وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبَغي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْري بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرينَ مُقَرَّنينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
ووهبنا لداود سليمان نعم العبد انه أوّاب... الآية تكرم سليمان النبي عليه السلام وتمجـّده خلافا لما في التوراة من نسبة العدوان والظلم ومتابعة الهوى والشهوات بل الكفر اليه. وقد مرّ أن القرآن مهيمن على الكتب السماوية المحرّفة ومبيّن لأخطائها. ومن هنا يصرّ القرآن الكريم على تمجيد انبياء اللّه وتنزيه ساحتهم عما نسب اليهم مما لا يليق بهم.
والآية تمدحه بأنه نعم العبد، بعد الامتنان على داود عليه السلام بأن اللّه تعالى وهبه هذه النعمة. والعبودية غاية كمال الانسان لانه الهدف الاسمى من خلقه، قال تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون) الذاريات: 56.
ثم علل المدح بكونه أوّابا. والأوّاب مبالغة في الاوبة اي الرجوع، والمراد الرجوع الى اللّه تعالى. وقد مر ان المراد كثرة رجوعه بمجرد اشتغاله بغير ذكر اللّه تعالى فليس كثرة التوبة والاوبة في الانبياء لكثرة الذنوب، اذ ليس ذلك مدحا بل ربما لا تقبل التوبة اذا تكرر الذنب لانها تعتبر كما في الحديث استهزاءا، وانما كثرتها فيهم لاعتبارهم كل توجه الى غيره ابتعادا عن اللّه والتفاتا عنه الى غيره، وهو في ذلك المقام السامي من القرب يعد ذنبا.
وتوجيهه ان الانسان اذا بلغ هذه المرتبة فانه يشعر بحضوره تعالى دائما وباستمرار فكأنه دائما في صلاة وتوجه، فاذا التفت الى غيره تعالى كان كمن التفت في صلاته وهو ذنب فهذا يعتبر للواصلين الى هذه المرتبة ذنبا لا بد فيه من التوبة والاوبة. ولكنه ليس من المحرمات في الشريعة، والأنبياء معصومون من المحرمات الشرعية لا من ذنوب المقربين.
اذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد... الآيات تذكر موضعين من أوبته عليه السلام كمثال لما مر من انه كغيره من الانبياء كان يتوب لمجرد غفلة عن ذكر اللّه تعالى، فالموضع الاول على ما يبدو من الآية انه عليه السلام حينما عرض عليه خيل جياد اشتغل بها وغفل عن ذكر اللّه تعالى.
والجياد جمع جواد يطلق على الفرس الممتاز في العدو، ولعله باعتبار انه يجود بما لديه من قوة، اما لارضاء صاحبه، او لاي غاية لا نعلم بها، فعالم الحيوانات مغيب علينا.
والصافنات من الصفن، يقال ذلك للخيل اذا وقفت على ثلاث قوائم ورفعت احدى يديها وابقتها على حافرها استعدادا للعدو، فهذا مدح لها في حال الوقوف كما ان الجياد مدح في حال الركض.
والعشيّ آخر النهار او اول الليل او كلاهما. والاعتبار يقضي بان يكون المراد هنا آخر النهار اذ يبعد عرض الجياد ليلا. وهو مأخوذ من العشو، وهو عدم الوضوح وهذا ايضا يناسب آخر النهار لا الليل.
و(اذ) ظرف لبيان مورد من موارد الأوبة فيتعلق بقوله أواب. والظاهر ان مشاهدة الخيل بتلك الحال ألهته عن ذكر ربه في آخر النهار وهو أحد اوقات الذكر، قال تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ق: 39.
فقال اني احببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب... (حب الخير) مفعول مطلق لبيان نوع الفعل اي الحب. والمراد بالخير هنا الخيل امّا لانه مال ثمين ويعبّر عن المال بالخير قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ..) البقرة: 180، او لان العرب تعبر عن الخيل بالخير كما قيل.
وضمّن الحب هنا معنى الاعراض فالمعنى اني احببت حب الخير واعرضت بسببه عن ذكر ربي، او ضمّن معنى الالتهاء اي التهيت بها عن ذكر ربي، حتى توارت بالحجاب.
قيل ان ضمير الفاعل في (توارت) يعود الى الشمس المدلول عليها بالعشيّ، حيث كان المفروض ان يذكر ربه قبل الغروب فالتهى بالخيل حتى غربت الشمس وهو بعيد عن اللفظ وان كان قريبا من حيث المعنى والاعتبار. وذلك لبعد دلالة العشي على الشمس، وغرابة التعبير عن الغروب بالتواري بالحجاب.
