] فلعل المراد بالبهيج هنا النبات النضر الحسن الذي يوجب السرور والابتهاج.
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ... مفعول لاجله اي بنينا وزيّـنّا وأنبتنا ليكون كل ذلك تبصرة وذكرى. والتبصرة من باب التفعيل اي ايجادا للبصيرة في القلوب والنفوس. والانسان يرى كل ما في الطبيعة ويتنعم بها ولكن قلّ من تجده يتبصّر بها ما وراءها وقلّ من يبصر من خلالها آيات الله سبحانه وان كان يتوغّل في النظر اليها ويدقق في اعماقها وهذا ما اشار اليه اميرالمؤمنين عليه السلام بقوله في وصف الدنيا (مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ)[4] اي من تأمل في جوانب الحياة الدنيا وما فيها من حقائق ليعرف الخالق الحكيم فان دقائق الكون تبصّره اي تجعله بصيرا عارفا بربه واما من نظر اليها وتعمّق فيها من دون ان يتجاوزها ويحاول معرفة خالقها فان الدنيا تعميه فلا يرى ربه ولا يجد من خلال حقائق الكون اليد الخالقة القادرة.
والذكرى اسم مصدر للتذكير ــ كما في العين ــ والتذكير يقتضي ان يكون الانسان عالما بالأمر وانما طرأت عليه الغفلة فهو إمّا باعتبار ان الانسان المؤمن بربه يغفل عنه اذا اشتغل بالدنيا وهمومها ومشاكلها او زينتها وزخارفها وإما باعتبار ان الانسان يعرف ربه بفطرته وانما ينساه ويغفل عنه نتيجة الخوض في الدنيا فيحتاج الى تذكير فقط والقرآن يؤكد على هذه الحقيقة وأن القرآن وكل كتب السماء ذِكرٌ للانسان وأن هذه الحياة سبقتها معرفة له بحقائق الكون بل اعتراف بها كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين)[5] ومهما كان فكل ما في الكون من آيات الله تعالى تذكر الانسان بتلك الحقيقة التي يغفل عنها نظرا الى اشتغاله بالدنيا وبعده عن ربه. والانابة: الرجوع ومثلها التوبة. والمراد ان هذه الآيات تبصر وتذكر كل عبد من عباده تعالى يريد ان يرجع اليه بعد اشتغاله بالدنيا وبعده عن ربه. ومعنى ذلك ان التبصر والتذكر لا يتمّان الا اذا كان في العبد رغبة في الانابة والرجوع.
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ... ومن النعم الجسيمة التي لا تستغني عنها الحياة على هذا الكوكب نزول المطر والله تعالى يعبر عنه بانه ماء مبارك والبركة هي الخير الكثير المستقر ومن خصائص المطر انه يستقر خيره في الارض وليست نعمة عابرة فيستقر نفس الماء في الجبال والاراضي المرتفعة ويخرج من العيون والقنوات والآبار كما يستقر خيره بانبات الارض واخصابها ومنع تصاعد الغبار وتصفية الجو وتغيير المناخ وغير ذلك مما يعلمه البشر او لا يعلمه. والمراد بالسماء هنا جهة العلو حيث يكون السحاب. وتعلق الانبات بالجنات فيه نوع من الاسناد المجازي فان الانبات يتعلق بالزرع والشجر. والجنة: الارض ذات الشجر الكثير بحيث يسترها. ويمكن ان يكون التجوز في اللفظ فيراد بالجنات نفس الشجر وهو انسب بعطف الحَبّ عليه. والحصيد فعيل بمعنى المفعول اي المحصود وهو الزرع فاضافة الحب اليه على حقيقتها فان الزرع يشتمل عليه. والمراد به الحنطة والشعير والارز ونحوها ويمكن ان يكون الحصيد صفة للحب فتكون من قبيل اضافة الموصوف الى الوصف.
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ... عطف على حب الحصيد او على الجنات اذا اريد بها الشجر فيكون من عطف الخاص على العام. وباسقات حال من النخل. والبسوق: الطول. وصف النخل به لان جمالها بطولها وهنا ايضا تطرّق لزينة الخلق وكذلك في وصف الطلع بالنضيد. والطلع: ما يطلع من النخلة من النَّور ثمّ يصير تمرا إن كانت أنثى وان كانت ذكرا لم يصر تمرا بل يؤكل طريّا اويترك على النخلة أيّاما معلومة حتّى تتكون فيه مادة بيضاء مثل الدقيق ولها رائحة زكيّة فيلقح به الأنثى. والنَّور ــ بالفتح ــ الزهر الذي يكون مبدأً للثمرة. والنضيد اي المنضود حيث إن الطلع المذكور منظم بترتيب واتّساقٍ بعضه على بعض. والنضد: ضمّ شيء الى شيء او عليه باتّساق ونظم.
