وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا... تعقيبا على ذكر يوم الحساب في الآية السابقة يتعرض هنا لاثبات المعاد ترسيخا للحكم السابق فأتى عليه بدليلين:
الاول: ما بيّنه في هذه الآية من انه لو لم يكن هناك معاد لكان خلق السماء والارض وما بينهما باطلا، والباطل هو الامر الزائل الذي لا ثبات له، ويقابله الحق وهو الامر الثابت. والمراد به هنا العبث واللّهو واللعب اي ما ليس له غاية وحكمة. وقد تكرر في القران نفي كون الخلق لعبا وعبثا ولهوا.
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) الانبياء: 16، وقال ايضا: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) الدخان: 38-39، وقال ايضا: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون: 115.
والعبث واللّهو واللعب كل ما ليس له غرض وغاية الا نفسه فالذي يلعب ليروّض جسمه، او لينشّط روحه له غاية وحكمة، ولكن الذي يلعب لمجرد ان يكون مشغولا ملتهيا ليس له غرض خارج عن نطاق العمل كلعب الاطفال فهو لهو محض. وهذا بالطبع لا يصدر من الحكيم، فلو لم يكن وراء هذا الكون الزائل غاية وغرض ثابت دائم، والمفروض ان هذا الكون بنفسه ليس ثابتا فالغرض منه ليس الا هذه التغيرات التي ليست الا كتغير أدوات اللعب لا فائدة منها ولا هدف وراءها. واللعب مستحيل على الحكيم.
ذلك ظن الذين كفروا... الظن هو كل عقيدة لا يستند الى منطق ودليل. والكفر هو الستر، ويطلق على الانكار، فالمراد بالذين كفروا هنا قد يكون الذين أنكروا وجود الخالق فأنكروا بالطبع وجود حكمة وتدبير وراء هذا الكون، او الذين أنكروا حكمة الباري وأنكروا أنّ ما صنعه لا بد من ان يكون لحكمة، او الذين أنكروا المعاد كما كان ينكره المشركون في مكة وجزيرة العرب. والظاهر انهم هم المقصودون دائما او غالبا بهذا التعبير (الذين كفروا) في القرآن الكريم. وعليه فالمراد أنّهم بإنكارهم المعاد ينكرون الحكمة في الخلق وان لم ينتبهوا لهذه الملازمة.
فويل للذين كفروا من النار... اي ان النار معدة لمن يكفر باللّه، او يكفر بحكمته وينكرها فالويل لهم يوم يرونها وهم لم يحسبوا له حسابا. واعادة عنوان (الذين كفروا) بدلا عن الضمير للتنبيه على السبب فهم يستحقون النار لكفرهم.
ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار... هذا هو الدليل الثاني. وتوضيحه أنّا نجد أنّ المؤمنين الصالحين في الدنيا يساوون الكافرين والفجار في أنّ رغد العيش وضيقه لديهم يتبع العوامل الطبيعية المتوفرة، والنشاط الفكري والجسمي، وحسن الحظ في كثير من الموارد. ولم يخص اللّه المؤمنين الاخيار بوسيلة اعجازية خارقة للعادة تخصّ بهم وتدرّ عليهم المال، او وسائل العيش، او تدفع عنهم البلاء، او تشفيهم من الامراض، وغير ذلك من حاجات الانسان في الدنيا.
وهذا بالطبع هو مقتضى الحكمة، فان الدنيا دار الابتلاء والامتحان والفتنة، فلو كان اللّه تعالى يخصّ المؤمنين بشيء من ذلك لآمن من في الارض جميعا، ولكنهم ما كانوا يؤمنون طلبا للآخرة وايمانا بالغيب كما هو المقصود، بل للوصول الى الهدف المنشود وهو رغد العيش في الدنيا من اقرب طريق واسهله.
بل نجد في الغالب أنّ وسائل العيش متاحة بوجه اوسع وارغد للكفار والظلمة والطغاة. والسبب فيه يعود الى عدم تورّعهم من كسب المال بأيّ طريقة تمكنوا منها بخلاف المؤمنين المتقين. وهذا الامر اي مساواة المتقين للفجار، بل تأخّرهم في موارد العيش في الدنيا، بل وقوعهم غالبا تحت سطوة الطغاة وظلمهم، لا يليق ايضا بحكمة الباري ورحمته، فلا بدّ من وجود عالم ينال فيه كل احد حقه.