فالاقرب من حيث اللفظ ان يكون مرجع الضمير الخيل. والمعنى انه استمر ملتهيا بها حتى توارت بالحجاب اي حجبت عنه بدخولها الاصطبل مثلا فلم يمنعه شيء من مشاهدتها الا الاختفاء عن العين. وهذا غاية الالتهاء بالشيء.
فالاوبة هنا هو تنبهه لما حصل. ولعل هنا محذوفا تدل عليه الجملة المذكورة وهو انه عليه السلام قضى ما عليه من الذكر، ثم عاد الى الخيل وطلب ان يردوها عليه، واخذ يمسح سوقها واعناقها عناية بها. ولعل الوجه في هذه العناية انها تساعده في جهاده في سبيل الدعوة فحبها ايضا كان للّه تعالى.
وهنا احتمال آخر لعله اقرب، وهو ان يكون المراد بقوله تعالى (فقال اني احببت حب الخير..) تنبّهه لذلك أثناء العرض وأنه اعرض عنها واشتغل بذكر ربه، ويكون قوله تعالى (حتى توارت بالحجاب) من كلام اللّه سبحانه ويكون غاية لما يفهم من الجملة السابقة اي اعراضه عنها وذكره لربه فالمعنى انه اشتغل بذكر ربه حتى توارت بالحجاب، فلما فرغ عن ذكره قال: ردّوها علي.. وعليه فيكون تنبهه للغفلة عن ذكر ربه اثناء العرض لا بعد تواريها في الحجاب.
هذا ما يمكن ان تحمل عليه الآيات المذكورة دون مساس بعصمة النبي وكرامته، ودون تأويل بارد، او منافاة بين الجمل، او اخذ بالاسرائيليات التي تبدو عليها ــ كما ذكرنا ــ عداء هذه المجموعة من اليهود اي التي وضعت هذه الروايات لداود وسليمان عليهما السلام. واذا راجعت كتب التفسير فستجد ان افضل موقف اتخذه بعضهم هو الامتناع عن تفسير الآية حتى بظاهرها لتجنب متابعة الروايات الواردة بهذا الشأن البعيدة عن الصواب.
واما الذين فسروها تبعا للروايات فمما قالوه انه عليه السلام غفل عن صلاة العصر حتى توارت الشمس اي غربت فقال اني احببت... ثم طلب من الملائكة ان يردوا عليه الشمس فقام للصلاة، وأن وضوءهم كان يشتمل على المسح بالسوق، والاعناق، وان الجمع باعتبار الجماعة حيث توضأ هو واصحابه.
ومن الغريب ان العلامة الطباطبائي رحمه اللّه استقرب ذلك ان ساعده لفظ الآية. مع انه بعيد عن العبارة وفي نفسه ايضا اذ ليس في الآية ذكر للشمس، والنبي لا يطلب من الملائكة ذلك، بل كان عليه ان يدعو ربه فالملائكة لا ينفذون الا امر ربهم. واما حمل المسح المذكور على الوضوء فغريب جدا حتى لو فرض كون وضوئهم كذلك اذ المسح حسب الآية من سليمان عليه السلام فهل كان عليه ان يوضئ اصحابه ؟!!!
ومما قالوه ان المسح كناية عن تسبيلها في سبيل اللّه جازى بذلك نفسه حيث غفل بها عن الصلاة. وفيه مضافا الى استهجان نسبة الغفلة عن الصلاة الى النبي ان هذه الكناية لا مصحح لها من حيث اللفظ والاعتبارات الادبية مضافا الى ما مر من بعد عود الضمير الى الشمس.
ومن ذلك ايضا ان المراد بالمسح ضربها وعقرها وقتلها بذلك. وهو أغرب ما قيل، اذ لا مبرر له وهو اتلاف للمال، والخيل مما يحتاجه الجيش، وكان عليه السلام من المجاهدين في سبيل اللّه. ثم ما ذنب الخيل ان كان هو الغافل عن ذكر ربه؟!
ولعل افضل ما قيل أن المراد بقوله (عن ذكر ربي) ان حبه للخيل ناتج عن ذكر ربه فليس في الآية اي غفلة عن ذكر اللّه تعالى. ولكنه بعيد عن لفظ الآية جدا كما هو واضح مضافا الى ان الآيات بصدد بيان مواقع أوبته الى اللّه تعالى بعد صدور غفلة منه عليه السلام ولا مناسبة في ما ذكر للأوبة.