رِزْقًا لِلْعِبَادِ... الرزق هو العطاء المحدد لوقت خاص ثم اطلق على غير المحدود ايضا وهو هنا مفعول لاجله اي نزّلنا المطر وأنبتنا ما أنبتنا رزقا للعباد وقد قلنا غير مرة ان المراد بالرزق في الحياة الدنيا هو تدبير الطبيعة بحيث يتمكن كل حي من الوصول الى ما يحتاجه لاستمرار حياته بصورة طبيعية وهذه الآية صريحة في ان هذا هو المراد بالرزق وليس ايصال الرزق لكل فرد من الحيوان والانسان وان لم يحاول الوصول الى مطعمه ومشربه بالوسائل المتاحة له في الطبيعة كما يتوهم.
وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا... وهذا بيان لفائدة اخرى للمطر وهو حياة الارض الميتة ويعبر بموتان الارض عن عدم استعدادها للانبات بسبب الجفاف فالمطر يهيّج الارض ويبثّ فيها الحركة للانبات وهو المراد بحياتها وبذلك يتبين انه ليس تكرارا لما مر من الانبات. والبلدة تطلق على كل موضع مستحيَز من الارض عامر او غير عامر خال او مسكون كما في العين. والميت مخفف الميّت. وأتى بالوصف مذكرا بتأويل المكان او البلد.
كَذَلِكَ الْخُرُوجُ... خبر مقدم ومبتدأ مؤخر. والمراد بالخروج خروج البشر من القبور يوم القيامة ويشير بقوله (ذلك) الى احياء الارض بعد موتها اي اعادة البشر احياء ليس الا كاحياء الارض. وقد أجاب عن استغراب المشركين امر المعاد بوجهين فيما مضى من الآيات: علم الله تعالى بكل اجزاء الموتى المقصود بقوله تعالى (قد علمنا ما تنقص الارض منهم) وقدرته المطلقة حيث قال (افلم ينظروا الى السماء..) وهنا يشير الى الدليل الثالث على امكان المعاد ردا عليهم وذلك لأن الإحياء امر متكرر فالارض الموات تحيا بالمطر وتموت بالجدب ثانية وتحيا بعدها فلا وجه لاستبعاد إعادة الحياة للانسان بل هناك من الاراضي الموات ما تبقى مواتا سنين متمادية لا عشب فيها لتوالي الجدب ثم تحيا بالمطر باحسن وجه.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ... تهديد لمكذبي المعاد والرسالة وتسلية لخاطر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وللامة المسلمة بأن هؤلاء ليسوا وحدهم من يكذّبون ولكن الله تعالى لهم جميعا بالمرصاد. والقرآن يؤكّد في اكثر من موضع على أنّ الامم تتبع بعضها بعضا ويكرر كل قوم متأخر أقوال من تقدمهم والعجيب أن البشر في العصر الحاضر وبعد ما حققه من التقدم العلمي وكشف حقائق الكون يكرر ايضا سفاهات المتقدمين. وقوم نوح عليه السلام من أقدم الأقوام البشرية او هم الأقدم مطلقا او انهم أقدم من بعث اليهم رسول.
والرسّ قيل اسم لواد معروف وقد ورد ذكره في شعر زهير بن ابي سلمى (فهنّ ووادي الرسّ كاليد في الفم). وقال الخليل: بئر لبقية من قوم ثمود. وقيل: بمعنى البئر التي لم تُطوَ اي لم تُبْنَ بالحجارة وأن هؤلاء كذّبوا نبيهم فانخسفت بهم البئر. وقيل: رسّوه في البئر اي دفنوه. وكثر الكلام حول ذلك بما لا دليل عليه. وعن امير المؤمنين عليه السلام (أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَأَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ)[6] مما يدل على انهم كانت لهم مدائن. واما الاوصاف التالية في كلامه عليه السلام فيمكن ان تكون لكل من سبق فلا تدل على انهم ممن جاءهم جمع من الانبياء.
وعاد وثمود قومان من الأمم القديمة، ويبدو من بعض الآيات أن آثارهم كانت باقية ومعروفة في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم. ولذلك اهتمّ بذكرهم القرآن الكريم، ونبّه الناس على الاعتبار بهم وبعاقبة امرهم، وقوم عاد ونبيهم هود عليه السلام كانوا يعيشون في الاحقاف، وهي منطقة ــ على ما يقال ــ في حضرموت اليمن وقد مر بعض الكلام حولهم في تفسير سورة الاحقاف. وأمّا ثمود فنبيهم صالح عليه السلام وكانوا يعيشون في منطقة بين المدينة والشام على ما يقال. وربما تكون هي ما سمي بالحجر في قوله تعالى (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ)[7] ويحتمل بعض المؤرخين وعلماء الآثار أن تكون جزءً من منطقة وادي القرى وما يعرف اليوم باسم مدائن صالح على الطريق من خيبر إلى تبوك والله العالم. ومهما كان فقصتهم وعقرهم للناقة معروفة ومذكورة في موارد عديدة في الكتاب العزيز. والغالب في موارد ذكرهم في القرآن ان يذكر قوم عاد قبل ثمود لكونهم أسبق كما قال تعالى نقلا عن صالح عليه السلام (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ..)[8] ويبدو ان السبب في التغيير هنا رعاية القوافي.