وانما قابل بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الارض ولم يذكر في مقابلهم الكفار كما هو الغالب في موارد المقابلة ليكون الاستشهاد بالمورد الواضح الذي لا يتصور مساواته للمؤمن في المقياس الالهي، ولو ذكر الكافر لأمكن ان يقال بان الكفر بنفسه لا يستلزم التفريق بين الفريقين في الحياة الدنيا، أمّا الذي يفسد في الارض فلزوم التفريق بينه وبين المؤمن الصالح واضح يعترف به الخصم.
ولذلك ايضا قيّد الايمان بالعمل الصالح اذ مجرد كونه مؤمنا لا يقتضي وضوح الفرق، وكم من الطغاة الاشرار يعتبرون في عداد المؤمنين حسب الظاهر.
ثم أبدل التعبير بالمقابلة بين المتقين والفجار، فالمتّقون من أكمل الناس ايمانا واعتقادا وعملا. والتقوى يمنع من جميع المعاصي. والفجّار جمع فاجر من الفجر بمعنى الشق، ومنه الفجر الذي يشقّ الظلام، ويطلق على الفاسق لانه يشقّ ستر الديانة كما في المفردات. او بمعنى التفتّح ويطلق على الفجر لتفتّح الضياء فيه، ويطلق على من تفتّح في المعاصي وارتكب الكبائر والموبقات، كما في معجم مقاييس اللغة، ثم اطلق على كل ميل عن الحق توسعا في الاستعمال.
وعليه فالمقابلة ايضا بين من هو واضح الاستحقاق للاكرام وهم المتقون ومن هو واضح الاستحقاق للعذاب وهم الفجّار بناءا على المعنى الاصلي للفجور حسب المعجم.
ولعلّ تغيير المقابلة الى التعبير الثاني من جهة أنّ عنوان المفسدين في الارض يختصّ بمن يعتدي على الناس او ينشر المفاسد بينهم، وأما الفجّار فيشمل من يرتكب الموبقات الشخصية ايضا.
كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدّبّروا آياته... اي هذا كتاب، والكتاب هو المكتوب اي المجموع، فلا يعتبر ان يكون النازل بصورة كتابة بالمعنى المعروف، وانما هو مجموعة من الآيات.
و(مبارك) من البركة وهي الخير الكثير، وتأتي الكلمة دائما مبنيا للمجهول لأن فاعله هو اللّه تعالى. وفي هذا الكتاب خير كثير للبشر لا غنى لهم عنه، بل كل الخير فيه لانه يحذّر الانسان من الخطر المحدق به في حياته الدائمة الابدية، ويعلّمه ما يجب فعله وتركه ليفوز بالخير الدائم، فلا يعتبر ما عداه من الخير في هذه الدنيا خيرا ان لم يكن معه.
وقوله (ليدّبّروا) في الاصل: (يتدبّروا) وهو تعليل للانزال، فهذا الكتاب انزل لا للقراءة فحسب، بل ليتدبّر الناس آياته. والتدبّر مأخوذ من الدُبُر اي مؤخرة الشيء، والمراد عاقبته ونهايته. ومعنى التدبّر في الآيات النظر في غاية ما يقصد بها من معان دقيقة وعدم الاكتفاء بمعرفة الظاهر.
وليتذكّر اولوا الالباب... التذكّر لا يطلق الا في ما كان الانسان يعلمه فنسيه، ولكن القرآن يطلقه على ما هو مرتكز في فطرته فتناساه لتوغّله في الدنيا ومتابعته للاهواء. والالباب جمع لب، وهو الخالص من كل شيء، والمراد به هنا العقل ولكن لا بمعنى الادراك والفهم، بل بمعنى تحكيم العقل والعمل وفق مقتضياته، وهو الذي يوجب التذكّر لما تقتضيه الفطرة من الايمان باللّه تعالى وباليوم الآخر.
قال العلامة الطباطبائي رحمه اللّه: (والمقابلة بين "ليدّبّروا" و"ليتذكّر اولوا الالباب" تفيد أن المراد بضمير الجمع الناس عامّة. والمعنى هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات والبركات للعامّة والخاصّة ليتدبّره الناس فيهتدوا به أو تتمّ لهم الحجة وليتذكّر به أولو الألباب فيهتدوا إلى الحق باستحضار حجّته وتلقّيها من بيانه..).
والاولى أن يقال: إنّ معنى ذلك أنّ التدبر متوقّع من عامة الناس، لان التدبّر والتعمّق شأن الجميع ولكن التذكّر شأن اولي الالباب خاصة. وليس المراد منهم العلماء كما يوهمه التعبير بالخاصّة في عبارة العلامة، بل المراد كما ذكرنا من يحكّم عقله ولا يتّبع هواه سواء كان من العلماء المعبّر عنهم بالخاصّة او من عامّة الناس.