ولقد فتنا سليمان والقينا على كرسيه جسدا ثم اناب... الكرسي ما يجلس عليه واصله من الكرس اي التلبد والاجتماع كأنّ الجالس عليه يجمع نفسه. والانابة: الرجوع.
والظاهر أن هذه الآية تشير الى مورد آخر من موارد إنابة سليمان عليه السلام وأوبته الى ربه بعد صدور ما لا يناسب مقامه وقربه لدى اللّه سبحانه. ولكن الآية مجملة جدا وهناك روايات تفسر ذلك اقربها الى القبول انه عليه السلام تزوج عدة نساء، وكان يأمل ان يكون له نسل كثير من الذكور يجاهدون في سبيل اللّه تعالى، ولم يطلب ذلك من اللّه، او لم يقل في كلامه (ان شاء اللّه) فلم يرزق بولد بالرغم من كثرة ازواجه، بل القي على كرسيه جسد بلا روح، والجسد لا يطلق على غير الانسان ولا على جسم الانسان الحي، فانتبه لما صدر منه وعلم انه لا سبيل الى كثرة نسله مهما تعددت الازواج ومهما اوتي من قوة، فاناب الى ربه وطلب المغفرة وان يعوضه اللّه عن ذلك بملك يختص به.
وقد ذكرنا سابقا ان الانبياء معصومون من الذنوب التي تعتبر ذنبا حسب التكاليف العامة وليسوا معصومين مما لا يناسب مقامهم وقربهم، وأنّ ذلك يضرّهم وينزّل من مقامهم لولا انابتهم وتوبتهم ومغفرة اللّه لهم. وهذه الامور ربما تكون بالنسبة لغيرهم حسنة، وهي لهم سيئة، كاكثر صلواتنا وعباداتنا فانها حسنات لنا، ولكن اذا صلى نبي بهذه الغفلة والتوجه الى الغير التي هي سمة صلواتنا عادة فانها تعتبر له سيئة توجب تنزله عن مقام قربه.
واما الروايات في هذا الباب فقد تجاوزت الحدّ في نسبة السوء الى النبي بل اشتمل بعضها على خرافات من قبيل قصص الف ليلة وليلة.
فمنها انه ولد له ولد فخاف عليه من مردة الجن، فامر به ان يحفظ ويرضع في السحاب، فالقاه اللّه جثة هامدة على كرسيه.
ومنها ما ورد في روايات كثيرة عن طرق العامة بوجوه مختلفة ان ملكه كان بسبب خاتمه، فاحتال احد الشياطين واخذه منه، فانتقل ملكه الى الشيطان وتسلط الشيطان على ملكه اياما الى ان اعاد اللّه الخاتم اليه، وان المراد بالجسد هو ذلك الشيطان. و في هذه الروايات اكاذيب وخرافات كثيرة فليراجع كتبهم، وفي بعضها يتصل السند الى كعب الاحبار اليهودي مما يدل على المصدر الاساس لها.
قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي انك انت الوهاب... تبيّن ممّا مرّ أنّ هذا الدعاء انما دعا به سليمان عليه السلام بعد الفتنة والانابة، وتبيّن أنّ الانبياء بالاستغفار يزيلون أثر ما صدر منهم من خطأ بلحاظ مقامهم السامي. ثم دعا لنفسه بان يهبه اللّه ملكا لا ينبغي لاحد من بعده.
قالوا: المراد بقوله (من بعدي) اي غيري كقوله تعالى (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) يونس: 32.
وعلل عليه السلام طلبه بان اللّه تعالى وهّاب اي كثير الهبات، والهبة هو العطاء من دون عوض، وكل ما في الكون من خير عطاء من اللّه تعالى وكلّه بلا عوض فان كل عوض ايضا منه تعالى وتقدّس.
وربما يتساءل: لماذا طلب الاختصاص ونفيه عن غيره؟ أليس هذا بخلا ينبغي ان يجلّ عنه ساحة الانبياء؟
واجيب بوجوه بعضها ضعيفة لا نتعرض لها وبعضها لا باس بها.
منها جواب العلامة الطباطبائي رحمه اللّه وهو انه سأل ملكا يختص به ولم يطلب منع غيره وحرمانه، وهناك فرق بين ان يسأل ملكا اختصاصيا وأن يسال الاختصاص بملك اُوتيه.