والمراد بفرعون هو وقومه والمراد باخوان لوط عليه السلام قومه الذين ارسل اليهم والتعبير بالاخ لا يقتضي القرابة ولا كونه من نفس القوم فان القرآن كثيرا ما يعبر عن رسول القوم باخيهم وقد مر بعض الكلام حوله في تفسير قوله تعالى (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ..)[9] وقلنا انه تعبير عن كل نوع من المشاركة والمصاحبة كقوله تعالى (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا)[10] وقوله تعالى (وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا)[11] والتعبير العربي مشحون بذلك كاخي الجهد في شعر امرئ القيس (عشيّة جاوزنا حماة وسيرنا ــ اخو الجهد لا يلوي على من تعذّرا) ويقصد به السير بجهد. وكذلك تعبيرهم باخي الخير واخي الشر ونحو ذلك.
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ... الايكة: الشجر الكثير المُلْتَفّ. او الأجَمة التي فيها السدر والأراك من ناعم الشجر. والمراد بهم قوم شعيب عليه السلام لقوله تعالى (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ).[12]
و(تُبَّع) من ملوك اليمن ويسمون التبابعة والظاهر ان المراد به هنا أحدهم وهو من ذكر في التاريخ باسم أسعد او سعد ابو كرب. وقد ورد ذكره في الروايات وانه ممن بشّر اهل يثرب في عصره بظهور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا البلد وأنه أمرهم وأمر أولاده بمتابعته ونصرته.
روى الصدوق بسند معتبر عن ابي عبد الله عليه السلام قال (ان تبعا قال للاوس والخزرج كونوا ها هنا حتى يخرج هذا النبي اما انا فلو ادركته لخدمته ولخرجت معه).[13]
وروي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن سبّه لانه أسلم وانه اول من كسا الكعبة المعظمة. والمراد باسلامه ايمانه بالله تعالى وبالرسالات. ولعله لذلك لم يرد في الآية تُبّع بل قوم تُبّع وورد مثله ايضا عند ذكرهم في سورة ص.
كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعيدِ... اي كل منهم كذّب الرسل إمّا بمعنى ان كل قوم كذبوا رسولهم فالمراد بالرسل آحاد الرسل في كل قوم او بمعنى ان تكذيبهم لرسولهم تكذيب لكل الرسل فانهم كانوا يُكذّبون الرسالات. والوعيد مضاف الى ياء المتكلم اي فحقّ عليهم وعيدي. وتدل الجملة على ان هناك وعيد عام منه تعالى لكل من كذب الرسل فحق على هؤلاء ذلك الوعيد السابق اي ثبت. والمراد ــ بالطبع ــ القوم الذين ارسل اليهم رسول فكذبوه ولا يشمل تكذيب من لم يروا بينهم رسولا.
أَفَعَيينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ... يعود السياق للاستدلال على المعاد بوجه رابع وهو انه تعالى لم يعجز عن الخلق الاول وهو اغرب وابعد عن العقول فكيف باعادة الخلق وهذا الامر ايضا مما تكرر التنبيه عليه كقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ..)[14] والعيّ ــ بكسر العين ــ بمعنى العجز وقيل انه بمعنى التعب ولكن الظاهر من موارد الاستعمال كما قال بعض اللغويين ان الاعياء بمعنى التعب والعي بمعنى العجز. ووجه الاستدلال واضح فان بدء الخلق لم يكن هناك شيء فأوجد الله الكون من لا شيء وبمحض الارادة فالقادر على ذلك قادر بطريق اولى على اعادة الخلق بعد إفنائه فان الخلق الثاني له اصول وله نماذج وصور في علم الله تعالى.
بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ... الاضراب باعتبار انهم لا ينكرون قدرة الله تعالى على الخلق الاول فهم يعترفون به بل هم في شك واختلاط ولبس من خلق جديد للكون او للانسان وهذا استغراب من انكارهم وكفرهم حيث انهم يعترفون بما هو اهم واصعب وابعد عن العقل ويلتبس عليهم الامر في امكان الخلق الجديد مع كونه اسهل واقرب الى الامكان حسب عقول البشر واما بالنسبة الى ارادة الله تعالى وقدرته فليس هناك سهل واسهل ولا صعب واصعب بل نسبة كل الامور اليه تعالى نسبة واحدة.
[1] يس: 81- 82
[2] الذاريات: 49
[3] النمل: 60
[4] نهج البلاغة الخطبة 82
[5] الاعراف: 172
[6] نهج البلاغة الخطبة 182
[7] الحجر: 80
[8] الاعراف: 74
[9] الاحقاف: 21
[10] الاعراف: 38
[11] الزخرف: 48
[12] الشعراء: 176- 177
[13] كمال الدين وتمام النعمة ص 171
[14] الروم: 27