والانصاف انه لا فرق بينهما ومجرد هذا التفكيك لا يحل المشكل، فان سؤال ملك يختص به يعود الى طلب امرين ملكا واختصاصا والاشكال في الثاني.
وقيل: إنّ هذا التعبير كناية عن كون هذا الملك أمرا عظيما وممتازا ولا يقصد به الاختصاص، نظير ما يقال ان فلانا اوتي من الحكمة ما لم يؤت احد مثله.
ولعل أفضل ما قيل في الباب هو انه طلب معجزا من اللّه تعالى يكون آية لنبوته، والاعجاز لكل نبي بما يناسب شأنه فمعجز موسى عليه السلام ما جارى به سحر السحرة وغلبهم، ومعجز عيسى عليه السلام جارى به الاطباء حيث كثروا في زمانه فأبرأ الاكمه والابرص، ومعجز نبينا صلى اللّه عليه واله وسلم جارى به الادباء والشعراء وهكذا...
وحيث كان سليمان عليه السلام وارثا لملك ابيه وكان يجاري الملوك والجبابرة طلب من اللّه ملكا يشتمل على اعجاز لتكون آية لنبوته فعدم جوازه لغيره من جهة كونه آية وإعجازا فسخّر اللّه له الريح والجنّ وعلّمه منطق الطير.
ويشهد له انه عليه السلام لم يطلب اختصاصا ولا ملكا يختص به بل ملكا لا ينبغي في حد ذاته ان يتكرر، وهذه صفة تعود الى الملك في حد ذاته، وهو كذلك فان سلطته على الريح والجن والطير لا يمكن ان تتحقق لاحد بصورة طبيعية، فالمراد ليس عدم موهبة اللّه لغيره بل عدم امكانه لغيره بصورة طبيعية، وهو معنى الاعجاز.
ويمكن ان يقال ان طلب الاختصاص والامتياز من اللّه تعالى ليس مذموما بل هو ممدوح، ويدلّ ذلك على غاية قربه لدى اللّه سبحانه، فكل مقرب يحاول ان يحصل على امتياز يدلّ على مكانته لديه تعالى، فهو لم ينظر الى الملك بما أنه أمر دنيوي بل بما انه موهبة خاصة من اللّه سبحانه تدلّ على اختصاصه بمنزلة من الزلفى لديه تعالى. وهذه المنزلة لا ينالها الانسان الا بحبّه وتفانيه واخلاصه للّه تعالى، وكلما زاد حبه زاد لديه قربا ومنزلة، وهذا الحب هو النعمة الكبرى الذي من اُوتيه لا يهمّه أن يؤتى شيئا غيره، ولا يفهمه ويدرك عظمته الا من ذاقه. ومجرد الاطراء والتوصيف لا يدل على التذوق فربما يعلم الانسان مميزات فاكهة ولكنه لم يذقها، فليس شأن من يعلم ذلك كشأن من ذاقه وان لم يعلم خصائصه.
فسخّرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب... هذا بيان لاستجابة دعائه عليه السلام وما آتاه اللّه سبحانه من ملك لا يتكرر لغيره، فاحدها تسخير الريح له تجري بامره حيث يشاء. وقوله (أصاب) اي قصد. وذلك من دون شدّة تؤذيه بل تجري رخاءا. والريح الرخاء: اللينة السريعة كما في العين. وهي في نفس الوقت قوية وسريعة وعاصفة كما قال تعالى: (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْري بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتي بارَكْنا فيها...) الانبياء:81.
وبذلك يندفع ما يتراءى من التنافي فان العاصفة هي الريح الشديدة وهي تنافي الرخوة المذكورة هنا، ويرتفع التنافي بانها قوية عاصفة ولكنها لا تؤذي سليمان عليه السلام ومن معه.
و يمكن رفع التنافي ايضا بان الرخاء بمعنى كونها سهلة مطيعة كما يدل على ذلك قوله تعالى (تجري بأمره) فلا ينافي السرعة. وجريانه بأمره معنى آخر غير التسخير له.
كما يمكن الرفع ايضا باختلاف موارده فقد تكون عاصفة وقد تكون لينة. ويؤيده ان الرخاء هنا مذكور في كل جهة قصدها، والعاصفة انما ذكرت في سفره الى بيت المقدس كما في سورة الانبياء فانه هو المقصود بالارض التي بارك اللّه فيها. ولعل السرعة كانت مطلوبة لديه في تلك الاسفار خاصة.
هذا ولكن الوارد في سورة سبأ هو السرعة مطلقا قال تعالى: (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ..) سبأ: 12، اي كانت تسير في الصباح مسيرة شهر وفي المساء ايضا تعود مسيرة شهر وعليه فالتوجيه الاول اولى وبعده الثاني.
والشياطين كل بناء وغواص... اي وسخرنا له الشياطين. والشيطان ماخوذ من الشطن، اي البعد لبعد الشيطان عن رحمة اللّه تعالى نتيجة كونه شرّيرا، او لبعده عن الحق. ويطلق على شرار الانس والجن، او ماخوذ من شاط اي ذهب وبطل، يقال اشاط السلطان دم فلان اي جعله هدرا ولذلك يطلق على ما احترق انه شاط. ولعل اطلاقه على الجن لكونهم مخلوقين من النار. والاول اقرب.
وعلى كل حال فالمراد بهم هنا مردة الجن سخرهم اللّه تعالى له يعملون بأمره، ثم بيّن أنّهم ثلاثة أقسام فذكر في هذه الآية قسمين منهم، فمنهم البنّاءون الذين بنوا له القصور والمعابد وغيرها، ومنهم الغوّاصون الذين كانوا يستخرجون له اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك.
وآخرين مقرّنين في الاصفاد... ومنهم محبوسون مقيّدون في الأغلال. والظاهر انهم ايضا كانوا يعملون ولكن لكثرة شرّهم قيّدوا بالاغلال. والأصفاد جمع صَفَد وهو القيد او خصوص الجامعة، اي ما تُغـلّ به الايدي و تربط بالعنق. ومهما كان فالمراد بها هنا ما يناسب الشياطين سواء كانوا اجساما او ارواحا. والقَرن هو الجمع، قرن الشيء بالشيء اي جمع بينهما، والتشديد يفيد الكثرة او شدّة التقييد.
وقد ورد ذكرهم في سورة الانبياء ايضا قال تعالى: (وَمِنَ الشَّياطينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظين) الانبياء: 82، فتدلّ الآية على أنّ التسخير كان لبعض الشياطين لا كلهم لمكان (من) التبعيضية، وأنّهم جميعا كانوا تحت الحفظ وان لم يكونوا كلهم مقرنين بالاصفاد، فمعنى حفظهم منعهم من التهرب وعصيان اوامره عليه السلام.
ومثلها في المفاد قوله تعالى: (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ..) سبأ: 12ـ13.
هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير حساب... (هذا) اشارة الى ما آتاه اللّه تعالى من الملك. والظاهر أنّ الآية في مقام بيان نعمة اخرى مما أنعم اللّه به عليه، وهو كثرة امواله، فكان يعطي منها ما يشاء لمن يشاء.
وتخييره بين المنة ــ اي العطاء ــ والامساك كناية عن هذه الكثرة، وليس لبيان انه مخير شرعا كما يتوهم.
وقوله (بغير حساب) ايضا يحتمل ذلك فالمعنى انك من كثرة المال بحيث يمكنك العطاء الكثير من دون محاسبة. ويبعد جدا كونه متعلقا لأوّل الجملة اي ان هذا عطاؤنا بغير حساب.
وابعد منه القول بان المراد عدم المحاسبة في الآخرة على اعطائه وامساكه.
وان له عندنا لزلفى وحسن مآب... في آخر المطاف يردّ على كل المحاولات الاثيمة للتنقيص من كرامة الانبياء عليهم السلام، سواء في الكتب المحرفة او في الروايات الموضوعة التي تشتمل على ان ملك سليمان عليه السلام ينزّل من مقامه عند اللّه، وأنّه يحاسب يوم القيامة، وأنّه آخر الانبياء دخولا الى الجنة، ناهيك عن ما ورد من إلصاق التهم الشنيعة التي لا تليق بمؤمن فضلا عن المعصوم. فيردّ على كل ذلك بالتأكيد والقسم على ان له عند اللّه تعالى زلفى اي درجة وقربا ــ والتنكير للتعظيم ــ وانه يرجع اليه باحسن وجه. والمآب مصدر ميمي من الاوبة اي الرجوع.
وقد مرّ أن ملكه عليه السلام كان معجزة نبوته وقد ورد في الروايات أن حياته الشخصية كانت حياة زهد وتقشف وأنه كان يكتسب لمؤونته الشخصية بكدّ يمينه ولا يأكل من بيت المال وانما كانت تلك القصور ومظاهر البذخ لمواجهة الملوك والامراء.